Print
فتحية الصقري

أُحَدِّق في الشاشة الكبيرة للعالم، وأكلِّم نفسي

16 أغسطس 2018
يوميات

كمن تنبّه فجأة، كمن عادت إليه قدرة منهوبة على الوقوف والنظر للأمام؛ أفتح للصباح باب الكلام والغناء لسمائه وعصافيره وشمسه الناعسة، ثم أردُّ لنفسي أسئلةً سقطت من سلَّة البارحة، هل أنتِ بخير؟ هل أنتِ فعلاً على قيد الحياة؟ تلمسين وجهك، شفتيك، أذنيك، تراقبين خطواتك، مشْيَك الخفيف على بلاط الغرفة البارد، وتضحكين. على الأقل يمكنكِ الذهاب إلى المطبخ لتحضير الشاي، يمكنكِ أيضا تناوله بجانب نافذة مفتوحة، مع خلفية موسيقية، من تأليف كائنات الصباح الودودة، ويمكنك غرس "وحده الأبديّ لون العصافير"* في قلبك إلى الأبد، مثل زهرة متفتِّحة، أليست هذه هي السعادة؟ تعرفين، لكنك لا تستطيعين التخلُّص من أطنان النفايات التي تهدِّد استقرار روحك، لا تستطيعين قتل الغضب الذي يأكل معدتك، ويحوِّل دماغك إلى مصنع ديناميت، لا تملكين أيَّ وسيلة متاحة وسهلة؛ لإقناع الهدوء بالعدول عن فكرة الانتحار، في زمن الخوف والقلق والرعب والغثيان، في زمن يدفعكَ، بكلِّ ما فيه، لأن تصبح نسخة ملطّخة بالخبث والشرّ، في زمن يجبرك أن ترتدي ثيابًا ووجوهًا لا تناسبك، أو تهرول عاريًا في الطرقات، مثل مجنون هارب من مصحَّة. ثم تَرُدِّين لنفسك السؤال السخيف، مرَّة أخرى: لماذا كلُّ هذا التفكير في أشياء كبيرة ومعقَّدة، لا يمكن إصلاحها بسهولة؟ لماذا يجلب المرء لنفسه كلَّ هذه المشقَّة؛ لتفكيك لغز الحرب الكبرى والسقوط المدويِّ؟ تهربين بالاتصال بصديقة لا تردُّ على الهاتف، تهربين بالذهاب للتسوُّق، تهربين بالبحث عن كلِّ ما يخصُّ نجومك المفضَّلين في السينما والموسيقى والغناء والشعر والرسم والتصوير، كأن الحمَّى ستزول فورًا، وألم المعدة سيختفي، تهربين مرارًا إلى مناطق بعيدة، لكنك في الواقع مزروعة في منتصف الساحة، مثل شجرة مَنْسيَّة في حقل مهجور، تقرأ ما تكتبه الريح، وما تقوله الأمطار الغزيرة، تصرخين (أب، أم، أخ، أخت، صديق، حبيب، وطن) إلى أن تسقطي وسط الثمار الناضجة الليِّنة، كلطخة لزجة، في تربة جافَّة وصُلبة، تصرخين، حتى يصير النهار ليلًا، والليل صباحا، وقلبك بيتًا للغبار والصدى والأشلاء المتناثرة.

تكبرين بسرعة وسط الزحام، تكبرين، وتصيرين أكثر هشاشة، وأنت تشاهدين كلمات القوة والثبات والشجاعة، المسجَّلة في دفتر حياتك الضخم بتواقيع مختلفة، تشاهدينها تتهشَّم أمامك، دفعة واحدة، انهضي، انهضي، انهضي، تقولين، أنت قويَّة فعلاً للدرجة التي لا يستوعبها كائن عادي، يعيش متنعِّمًا بكلِّ الشهوات والملذَّات في الدنيا، بلا أسئلة، انهضي، قفي مستقيمة، وانظري في المرآة، انظري كما لو كنت تشاهدين بحرًا، لأوَّل مرة، دعي الأمواج الهائجة، فكِّري في التدرُّج اللوني في الأعماق المليئة بالكائنات، والأشجار الملوَّنة، وحطام السفن التي صارت بيتًا للأسماك، فكِّري في انتشال صوتك الضائع مع التيَّارات الباردة المتوزِّعة في الأنحاء، ضعي قليلا من المكياج، ومن عطرك المفضَّل، اضغطي على زرِّ مشغِّل الموسيقى، دعي الأكسجين يتسرَّب داخل عروقك، قولي أيَّ شيء يدور في بالك، الآن: (ما نراه اليوم يصبح شيئًا آخر في اليوم التالي، الألفة مثلا يمكن أن تتحوَّل في أيِّ لحظة إلى حيوان مفترس، والذين يصفِّقون لك اليوم سيصبحون أعداءك غدًا، الذين أحبُّوك لسبب ما لا تعرفه يتجاهلونك اليوم؛ لسبب أيضا لا تعرفه، الأخطاء الشائعة الواضحة التي تتكرَّر، في كلِّ مكان، البيت، العمل، الشارع، والتي لا يمكن بوجودها أن تنشأ بيئةٌ عادلة وصحِّية، بيئة تحرِّض على نموِّ الأفكار والإبداع، وترك النَّهَم البشريَّ الذي يسحب الحياة من شعرها إلى البلادة والقمع والركود والاضمحلال، كلُّ شيء في هذا العالم يستدعي الضحك، الوجود، الآلام، السعي وراء اللاشيء، فكرةُ ترك تصحيح الأوضاع والبشر للمجهول، انتظار النجدة، الولادة، الموت، وما بينهما، وكلُّ ما يصدُر عن الكائنات البشرية من تشبُّث بهذه الحياة القصيرة، وتبديدها طواعية لمكائن الشرّ، الأحقاد غير المبرَّرة الغَيْرة، الكراهية اللامعقولة، وأنْ يسخِّر المرء وقته لتدمير شخص آخر).


 تغرقين في وحل الأفكار الكثيرة، أصابعُك ترسم خطوطًا متعرِّجة متشابكة متقطِّعة، روحك تحاول التقاط شيء ما، شيء غائب، شيء طرّيٍّ منتفخ، ويمكن أن ينفجر في أيِّ لحظة، شيء لا يمكن السيطرة عليه، تهيِّئين أعشاشًا لنظراتك التي تحطُّ على أغصان صوتك المتفرِّعة، والممتدة في كلِّ الاتجاهات، تفتحين البابَ لجورج شحادة: "نداوي الكآبة بالأسرار"، تفتحين الباب للطفلة التي نجت من الموت والتشوه، مرات عديدة، التي كادت تموت غرقًا في حفرة عميقة ممتلئة بمياه الأمطار، من دون أن يتنبَّه إليها أحد، للطفلة التي تسلَّقت شجرة (بيذام)، وسقطتْ من السطح على أرضية صلبة من الإسمنت، للطفلة التي أكلت  بشراهة صحنًا كاملا من صابون الملابس، للطفلة التي كانت تستيقظ بضربة خيزران على فخذها الغضِّ لصلاة الفجر، للطفلة التي استطاعت الهرب، غيرَ مرَّة، من ضرب مُبَرِّح، لأسباب تافهة، للطفلة التي كانت تخترع للأطفال ألعابًا جديدة، تفتحين الباب للطالبة الجريئة الممتلئة بالنشاط والحيوية التي كانت تغنِّي، وتمثِّل، وتكتب، وتشارك في الإذاعة المدرسية، الطالبة المتمرِّدة المقموعة بأسلحة التقاليد، والخوف من الناس التي انتزعت عنوة من مقعدها الدراسي؛ لتنضم إلى صفوف النساء الغائبات، المخلوقات لفراش الزوجية والأبناء، المعذَّبات بسلطة الزوج والأب، تفتحين الباب للمراهِقة المجنونة المطارَدة التي نجت بأعجوبة من محاولات الخطف والاغتصاب، والتي كانت تقود درَّاجتها الهوائية في أزقَّة الحارة المكتظَّة بالعيون والأفواه، والتي كانت تدخل في سباقات خطرة مع (أولاد الحارة) التي كانت تستحمُّ عارية في الهواء الطلق، على مرأى من السماء، الملاحَقة بالنظرات الشرِّيرة النظرات الحاقدة والمتآمرة، المتمرِّدة التي زُجَّ بها في حفل زفاف وهميٍّ، وهي في الخامسة عشرة من عمرها، حفل يشبه مأتمًا، وسط ابتهاج خفيف سريٍّ، يلتمع في عيون الجيران المتآمرين، تلك الابتسامات اللعينة التي أودَتْ بحياتها للجحيم، الجحيم الذي خرجت منه ضعيفة وهشَّة، لتدخل في آخر لا يقلُّ عنه ضراوة، بعد سنوات قليلة، والتي قاومت بشدَّة؛ لتخرج مرَّة أخرى، والتي عانقت الحرية بحياة ناقصة ومشوَّهة، والتي لم تستطع تعبئة الفراغ بالعودة إلى الصديقات الخائفات على حياتهن الزوجية من شبح امرأة يحاول التشكُّل، واستعادة روح الحيَوات المفقودة، تفتحين الباب للماضي والحاضر للجديد والقديم، في حفلة تعارف متأخِّرة، لا شيء لديك، تقرئين للحضور ما يشبه إعادةَ حفر بئر قديمة بأدوات بدائية:

خارج الأضواء الكاشفة، بعيدة متوارية،  أُحَدِّق في الشاشة الكبيرة للعالم، وأكلِّم نفسي، أصنع عالمًا خياليًا، أسرح فيه؛ لأطرد فكرة جنونية، قد تودي بحياتي في أيِّ لحظة.
أتحدث عن المقاتلات الشرسات اللواتي يقضين اليوم كلَّه في ساحة المعركة، ساحة القلق، عن العنيدات اللواتي لا يسمحن للفرص أن تأخذهن إلى عالم لا ينتمين إليه، عالم تَنسى فيه الذاتُ حقيقتها؛ لتصبح آلةً تتحرَّك بالريموت كنترول، روحًا خاوية، خادمة، متسوِّلة، مَنحنية، طوالَ الوقت، تُقبِّل الأيدي، وتمدح الفحم والحجارة والأشواك (أحبِّوني تذكَّروني دائمًا، لا تخذلوني) المخادعة المتصنِّعة الجبانة التي تنسى معاني الكلمات، كأن تنادي الفحم، يا نجمة، وتتوهَّم أنَّ الصَّبّار يمكن أن يكون يوما ما شجرة توت التي تتزيَّن للحيتان، ترتدي الأقنعة، وتجلس في بيت الطاعة، تتذكّرين ببالغ الأسى والحَيْرة، تلك التي تفضِّل محاربة فكرة الصعود الكاذب، والبقاء خارج السباق، والاستسلام الكامل لرغباتها المحفوفة بالمخاطر، متحملةً كلَّ التبعات، كلَّ الخسائر، كلَّ الشتائم والنظرة الدونية، وعن  تلك التي تنام وحيدةً في سرير كبير، سعيدة بفكِّ قبضة الألم، وتشريحه، وفحصه بقصيدة قصيرة، أو حلم صغير عابر، تلفت انتباه النسيان، تفتح شهيَّته بالمقبِّلات، تهيِّئ له سُبَلَ الراحة، تقدِّم له المنبِّهات باستمرار، وتهمس في أذنه: "خذني من يدي التي لطالما ألحَّت عليك بالعناق"* ألتفتُ يَمنة ويَسرة؛ بحثًا عن تلك القوية جدا التي تذهب وتجيء، بلا كتف تتكئ عليه، أو يد تشبك يدها، وتشدُّ عليها، التي لا تستطيع أن تقول أخبارًا سيئة، أو حزينة عنها لأصدقائها؛ خوفًا من مقاطعة أرواحهم الغارقة في عالمها الخاص؛ خوفًا من اختراق أمزجتهم، في وقت غير مناسب، تلك التي تحبس نفسها في زنزانة انفرادية؛ لترسم وجه ذلك الألم العميق المتشابك، غير القابل للتفاوض؛ لمنح قطعة واحدة من حياة عادية فرصة العبور السريع، أو الإقامة المؤقتة في  حيِّز صغير بحجم قبضة اليد، تلك التي تأكل يوميا من طبق الحبِّ، في محاولة لتعلُّم الطيران، وتستحمّ في جمال الطبيعة، القريبة من الطيور والفراشات والغزلان والقطط؛ لتحفظ صور الركض والقفز والتحليق في ذاكرتها المخرَّبة بأطنان من الصور البشعة؛ لتقول بصوت عال: (السعادة ليست وهمًا) الهادئة المتَّزنة، المجنونة، الرابحة، الخاسرة، الرقيقة، القاسية، غير المَعْنيَّة بالنزاعات والأحقاد، الشلل والمجاملات، التُّرُّهات التي تُرَبِّي الأخطاء الفادحة، وتصنع للتافهين، وأصحاب العاهات الفكرية المستديمة صوتًا ومكانًا، عن تلك الجاهزة دائما لاستقبال الألعاب الماكرة، كلَّ صباح الألعاب التي تكون عادةً غيرَ مرئيَّة، والتي يتقنها البعض بشكل مذهل، لتبدأ في محاولة أخرى لفهم الحياة، فهم فكرة الخلق، فهم الوجود، وكلِّ ما يحدث، وكلِّ ما لم يحدث بعد. 
عن تلك التي تُعِدُّ نفسها، بمزاولة خطوات العلاج، والبدء في عمليات التنظيف الشامل لروحها وذاكرتها، وتهذيب التفاتاتها النَّزِقة؛ للبقاء والثبات في عالم الحب والقراءة والكتابة، والبحث عن الجمال في الطبيعة والفن، تُردِّد باستمرار، كلَّ يوم: أصبح لديك مهمة، مهمة قد تكون شاقَّة، لكنها مسليَّة في الوقت نفسه، 
مهمَّة قنص الحشرات التي تحوم حولك، وقتلها بطريقة خيالية.


*شاعرة من عُمان 

 

- من مسرحية "مهاجر بريسبان "لجورج شحادة، ترجمة الكاتب والشاعر عيسى مخلوف.

- من نص للشاعر إبراهيم جابر إبراهيم.