Print
كمال عبد اللطيف

هيا بنا نرقـص (2)

31 أغسطس 2018
سير

 

 

                كمال عبد اللطيف

 

1 - أثار سؤال رجلي اليمنى عن سكوتي عمَّا أصابها، أثار في ذهني شجوناً عديدةً، وجعلني أدرك أن قدرتي اليوم على الوقوف، والمشي البطيء والمتعثر أحيانا دون سقوط، يعد مكسباً لا يمكن الاستهانة به. لكن عندما أتأمل وأقارن بين ما كنت عليه قبل المصاب، وما أصبحت عليه بعده، ينتابني  شعور باستمرار الحال على حالها. وكما نعرف، فإن أمور الصحة والمرض تُعَدُّ دائما نسبية. وينبغي أن نُعوِّدَ النفس على النظر إليها من هذه الزاوية بالذات، لعلنا نريح أنفسنا من عناء لا طائل من ورائه ..

  وضعني السؤال  أمام أمرٍ كنت أخفيه على نفسي، فقد تذكرت بعد العطب الذي أصبت به، رغبتي القديمة في أن أكون راقصاً محترفاً، لإعجابي الكبير بقدرات الذين يتقنون فنون الرقص.. كما تذكرت أنني كنت أنظر بعين الرضا للرقص وللراقصين.. ولعلنا نعرف جميعاً أن قاعدة الرقص الكبرى، تتحدَّد في الوقوف على الأرجل، و قدرة هذه الأخيرة على التحكم في الجسد، الأمر الذي يُمكِّن كل زواياه، من ممارسة أشكال من الحركة المتنوعة بالوقوف والحركة، ثم الحركة والوقوف، والانحناء والتمايل ذات اليمين وذات الشمال، إضافة إلى الانحناء في اتجاه الأمام والانكفاء المتسق نحو الخلف، دون إغفال انعطافات الوسط وتمايلاتها، الأمر الذي يُسعف أعضاء الجسم من رسم ايقاعات مفصِحَة بالحركة دون كلمات.. ولهذا يُوظِّف الفعلُ الراقص زوايا معينة في الجسم، لأداء أشكالٍ من الحركة المتسقة والمرتبة بعناية، والصانعة في الوقت نفسه، لصوَّر وأشكال تفيض رقة وجمالاً..

 تمارس الأرجل أثناء الرقص وظائف مركبة ومتنوعة، شبيهة بمنتوج  الشطح لحظات الذِّكر الصوفي، الشَّطح الجماعي الذي يُحوِّل بعض عبارات الصوفية إلى كلمات متطايرة ومضيئة، إلى حدوس ملتقِطة لمكنونات  وحركات لا نعثر عليها في المتون المرسلة بالكلام.

نحن هنا نتحدث بشكل عام عن الرقص، حيث يعرف اليوم سِجِلَّ فنونه مدارس وتيارات عديدة، وينفتح في الآن نفسه، على إيقاعات لا حصر لها.. ولعله ينفتح أيضاً، على نوعٍ من اللياقة البدنية، التي لا تحصل إلا بفضل الرياضات، التي تعيد بناء التركيب العضلي للجسم. ولأنني كنت دائماً أحس بتقدير كبير لكفاءة من يرقصون، فقد تضاعف هذا التقدير لحظات إصابتي بالعجز عن الوقوف والحركة. وفي لحظة التداعي التي جعلتني أقرن الرقص بالمشي والمشي بالرقص، وأقرن المجاهدة الصوفية بطقوس الحركة الساعية إلى مَقامَ القُرْب، في هذه اللحظة بالذات، تذكرت شارلي شابلن، كما تذكرت الممثل البريطاني المعروف مِسْتَرْ بِينْ، وهما معاً يتمتعان في ذاكرتي السينمائية بمكانة عظيمة، لما تتميز به أعمالهما من قيمة فنية عالية، ولما تتميز به من طرق خاصة في المشي والجري والحركة.. ويمكن أن أضيف إليهما اسم المغني الشهير مايكل جاكسون، الذي أبدع صوَّراُ جديدة في الرقص والحركات الراقصة، وهو يملأ صالات الغناء في أمريكا وفي العالم..

تذكرت كل ذلك، بحكم أشكال النقص التي أحسست بها نتيجة ما أصاب طريقة سيري من ارتباك، تذكرت قدرتهم العجيبة في مجال توظيف الرجلين، وجعل حركة المشي والإيقاع مطابقة لشخصية كل منهم.  فحاولت استرجاع تفاصيل حركاتهم في المشي، في لحظات القيام بأدوار ومشاهد تمثيلية، أو رقصات بعينها، حيث يستحيل القيام بهذه الحركات دون حركة الرجلين واليدين، بل لنقل حركة الحاجبين والعينين والرأس ووسط الجسم، بل ومختلف أبعاده الأخرى.

 كانت طريقة مشي شارلي شابلن في أفلامه الصامتة، تعبر عن مفارقات ومقالب، صانعةً للمعنى والدلالة في الصوَّر ومتوالياتها داخل الخطاب السينمائي، المنسوج بحركة السقوط والوقوف والجري والابتسام، في اللحظات التي يحضر فيها بجوار أشخاص آخرين يدورون في فلكه، قصد تهييء ما يسمح له بالحركة الهاربة والمصحوبة بابتسامة ماكرة، أو حصول سقوطٍ تليه قدرة عجيبة على الوقوف، ثم السقوط من جديد..

أما شخصية مستر بِينْ الفيلمية، وهو يتحرك راقصاً في مغامراته المعتمدة على  طريقته الخاصة في المشي واللباس والحركة. ففي فيلمه "استراحة على العشب"، يقدم لقطات يتجه فيها لمواجهة حشرة طائرة، مستخدماً مقومات الفعل المليء بالحركة والغضب والابتسامة والجري.. ويقدم في فيلميه "مغامرات مِيسترْ بِينْ"، و"عُطلة مِيسْتََرْ بِينْ"، مقاطع متلاحقة  من فيلم واحد، شخصيته الأساس تتمثَّل في حركة سيره، أما الشخصيات الأخرى المرتبطة به داخل الفيلمين المذكورين، فترتبط بحركاته وسكناته، انحناءاته وابتساماته وغضبه.. وفي كل هذه الأحوال، يقف أمامنا رجل يمشي راقصا ويرقص ماشياً.. هكذا بدا لي الآن مِسْتَرْ بِينْ، وقد أصبحت أفتقد القدرة على المشي، الذي أتصور أنه وحده من يتيح للاختفاء والظهور، إيقاعات الفعل الراقص. أما مايكل جاكسون فقد قدم سنة 1985 على خشبة أحد المسارح رقصته التي تسمى "مشية القمر"، وهي رقصة  يتحرك فيها بقدميه نحو الخلف، ويصاحبها برفع الكتفين الأيمن أولاً، ثم الكتف الأيسر مع تحريك الركبتين، ويُرافق الحركات التي ذكرنا بانحناءةٍ يقترب فيها جسمه من الأرض، ثم انتصاب يستعيد فيه اتساق جسمه.. وقد حقَّقت مشية القمر نجاحاً لا مثيل له، بحكم ما عكسته من مرونة في الجسم وما يرافقها من إيقاعات ..

 دفعني التفكير في طريقة سيري إلى التفكير في الرقص، وفي الايحاءات المقرونة باعمال من ذكرت من الفنانين. ومن مِنَّا يُنْكر أن في المشي علامات كثيرة متصلة بالرقص، ونحن حينما نقول إن الذين يتحركون مشياً يسيرون، فإنهم في حقيقة الأمر يرقصون. وعلينا ابتداء من الآن، أن ننتبه ونتأمل في ضوء ما سبق، حركة السائرين في الشوارع والأزقة داخل المدن والقرى، فهم بكل بساطة يرقصون.

2 - تذكرت في غمرة العطب الذي لحق رجلي وحركة سيري، إعجابي بمختلف أشكال الرقص التي أنتجتها البشرية في التاريخ، من الرقص الشعبي إلى الرقص المعاصر بأنماطه المختلفة. وقد كان هذا الإعجاب يفوق أحياناً، درجات افْتِتَانِي بفنون الكتابة والسينما والتشكيل. حيث يستوعب الفعل الراقص لحظات إبداع قوية متسقة ومركبة، لحظات تحمل العديد من مآثر الفنون الأخرى. وقد تعلمت بحكم التجربة وجود علاقة قوية بين الجسم السليم والحركة الفنية في فعل الرقص، بل أدركت أن الذين يرقصون جيداً، يمارسون عمليات عجيبة ومثيرة في طريقة تحريك الأطراف وَطَيِّها، وبأشكال متنوعة ومتوازنة، وهم يتمتعون في الأغلب الأعم بكثير من الرشاقة. وقد أدركت أن المواقف الرافضة، التي يتخذها البعض اليوم من فن الرقص، تحت مسميات مختلفة، تعبر عن عدم قدرتهم على إدراك الأبعاد الفنية والجمالية، التي يستوعبها الفعل الراقص، وهي الأبعاد التي تشكل الأرضية المحايثة لمختلف التعبيرات الفنية، ومن بينها الرقص في جميع أشكاله وتجلياته.

تكشف العناية الكبيرة التي أصبحت توليها بعض المجتمعات اليوم، لطقوس الرقص الجماعي، نوعية الوعي الجديد بفنون الرقص، وبالأدوار التي يُمارسها في مجال تعزيز دوائر الجمال في الحياة. ويعد انخراط بعض المجتمعات في الحفلات الراقصة في مواسم معينة، وعلى هامش مناسبات وأعياد، عنواناً كبيراً لمزايا الاهتمام الجديد بالجسد، في أبعاده الجمالية اللامحدودة.

ازددت اقتناعاً بهذا، عندما انتبهت إلى أن حركة الأزهار والأشجار ومختلف النباتات على وجه البسيطة، وكذا حركة الأسماك في المحيطات والأنهار، والطيور والفراشات في السماء، تشير خلال مراحل تشكلها وتطورها إلى ما يعادل  الفعل الراقص، بكل ما يحمله من صور وتموجات وألوان وأنغام، ففي نمو النبات وتفتح الورود واستطالة الشجر، وانفلات الأسماك داخل حركة الموج وفي أعماق البحار، سمات مطابقة لمواصفات الفعل الراقص في أبهى تجلياته.  كما أن طيران الفراشات والطيور المعتمد على حركة مَدِّ الأجنحة الملونة وطيها، ما يعادل فعل التمايل المتسق للأداء الراقص، وهما معاً يرتبطان في الآن نفسه، بتعابير الزهو والغبطة والانتشاء.

استعدت ما سبق من صور في ذهني، وتذكرت أنني كنت دائما أحلم بأن أكون راقصاً، وقد كنت أرقص فعلاً عندما تتاح لي الفرصة لذلك، كما كنت أرقص ذهنياً، عندما أجد صعوبة في ولوج بعض حلبات الرقص، متخيلاً نفسي قادراً على تملك مُتع عديدة لا تتاح في العادة إلا لمن يرقصون.. كما كنت أحرص على قضاء وقت طويل داخل الساحات العمومية المخصصة للحفلات الراقصة، مشاهداً ومنفعلاً بالحركات المنتشية أمامي.. وقد أدركت في زمن لاحق، أن الرقص أصبح سهلاً في المراقص العمومية بفعل تقنيات الإضاءة، التي تشكل اليوم في حلبات المراقص، فضاءً صانعاً لجمالية أمكنة الرقص، حيث تغمر الراقصين ألوان مختلفة ومتداخلة، بل وصانعة لحركة قد لا تكون فعلية. فلا يدري الرائي، هل يرى حركة الراقص، أم حركة الواقف دون حركة، وقد عَبَرت جسمه أشعة الأضواء الملونة مخترقةً طُوله، ومُضْفِية عليه ما يشير إلى الحركة دون حركة، وما يشير إلى فعل الرقص، المترتِّب عن فعل إضاءةٍ صانعة لطيفٍ راقص.. وفي مختلف هذه الحالات، فإن المشهد العام للراقصين داخل المراقص والساحات العمومية، يخفى آثار الذين يرقصون والذين يكتفون بظلال الرقص الجماعي.

 

ð         ð         ð

 

أصبح أمر استعادة المشي والحركة بصورة تامة، بعد مرور عقد كامل على الوهن الذي لحقني، يُعادل طموحي في أن أبلغ درجة التحسن، التي تُمكنني من الانخراط مجدَّداً في الرقص، سواء في الأفراح أو في الساحات العمومية، حيث أصبحت تُعَمَّم ظاهرة تنظيم المهرجانات الراقصة، فاتحة أوراشاً عمومية في الرقص الجماعي، الذي يشكل اليوم في كثير من المجتمعات، متنفَّساً يتيح لمن يمارسونه في الفضاء العام داخل المدن والقرى، فرصة  للتعبير عن أفراحهم والتخلص مؤقتاً من أعباء اليومي ورتابته.

أتطلع وأنا أفكر اليوم في طبيعة حركة سيري، أن تصبح طريقتي في المشي مثل الآخرين مُنَاسَبَةً ليس للمشي وحدَه، بل للرقص أيضاً. صحيح أن قواعد تسمية الحركات في الأجسام، تشير إلى أن المشي مشي، وأن الرقص رقص.. إلا أنني تأكدت أن الذين يمشون يرقصون، وأن الشوارع مليئة بحركات رقصٍ جماعي لا تتوقف ولا تنقطع، وأن موج البحر يمارس بدوره فعلاً راقصاً، يماثل في رقته وأناقته فِعلَ تمايلِِ الأزهار والفراشات في الحقول.. فمتى أَلْتحق راقصاً بالسائرين الذين يرقصون في الساحات العمومية؟ وهل سيتحقق المراد، وأستعيد طريقتي الأولى في المشي، لأنخرط ثانية في ملحمة الرقص الجماعي التي تنتظرني؟.