Print
مزن الأتاسي

منامات

14 نوفمبر 2018
يوميات

              
كيف يدخل أرض مناماتنا أشخاص لا نعرفهم؟ أشخاص لم نلتق بهم في حياتنا، ولا نعرف عنهم سوى صورة ذهنية، صورة كوّنها خيالنا لهم في أحلام يقظتنا، لكن الرغبة في التعرف إليهم عن كثب، وإلى أنفسنا كيف تكون معهم حين تمنح فرصة الحرية المطلقة، تنقلهم إلى وهم أكثر "واقعية" يتيح لنا رؤيتهم، وتبادل الأحاديث معهم، بل والتّماس بهم حتى حدود الالتصاق، وربما.. ربما التعرف إلى رائحتهم وتسميتها..
مناماتنا هي الفجوة الوحيدة التي نرغب في السقوط فيها لنلتقي مع أكثر أسرارنا سرية، ومع أنفسنا حين تطير إلى حريتها.. ملتحمة مع بدائيتها.. منسجمة مع احتياجاتها.. متخففة من أثقال جاذبيتها، ومن حلالها وحرامها.. رامية بكل القوانين والقواعد والتنميطات والأنظمة – من دون أسف - إلى عالم اليقظة المتباهي بتمسكه بكل ذلك، بل المزهو المتفاخر بأنه يكبت ويقمع رغبتنا الأساسية في الطيران (لعلني الآن - فقط – فهمت ما عناه شاعري الأثير درويش حين قال: الحلم هو طريقتنا في الانتباه).

من منا لم يشاهد – ولو لمرة – أنه يطير ولا يدري أهو فرح بهذه التجربة؟ أم خائف من إحساسه بالفضاء من تحته؟ هل يريد الاستمرار فيه لكي يلمس نهاية ما.. أو اقترابا من بعيد؟؟ أم يشده اعتياده على ثقل الجاذبية فيستعجل عودته لتلامس قدماه الأرض؟
يونغ عالم النفس السويسري، تلميذ فرويد المتمرد، لديه تصنيف خاص للمنامات، منها ما يسميه بـ "المنامات العظيمة"، ويقول في توصيفها إنها – غالبا – ما تكون إشارات أو( إنذارات) مستقبلية لأمر هام يشغل بال الحالم، ويشكل عنده هاجسا  كبيرا في حياته، وغالبا ما تصدق هذه الإشارات، ويمدنا بأمثلة عديدة تدعم نظريته في تأويل المنامات.

أدعي أنني رأيت ثلاثة من تلك المنامات العظيمة، في طول حياتي، اثنان منها، يتكرران في كل عام، وكانت الإشارات والنذر فيهما حافلة بما ستتكشف عنه السنين:

المنام الأول: أنا طفلة لاتتجاوز السادسة من العمر، أمسك بيد أمي سائرتين في وسط مدينتي على ضفة ساقية الدبلان متجهتين إلى السوق العتيق، فجأة يمتلئ الشارع بالناس آتين من كل صوب، رجال ونساء وأطفال، شباب يتراكضون، بضائع غصّ بها الشارع والمفارق التي تفضي إليه، سوق الخضار "الهال" انتقل برمته ليصير في وسط المدينة، ثياب وأحذية معروضة إلى جانب الخضار، أدوات منزلية إلى جانب بائع الأسماك، أصوات نائحة.. جلبة .. ضوضاء .. وفوضى عارمة ليس لها مثيل، وأنا – الطفلة – أضعت أمي، أردت أن أصرخ ماما .. أستنجد .. لكنني فقدت صوتي .. رآني أحدهم سألني إذا كنت ضائعة فهززت رأسي بالإيجاب، أمسك بيدي المرتجفة من الخوف وأشار إلى نقطة بعيدة، وقال هناك أمك عليك ان تقطعي الضفة لكي تلتقيها.. اركضي إليها ولاتلتفتي.. وهنا.. على وقع هذه الكلمات، من فم رجل شبح.. كنت أصحو.. مبللة بالعرق والخوف.

المنام الثاني: امرأة لا تربطني بها أواصر القربى فحسب، هي أيضا صديقة حميمة، كانت تزورني في هذا المنام في كل عام : يقرع جرس الباب – باب بيتي – أفتحه فأجدها منهكة مرهقة تنوء بحمل حقيبة سفر كبيرة، أدهش وأخاف، أسألها ماذا حصل ما الأمر؟ ترد بكلمة واحدة: (نكبة) أطلب منها الدخول تتردد قليلا ثم تدخل، أحاول أن أهدئ من روعها، ثم أذهب إلى المطبخ لأحضر القهوة، آعود بصينية القهوة لكنني لا أجدها، أفتش في الحمام أدور في البيت، لا أجدها، أفتح باب الدار أخرج إلى الشارع... أراها في آخره تجر حقيبة السفر الكبيرة ... ثم تختفي عند المنعطف ... أصحو مبللة بالعرق والخوف.

 

المنام الثالث: إنسان كان رمزا لكل ما أحب، لا أعرفه سوى "افتراضيا" لكنّه كبا .. وتحوّل .. ثم اختفى .. وبه أقفل قوس البداية

رأيت فيما يرى النائم أننا -مجموعة الأصدقاء مع أولادنا - كنا في ملعب لسباق الخيول،  أمامنا امتداد واسع من الأرض، وزرقة السماء تلامس الأرض عند الأفق، حاجز خشبي طويل يفصلنا عن الساحة، وعن يمين الساحة مرج أخضر ممتد، مدرجات الملعب مكتظة بالناس، لغط وضجيج، والكل يترقب بدء المباراة.
 كنت أمامي في الجهة المقابلة أراك من بعيد، وأحاول جاهدة أن تراني، وجاهدة في أن أعرف إن كنت تراني، لكنني لم أفلح - أبدا – في معرفة هذه المعرفة.
وكنت أراقبك وأردد في نفسي: (نزق)، فقد كنت كثير الحركة، دائم الالتفات يمنة ويسرة، وتبدو وكأنك فاقد الصبر، وتتململ في وقفتك مستندا إلى الحاجز الخشبي، وكنت أحاول أن أرى عينيك وأسأل نفسي: ( ترى كيف هما عن قرب؟ وماذا يمكن أن أقرأ فيهما؟؟ هل أجد فيهما انعكاس صورتي؟)
وما هي إلا لحظات حتى سمعنا من ينادي في الميكروفون: نرجو من الجمهور الكريم أن يلتفت إلى جهة اليمين، ساد الهدوء المكان، ودارت الرؤوس بذلك الاتجاه، ثمة سد عرضاني خشبي انتصب ليفصل نهاية الملعب من الجهة اليمنى عن وسطه، لكنه بدا ببواباته الصغيرة الملونة والمرسوم عليها بعض الأزهار وكأنه لعبة من لعب الأطفال، دهشنا لهذا المنظر وارتفعت أصوات من هنا وهنالك تعبر عن هذه الدهشة، نظرت إليك فوجدتك وقد كففت عن الحركة، فرحت وقلت في نفسي: (يندهش).
قالت الصديقة إلى جانبي: ما هذه المزحة الحلوة؟ عدت من جديد إلى النظر إلى ذلك السد العجيب، فجأة انفتحت تلك البوابات الصغيرة، وبدأت مياه صافية غزيرة تتدفق منها، أحسست أن قلبي يكاد يتوقف عن الوجيب: يا لجمال هذا المنظر!! من بوابات صغيرة تكاد تكون كالثقوب، يتدفق كل هذا الماء!!
وبسرعة نظرت إليك كان في وقفتك ما يدل على الذهول وقد جمدت تماما، فرحت أكثر وقلت في نفسي: (طفل، ما زال يحتفظ ببعض مظاهر الطفولة)، ما إن أجبرت نفسي على النظر مرة أخرى إلى المشهد حتى وجدت أن بحيرة كبيرة تشكلت من الماء المتدفق، وأسراب من البط تنزل إليها من جهات مختلفة وتشكل في وسطها مجموعة واحدة، ثم بدأت ترقص كما السباحات في مسابقة دولية للرقص الفني في الماء، رفعت عيني إلى السماء وصرت أتطلع في كل الاتجاهات لأعرف أين أنا، يبدو المكان مألوفا لدي، لكنه ليس تماما كما أعرفه، تلك الجبال التي تبدو قممها من بعيد وقد غطتها الثلوج، واختفت في ضباب رمادي وكأنها منطقة شيروبيم، ولكن أين اختفى الدير؟ ولماذا انتقلت شلالات تل شهاب إلى هنا؟ كنت مشوشة تماما، وأنا أنقل نظري مرة إليك، وأخرى إلى البط البني الذي يقدم لوحات راقصة مذهلة، ينقلب على ظهره وتبدو سيقانها الصغيرة وهي ترسم دوائر في الهواء، ثم يعود ليشكل أشكالا هندسية في دوراناته، هتفت الصديقة الواقفة إلى جانبي: يا ربي هذا حلم أم حقيقة؟ يا ربي قل للزمن أن  يتوقف، لبثنا وقتا لا ندري مدته ونحن في حيرة من أمرنا: بين ذهول وفرح، بين تصديق لما نرى، وتكذيب لما نعقل.
مرة أخرى سمعنا ذات المنادي ينادي: نرجو من الجمهور الكريم أن يلتفت جهة اليسار، دارت الرؤوس، في اللحظة نفسها بدأت المياه تنداح تدريجيا باتجاه السد الخشبي وتعود من المكان الذي انبثقت منه، الماء يجري إلى الوراء!! وشيئا فشيئا بدأ يظهر المرج الأخضر، وبدا المشهد يدعو للدهشة أكثر من سابقه، تطلعت إليك، لكنني لم أجدك، لمحت الصديقة خيبتي، فقالت دون أن أسألها: ذهب  يحضر نفسه للسباق، سألت: وهل هو من بين المتسابقين؟؟أجابت وفي عينيها نظرة تخابث: لماذا نحن هنا إذن؟؟ كنت متأكدة أن أحدا لم يقل لي هذا الخبر، لكنني سكت، وانتظرت، وكتمت قلقا في روحي.
سمعنا الطلق الناري الذي يؤذن ببدء السباق، كنت في الوسط، بدأ الأصدقاء يهتفون باسمك للتشجيع، وأردت أن أفعل مثلهم، لكنني لم أستطع، اختفى صوتي تماما ولم أعد أجده، لم أستطع تلفظ اسمك عاليا، فقدت صوتي. 
بدأتم تبتعدون عن مرمى أنظارنا، وتعالت هتافات الناس، لكن يبدو أن أحدهم جمحت به فرسه، قالت الصديقة: أحدهم وقع، عندها صرخت باسمك.. وأفقت..
أفقت على وقع اسمك في مسمعي..
كنت محتاجة إلى وقت كي أعرف أين أنا، وقعت عيناي على سطح خزانة الثياب فرأيت العلب التي أعرفها جيدا.. أدرت رأسي ..
هذه ذؤابة شجرة الكينا تبدو من الشباك..
كان حلما.. كان حلما ليس إلا..
لم نلتق حتى في المنام.
 

غنيّ عن القول إن المنامات خرجت من نومي إلى الواقع، فلقد رأيتها بأم عيني .. وغنيّ عن القول أيضا .. إنها كفّت عن الحضور منذ ... النكبة

وصباح الخير.. صباح الخير لكل من غيبهم الموت بحرا وبرا وجوا... صباح الخيرات لكل من لم ندفنهم ولم يكن لهم قبر بعد كل التعب والسغب والجوع... وصباح نور النهار لكل المغيبين في زنازين الطواغيت في أربعة أركان الدنيا... ولنهاراتكم القادمة حقول مليئة قمحا وأزهارا.. وماءً صافيا سلسبيلا.. وأفراسا لا تكبو.