Print
رامي فارس أسعد

حبك لي كالعمر يأتي مرة ولا يتكرر

3 أكتوبر 2019
قص
أسند رأسه على حافة السرير وراح ينظر ساهماً نحو النافذة وما وراءها. لم يتصور يوماً أن الأقدار ستلفظه كالنواة وترميه كسجين في إحدى غرف المبنى الكئيب كما كان يطلق عليه سابقاً عندما يمرّ من جانبه.

الليل يرخي سدوله على المكان، يخيم الظلام على عناصر المكان والفضاء، المطر ينهمر في الخارج بغزارة، قطراته تدق باستمرار على زجاج النافذة، مقطوعة شوبان (سمفونية الخريف) تنساب في فضاء الغرفة الغارقة في الظلام، تتدفق أنغامها بعذوبة من جهاز تسجيل قديم موضوع بالقرب منه مستسلماً لأفكار تداعب عقله المتعب من سيل الاسئلة.
استرجع في مخيلته كيف كان يقضي أوقاته في انتظارها عند شجرة السنديان، الشجرة التي كانت شاهدهما الوحيد على حب لم يتخيله يوماً.
عندما يعصف به الشوق يذهب الى حيث السنديانة الباسقة يتلمس غصنها، يعانقها، يقبلها، ينظر إليها، تنهمر الدموع على وجهه بغزارة. يستعيد في مخيلته صورهما عندما كانا يغرقان في عناق طويل وهما مستندان على جذع السنديانة. أين هي الآن، ما الذي حل بها؟... نفس الأسئلة تتكرر وتضغط عليه بإجابة هو نفسه لا يعرفها.
افترقا آخر مرة على أمل لقاء قريب، لم يدر في مخيلته أن ذلك اللقاء سيكون الأخير. حل موعد اللقاء، ذهب ولم تأت هي، وقف تحت ظل السنديانة منتظراً الساعات حتى حل الظلام أخيراً، عاد بعدها إلى حيث مسكنه البائس والألم والأسى يعتصره عصرا. تذكر مرارة الخيبة التي كان تجرعها مراراً عندما يحين موعد اللقاء الأسبوعي ويذهب وهو يعلم أنها لن تأتي، رغم الأمل الضعيف الذي كان يتسلح به. ما الذي جرى لها ولماذا لم تأت، هل أصابها مكروه، هل كفت عن حبه وفضلت الانسحاب دون ضجة وهي التي تكرر دائما... "حبك لي كالعمر يأتي مرة ولا يتكرر"؟
تذكر محاولاته اليائسة للعثور عليها فهو لم يعرف لها عنواناً. عندما التقيا أول مرة قالت له.. لا تحاول الحصول على عنواني، كل أسبوع تنتظرني عند تلك الشجرة، وأشارت بيدها نحو شجرة سنديانة شامخة، ستجدني هناك بانتظارك. كانا يلتقيان يوما واحدا من كل أسبوع، كان لذلك اليوم طقوسه الخاصة بالنسبة إليه. عندما تحين الساعة يسرع خطاه إلى حيث السنديانة، يلمحها من بعيد، وقلبه يكاد يخرج من بين أضلاعه، يتمنى لو يختصر تلك المسافة بقفزة واحدة ليحتضنها ويبثها أشواقه ولواعجه ويضع رأسه المثقل بالهموم على صدرها الدافئ الحنون.
تنهد بعمق، أين هي الآن؟  تذكر قبلته الأولى التي طبعها على شفتيها الورديتين وابتسامتها الخجولة التي كانت تداري بها الارتباك الذي بدا واضحا على محياها. ذات مرة اشترى جهاز تسجيل صغيراً وبعض شرائط صوتية لمجموعة من مقطوعات شوبان، عندما يلتقيان كان يضع الشريط داخل الجهاز لتنساب بعدها الموسيقى الساحرة، أنغام تضفي على المكان جوا شاعرياً، كانا يستمعان إليها بشغف وهو يمسد شعرها الحريري الأشقر الذي ينساب بين أصابعه بسهولة، يشمه، يقبله، يضع رأسها على صدره يحيطها بين ذراعيه ويهمس لها: أحبك.
عندما يتحدث عنها أمام أصدقائه كانوا يأخذون كلامه على محمل السخرية ويتهامسون أحيانا فيما بينهم، حتى أن أحدهم قال له: إنك تعيش في الأوهام، عن أية حبيبة تتكلم، ومنذ متى وأنت تعيش تفاصيل علاقة غرامية، أكثر من مرة رأيناك فيها وأنت تقف أمام شجرة تثرثر لوحدك وكأنك تكلم أحداً يقف أمامك.
ارتاب الأهل من تصرفاته، يدخل غرفته ولا يخرج منها إلا نادراً وتحديداً يوما واحدا في الأسبوع، يسمعونه وهو يتكلم بصوت خافت وكأنه يكلم شخص ما وأحياناً كان يبكي بحرقة، وعندما أطلعهم على قصته مع محبوبته وأنه لا يعرف لها رقماً أو عنواناً لم يصدقه أحدهم وبدأوا يشعرون بالخوف من ذلك الابن الذي كان يقف على مسافة قريبة من الجنون. منذ لحظة اختفائها الغامض من حياته انتابه شعور قاس بالوحدة والضعف وبأنه إنسان مشرد لا وطن يؤويه ولا أهل يحتضنونه ولا أصدقاء يركن إليهم لأنها كانت وطنه وأهله وأصدقاءه.
كان شاخصاً ببصره نحو النافذة يراقب حبات المطر المتساقطة عندما اقتحم عليه الغرفة شخص يرتدي اللباس الأبيض وبيده حقنة يشير بها نحوه وابتسامة خبيثة تعلو محياه. نظر هو نحوه برعب، حاول الحركة لكنه كان يشعر بعجز مطبق، عجز يسيطر على كافة أطراف جسده. اقترب منه الرجل، أمسك بإحدى يديه وراح يضغط عليها بقوة ويمعن النظر حتى عثر على الوريد المناسب ليدفع بمحتويات الحقنة، شعر للحظات أن قواه الجسدية تنهار تدريجيا ليغرق بعدها في لجة النوم العميق.
قال الشخص مع نفسه قبل أن يرمي الحقنة في سلة المهملات ويغادر الغرفة: كان هادئا هذه المرة، لم يبد مقاومة، يبدو أن الفضل يعود لعلاج الصدمات الكهربائية. كم أنت على حق يا دكتور.

*كاتب من العراق