Print
السيد طه

قلب المدينة ما زال يملأه الدخان

26 أكتوبر 2018
شعر

(1)

جدتي امرأة عادية؛
قضت عمرًا أمام البوتغاز وآلة الخياطة
علمت ماما الطبخ وحياكة "الرجال" -
أذكر الباترونات التي كانت تقصها من مجلة سيدتي
وترصها في درج الماكينة العتيقة دون أن تستخدمها؛
ارتباط ما بين الأنوثة والاحتفاظ بالمشاعر
جست إن كيس -
جدتي امرأة عادية جدًا
علمتني أن النساء العاديات جميلات
وهن يشوين السمك على البابور
ويزرن المقابر في صباح العيد
كي لا يشعر أحبابهن بالوحشة في ذلك اليوم؛
ماهرات في الخوف
كانت تقول أن الخوف
لا يعني عدم استخدام السكين،
أمسكت بيدي حين استخدمت السكين لأول مرة
ابتسمت وقالت: أنت رجل
لا تتوقع أن تصبح ماهرًا في أيٍ من هذا -
انكسرت أصابعي في قبضتها
ونمت لي أخرى أكثر طولًا

 (2)

في انتظارك يمضي كل شيء بالتصوير البطئ؛
المسافة التي يقطعها النادل بين باب المطبخ وطاولتي
المسافة التي تقطعها القطة بين سيقان الكرسي
أصابعي التي تبلغ فمي بالسيجارة رمادًا
والثلج في كأس العصير لا يذوب -
في انتظارك أكتشف جمال الأفعال العربية التي تنتهي بالواو؛
يصبو، يشكو، يحنو، يقسو،
يبدو، أو لا يبدو
يدنو، لا يدنو
في انتظارك يقطر مني الصبر
يصنع تحتي بقعة أخجل منها،
"ضاق خلقي يا صبي"
أفتح حقيبتي وأتناول كتاب أنهيته
أعيد قراءة سخافاتي القديمة  -
وأعيد اكتشاف عيوبي كلها

 (3)

اختناق
كأن المدينة بأسرها تقف في حلقك -
كأنك على وشك الموت مختنقًا
وقلبك الذي عرف كل ألوان المشاعر
من الأزرق البارد إلى الأحمر الداكن
نزف دمه بالكامل في شرايينك
كي تظل ساقك تحملك
عبر الإشارات والطرق المزدحمة
ورئتك تقاوم كل الأدخنة
تلك التي اخترت أن تتنفسها
وتلك التي أجبرتك الحكاية عليها،
شعيرات الدم تنفجر في رئتك
وساقك ترتعش تحتك -
اختناق
لا شيء يعني أي شيء
ولا حتى أنك تموت مختنقًا
بقطعة مارشيملو

 (4)

لا أجلس صامتًا أبدًا؛
ما قد يبدو موتًا على شفتي
هو في الحقيقة شيءٌ يعج بداخلي
يطحن حبوب القمح
دقيقًا أصنع منه حلوى،
أنا لا أجلس صامتًا أبدًا -
أنت فقط ترى الفرن من الخارج
ولا تعلم شيئًا عن النار بداخله،
تظن أنك في رحلة آمنة
فأنت لا تعرف أين أو متى
سينفجر كل هذا تحت قدميك
لا تعرف تحت أي صخرة
تختبئ الأفعى،
أفرد شراعك بعرض الأفق
وشق جسدي بمقدمة سفينتك
فأنت لا تعرف أي موجة ستقلب كيانك -
تجلس مبتسمًا بينما أقدم ما صنعته لك؛
الانتقام طبقٌ يُقدم باردًا!

(5)

تقول ماما أن الثلج يزيل الكدمات،
تقول ماما ذلك كـ خبيرة
تعرف كيف تداوى آثار الارتطام -
هي لا تعرف مما أشكو تحديدًا
لكنها تلاحظ أنني بحاجة لتلك النصيحة؛
تقول أني أقضى الكثير من الوقت وحدي
وتقول أن الوحدة مهما بدت طيبة
تنخر العظم
وتتركنا فارغين تمامًا أمام النوافذ
التي لا يمكن إغلاقها -
تقول أنها تعرف ذلك الاشتياق للشتاء
للهروب أسفل البطانيات
والتخفي تحت طبقات الملابس؛
تقول أنها امرأة
وكانت تعني أنها تعرف
كيف تنمو الروح ثلجًا
كي تقاوم الكدمات

(6)

تربط ماما في باب البلكونة حبلًا،
أضع عليه وسادة وأجلس كي أتأرجح،
مرجيحة بسيطة لطفل سعيد -
بهدوء أدفع جسدي الصغير
وأتخيل أن العالم يذهب ويعود،
أحتفظ بتلك الذكرى
وأحلم بأن أتعلم الرسم كي أرسمها في بورتريه ذاتي
وأتعلم المزيكا كي أكتبها غنائية من ست حركات،
وأحلم أن أتعلم السينما كي أصنعها فيلمًا
عن طفل يظل على مرجيحته إلى الأبد
دافعًا بجسده الصغير بعيدًا عن الألم -
أحلم بتلك الذكرى من حين لأخر
فأستيقظ وقد امتلأت الحجرة
برائحة البرتقال والمطر

 (7)

أضع في سلسلة كل المفاتيح
التي لم يعد لها أبواب،
وأمتلك درجًا في مكتبي للولاعات
التي لم تعد تشعل الحرائق

(8)

ذلك الصباح القديم
الذي قطعت فيه المدينة
بينما الغيوم تتجمع في السماء
والنوة تتشكل
حتى أغرقت الشوارع؛
ذلك الصباح
الذي حبستني عاصفته
في أحد مداخل البيوت القديمة
لم أكن أفكر في غيرك
وانتظارك الطويل
بينما أنت لستَ هناك -
أنت لم تعد أنت
بل مجاز لكل الأشياء
التي قطعت لأجلها النوات
ولم أجدها

(9)

أحب ذاكرتي
حين تلعب معي
وتفتح فجأة إحدى الصفحات
فيما يبدو كـ فعل بلا مبرر،
هنا، تحت شجرة مسك الليل
تحت نفس القطعة من السماء
أعود إلى شعور كنتُ أظنني قد فقدته
تلفني الرائحة بكل التفاصيل
التي حفظتها ذاكرتي في إناء خزفي؛
ويبدو الزمن فجأة مثل صديق وفي
يأخذ منك اللحظات
كي يعيدها إليك حين تحتاجها،
هنا، في تلك المدينة
وتلك الشوارع وذلك الكورنيش،
والأن لحظة تتكرر أبدًا في مخيلتي
وتمد يدها كي تهدئ من روعي
وتخبرني بكل اللغات التي أفهمها
أن كل شيء على ما يرام
وأن كل شيء سيكون على ما يرام،
أحب ذاكرتي حين تقول: تنفس
كل الذين تعرفهم
كل الذين تحبهم؛
أنا أحتفظ بهم لأجلك

(10)

أصابعك ما زالت مشتعلة منذ ليلة أمس،
أنت نفسك هنا منذ ليلة أمس لم تغادر
يؤسفني أن أخبرك ألا مكان في جسدي لليلة أخرى
وأنك يجب أن تغادر الأن كي أفرغ منك
قبل الجولة التالية من ذلك البحث؛
اقتراب استراتيجي من النار
كي تطرد الوحدة من عظامي
دون أن تصهرني في قالب
لم يكن قط على مقاسي -
أصابعك ما زالت مشتعلة منذ ليلة أمس
وليس أمامك الأن سوى غمسها
في تلك الأغاني السخيفة
كي تهدأ قليلًا؛
تغويني إلى هاويتك وأصابعك تشير ناحيتي باتهام
بينما أكمل طريقي في ليل المدينة باحثًا عن جسد أخر
وليلة أخرى اقترب فيها من السور الكائن بيني وبين الجميع
كي يطرد جحيمهم ذلك البرد
****
تلك الرغبة في وضع جسدي على الحافة
حتى يملأ الأدرينالين شراييني كلها
حتى يصبح وجهي أحمرًا دمويًا
فيما يشبه الذبحة القلبية،
أرتدي أفضل ما لدي إلى جنازتي
أفرش طريقي إلى المقابر بسجادة حمراء
أنثر بتلات الأزهار فوق تابوتي،
وأفكر في كتابة مسرحية
لا يموت فيها أحد غير كاتبها
يتحول دمه إلى اللون الأسود
على الستائر والمقاعد والنجف
وملابس السهرة،
لن يمر الفصل الأخير
دون مشهد كبير أغسل فيه كفي من خيالي
وأضع النصل الذي قطعت به عنق الحياة
في صدري -
أبطالها هم الأخرون
الذين عبرتُ من أجلهم الأسوار
كي يطرد جحيمهم البرد من عظامي
فتركوني نائمًا في سريري صباحًا
أرغب في المزيد من النار.



*شاعر من مصر