Print
وجدي الأهدل

لا أحد ينتظر أحداً

16 سبتمبر 2017
قص
ظهر(مُنْتَظَر) في شارع المطاعم بصنعاء الساعة الرابعة عصراً. كان المكان مزدحماً ولا يكاد المرء يجدُ موضعاً للجلوس. أعداد مهولة من الرؤوس تجيء وتروح، ونفوس من مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية يتشاركون ركوة الطقوس، ولكنه بسبب خجله لم يعرف كيف يبدأ ولا متى يدق الناقوس. فقعد في مقهى مدهش مختلطاً بالناس، وراح يرتشف الشاي بالحليب محدقاً في الوجوه دون أن يجرؤ على مكاشفة أحد بما يرجوه.

ملّت الشمس من الانتظار فرحلتْ آسفة، وحلّ محلها الليل بأضوائه الموحلة. بلغ الزحام ذروته، وأمسى الصخب على أشده، فما عاد يمكن تبادل القيل والقال إلا برفع الأصوات. شعر (مُنْتَظَر) بالجوع، فخطا خطوتين باتجاه المطعم المقابل، وطلب فولاً خالياً من التوابل.

استغرق وقتاً وهو يأمل إذا جلس أحد إلى طاولته أن يدعوه لمشاركته عشاءه، ثم يتجاذب معه أطراف الحديث، ويُسرّ له بأمره. تحققتْ أمنيته، وقعد أمامه كهل غريب الأطوار، يرتدي إزاراً وقميصاً بنصف كم وصِديريّا بجيوب عميقة الأغوار. كان الكهل يُوزع الأخبار السياسية يميناً وشمالاً، وبدا وكأن جميع زبائن المطعم من معارفه. ما كاد هذا الكهل المرح الساخر من قيادات الدولة وأحزابها يُطبقُ فمه ويكف عن الضحك حتى عاجله (مُنْتَظَر) بدعوته للأكل من صحنه. وافق الكهل بغنج، وراح يُكوّر اللقم الكبار دون أي شعور بالحرج.

كان الكهل محط الأنظار، ومركزاً لدائرة واسعة من حوار اللاحوار. أتى إليه (البوري) شخصياً مالك المطعم، ليستعلم منه عن التعديل الحكومي القادم، فأعطاه معلومات دقيقة. آخرون كانوا يسألونه، فيرد عليهم بإجابات حصيفة. كان أشبه بوكالة أنباء متنقلة.

حين تبقت حبة فاصوليا واحدة في الطبق تأهب الكهل للانصراف، فأمسك (مُنْتَظَر) بمعصمه وسأله إن كان يعرف شيئاً عن المهدي المنتظر.. ثبّت الكهل نظارته على قصبة أنفه ورد بلهجة آمرة كقائد عسكري يُدير معركة لا نهائية: "اترك كل شيء واذهب فوراً إلى دار الكتب".

دفع (مُنْتَظَر) الحساب وانطلق من فوره. سار راجلاً وهو يسأل المارة. وبعد دقائق معدودة وصل إلى دار الكتب. حينها كانت الساعة تشير إلى الثامنة مساءً.

وجد في الرواق المطل على الحديقة اليابسة شاباً عصرياً يعتمر قبعة رياضية، وتتدلى على كتفه حقيبة سوداء منتفخة بالأغراض وكأنه طرد للتو من منزل عائلته.

راقب (مُنْتَظَر) ذاك الشاب برهة من الوقت، وبعد تردد استقرّ عزمه على أن يكون حامل الحقيبة السوداء هو أول إنسان في هذه الدنيا يبوح له بحقيقته.

اقترب منه وصافحه بحرارة مبتسماً:

-         السلام عليكم يا أخي.

-         وعليكم.

-         حضرتك من زوار مكتبة دار الكتب؟

-         طبعاً وإلا فماذا تظن؟؟

-          ماذا تقرأ؟

-         هاه؟! أي شيء.

-         إذا كنت قارئاً جيداً فأنت بالتأكيد قد سمعت عني ..

-         ربما .. ما اسمك؟

-         محمد عبدالله.

-         يووه .. نصف رجال اليمن يحملون هذا الاسم.

-         ولكن أنا شخص يُفترضُ بك أنك تنتظره ..

-         أكيد حصل عندك لبس .. أنا واقف هنا أنتظر محمد الشرعبي.

-         من هذا الشرعبي؟

-         موظف في دار الكتب.

-         ولماذا تنتظره؟

-         لأنه يوصلني كل يوم بسيارته للبيت.

-         آه فهمت .. المعذرة ظننتك تنتظرني!

-         هل لديك سيارة؟

-         أحم .. لا.

-         هل تُجيد إلقاء النكات؟

-         ولا هذه أيضاً.

-         إذن فلماذا سأنتظر واحداً مثلك!!

في الساعة الثامنة والربع رجع (مُنْتَظَر) إلى شارع المطاعم باحثاً عن شغل. لقد قرر أن يكد ويعرق لكي يدخر ثمن سيارة، وأن يُدرب نفسه على إلقاء النكات.

بعد أسابيع اعتاد زبائن شارع المطاعم على منظر (مُنتظر) وهو يرتدي مريلة متسخة ويعمل طباخاً.

في هذا الشارع تعمل المطاعم بطريقة مقلوبة، لأن المطبخ يكون في الخارج، لكي تجذب الروائح الزبائن، وطاولات الطعام متوارية في الداخل. لذا كان (مُنتظر) مرئياً من الجميع والنار تلفح وجهه عند الموقد، وهو يقلي البصل والطماطم، ويُقلّب بمهارة الفول والبيض والكبد والمخ. وأما المتسولات والمشردون والمهمشون فكانوا يتسللون إليه على أطراف أصابعهم، ويناولونه خفية من وراء السياج الخشبي شطائر فتقوها بأناملهم، فيعيدها إليهم مترعة بالفاصوليا أو أيّ طعام آخر يتصادف أنه يطبخه لزبون ما في المطعم.

في أوقات الفراغ كان يعرض نفسه على من هب ودب! قال له شاب ملتح ليس من عادته أن يمرح أو يمزح: "هل لديك هاتف محمول؟". فرد عليه (مُنتظر) بالنفي. فقال له: "إذن فعليك بشراء واحد وإلا فكيف ستتواصل مع أتباعك؟؟".

قال له كهل مغرور، يُصر على أن ينادى بلقب الدكتور، مع أنه لا يحمل سوى شهادة الماجستير في بيطرة الطيور: "هل لديك حضور في مواقع التواصل الاجتماعي؟ فيسبوك؟ تويتر؟ إنستغرام؟ تيليغرام؟". فهز (منتظر) رأسه بأسى. فقال له ضاحكاً: "العالم تغيّر يا حاج! أيّ مشروع يُراد له أن ينجح فلا بد من الترويج له عبر وسائل التواصل الاجتماعي.. وأنت لن تفلح في شيء من دونها، وستبقى دعوتك محصورة بين جدران هذا الشارع الموبوء.. أنا شخصياً لن أصدقك إذا خاطبتني وجهاً لوجه.. ولكن إذا خاطبتني عبر تويتر فربما أصدقك".

قال له شاب يدرس البرمجة: "المهدي المنتظر موضة قديمة.. عليك أن تفكر في الراب المنتظر، سروال الجينز المنتظر، التطبيق المنتظر.. عليك أن تتنبأ بالموضة أو تصنعها، وسوف تربح الكثير".

قال له رجل يشتغل مجنوناً لكي يحصل على وجبات طعام مجانية: "عليك أن تركز على القنوات الفضائية، إذا ظهرت بكثرة على شاشة التلفزيون فإن وجهك سيغدو مألوفاً لدى الناس، وفي مرحلة التشبع سوف يصدقون أيّ هراء تقوله لهم".

قال له خبير تسويق يُخفي جنونه الباطني خلف مظهره الأنيق: "اعمل حملة إعلانية ذكية.. ومن يدري قد ينجح المنتج الذي تريد إشهاره.. في هذه الأيام حتى غسول اليدين يمكن أن يدخل إلى كل بيت بفضل حملة إعلانية مجنونة".

قال له غلام يدرس في الثانوية: "أليس لكل إنسان ردفان؟؟ لذلك أنت أيضاً لديك خيار من اثنين، الأول أن تصبح لاعب كرة قدم وتستخدم قواك السحرية لتسجيل الأهداف، والثاني أن تجمع لصوص المدينة وتقود انقلاباً لتمسك بالحكم.. وفي كلا الحالين فإن الجميع سوف يؤمن بك، وسيصغون إليك، حتى لو قلت لهم إن الكلب الذي ينبح هاو هاو يتبرز كاكاو!".

ولا واحد آمن به. كان شيء ما يفصله عن البشر المعاصرين.. ما هو هذا الشيء؟ مهما يكن فقد عجز عن تخطيه. إنهم يكتفون بتقديم النصائح له، ولكنهم ليسوا على استعداد للإيمان به. لقد ولى ذلك الزمن.

إنهم محايدون، رماديون، ليسوا معه ولا ضده. إنهم مع الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي.. ويريدون منه الانخراط فيها ليؤمنوا برسالته. لا أحد أخذه على محمل الجد أبداً.. وربما لو ظهر في دور كومبارس في حلقة تلفزيونية كوميدية تافهة لكانت كلمته مسموعة بشكل أفضل!

خاب ظنه تماماً. لقد توصل للفهم أخيراً، أن البشر ليسوا بحاجة إلى من يرشدهم، ولكنهم بحاجة فقط إلى من يسليهم.