Print
خالد عزت

أن تَجدَ: أنا وسميرفريد وصندوقي القديم

20 يناير 2017
سير
قرب النهاية بقليل، وبعد سنوات من النسيان، سقطت يدي على الصندوق وأنا أنحني داخل خزانة ملابسي أبحث عن شيء تافة ضاع مني فى زحمة الأيام، لكنني تعثرتُ فجأة بشيء آخر من مخلفات الماضي كان مختبئًا في ظلمة وفوضى الخزانة تحت ركام من الملابس والأشياء الأخرى.    

الصندوق كان يخصّ حذاء اشترته لي أمي من محلات "زلط" للأحذية بميدان العتبة قبيل بدء العام الدراسي بأيام قليلة. على ما أذكر، كانت قد اشترتْ لي أيضًا في نفس اليوم طقمًا من الملابس الداخلية، وحقيبة مدرسية جديدة، بالإضافة إلى بلوفر صوف "كاروة سمبوكسة"، وقميصين من ملابس الأهرام. أما هي فلم تشتر لنفسها شيئًا سوى زجاجة عطر دقيقة الحجم لحقيبة يدها من ماركة "ياسمين الشبراويشي". تقريبًا، كنا عند منعطف النهاية لسنوات السبعينيات، حيث كنت وقتها أمرّ برهبة العبور إلى السنة الأولى من المرحلة الإعدادية، وبالتالي هجر مدرستي الأليفة إلى عالم جديد لا أعرف عنه شيئًا، ومن ثمَّ كانت أمي تحاول استرضائي طوال الوقت كي أقبل الذهاب إلى المدرسة الجديدة التي اختارتها لي رغمًا عني. في نهاية اليوم، وبعد طول لف ودوران بين المحلات، دلفنا إلى "أمريكين عماد الدين" ونحن نلهث ونتخبط في حمولتنا الثقيلة من المشتريات المدرسية.                                                                                                  

وبكرم مفرط غير معتاد، طلبتْ لي وجبتي المفضلة من الحلوى: طبق كبير ولذيذ من "الكيشون التروبكال"، بينما اكتفت هي باحتساء فنجان من القهوة السادة مشفوعة بسيجارة فلوريدا، ومن حولنا تناثرت فوق المقاعد المجاورة أشيائي الجديدة، وبينها صندوقي العزيز، الذي كان يرقد بداخله حذاء أسود مقاس 38 بنعل "كِرِب" ومقدمة فولاذية مستديرة حتى يتحمل لعب الكرة العنيف في حوش المدرسة والشوارع الخلفية المحيطة بها.

                                                                                      لكنه، وبعد أشهر قليلة من ارتدائي له، لم يتحمل رعونتي ونزقي، فقمتُ بدفنه بيديّ في سلة القمامة المجاورة لباب الشقة، بعد إصابته بجروح وندوب مميتة. وفي اليوم التالي جاء الزبال وحمله مع النفايات الأخرى إلى مصيره الغامض، حيث لم أعرف عنه شيئًا بعد ذلك. أمَّا الصندوق فقد آل في البداية إلى أمي التي لم تواتها الشجاعة أن تتخلى عنه بإلقائه في سلة المهملات، ومن ثمَّ فقد أخذته ووضعته على التسريحة في حجرة نومها.

وعلى غير عادة صناعة الصناديق الكرتونية في تلك الفترة، كان لصندوق حذائي مظهر أنيق لافت للنظر بالنسبة لأقرانه من الصناديق الأخرى المتقشفة بشكل مزر، فقد كان مصنوعًا من الكرتون المقوَّى المطلي بلون أخضر نضر، وقد زُخرفت جوانبه بنقوش منمنمة لاسم "الفابريكة" الشهيرة.     

بقي الصندوق مكانه على حافة التسريحة حتى بعد رحيل أمي، وبذلك يكون قد عاش عمرًا مديدًا متجاوزًا كل الأعوام التي قضتها أمي في الدنيا، وأيضًا حياة الحذاء ذاته الذي قضى نحبه بعد أشهر قليلة من خروجه إلى العالم على يد صانع مجهول. واحتفظت أمي في حياتها داخله بأشيائها الصغيرة التي لم يطاوعها قلبها على فراقها، حتى بعد أن صار وجودها بلا معنى، ولم تعد صالحة للاستعمال اليومي: "فردة واحدة للساق اليمنى من جورب نصفي من النايلون. أصابع روج متآكلة الشمع تنتمي إلى موضات عفا عليها الزمن. مشط من العاج أسنانه محطمة، أربعة كعوب تذاكر دخول سينما قصر النيل حفلة التاسعة مساءً لحضور فيلم "دقة قلب". مجموعة من رولات الشَعْر متهتكة السلك. عشرات من القصاصات المقتطعة من جريدة الأخبار لأشعار أغاني أم كلثوم المنشورة فى صفحة "أبو نظارة". بطاقات القطارات التي أقلتنا ذهابًا وإيابًا أثناء عطلات الصيف مشبوكة إلى بعضها البعض - وفقًا لتتابعها الزمني - بمشبك غسيل من الخشب. صفحة مقتطعة من كراسة الموسيقى الخاصة بواجباتي المدرسية، وقد كَتبتْ عليها أمي في لهوجة بخط غير عابئ بحدود الصفحة، مراحل إعداد صينية "الكوسة بالبشاميل".
                                                                                     

لم أعرف حينها لماذا كان على أمي أن تحتفظ بكل هذه الأشياء المضحكة، كما لو كانت كنوزًا ثمينة، إلّا بعد أن كبرت وعرفتُ أنني ورثت عنها شغفها القديم الذي لازمها منذ طفولتها: هواية اقتناء الأشياء التافهة التي لا يأبه بها أحدٌ. بعد موتها آلت التركة لي، الصندوق العجيب بكل كنوزه الزائلة، ولزمن طويل ظل يتنقل معي كظلي من بيت إلى بيت من دون أن أعيره اهتمامًا. أحمله حائرًا من الشرفة إلى المطبخ إلى الشوفينيرة إلى الكومودينو إلى خزانة ملابسي، من دون أن أدري ما الذي يتوجّب عليَّ أن أفعل به، أو حتى أفكر لحظة بمعاودة النظر داخله لكي أسترجع – ربما – بعضًا من ذكريات الماضي، كما كانت تفعل أمي بين الحين والآخر، مستعيدة لحظات هشة وعابرة في حياتها، لكنها كافية لإطلاق ضحكاتها أو دموعها وهي جالسة أمام الصندوق تعبث بمحتوياته وتدخن سيجارتها المفضلة. 
                                    
بيد أني هذه المرَّة حملتُ الصندوق كاشفًا الغطاء بعد سنوات من الغياب، متأملاً الأشياء القديمة المغبرَّة التي كانت ترقد هادئة في سلام راضية بنسياننا لها. وشعرت بظل ابتسامة يتمدد إليّ وأنا أعاود رؤية فردة الجورب اليمنى المتبقية، ولاحت لي ذكرى اختفاء الفردة اليسرى من خزانة ملابس أمي، عندما ظللنا ليومين متتالين نقلب عليها البيت رأسًا على عقب في جنون هذياني عسانا أن نجدها مختبئة هنا أو هناك، لكننا لم نعثر لها على أثر.


وهكذا تحدد مصير الفردة اليمنى المنسية بأن تبقى أسيرة وحدتها النهائية في قاع الصندوق. دائمًا ما كانت الأشياء التي نحبها تضيع منا، وعندما يأتي ذكرها بغتة، نوارب أبواب الأسى، ليدلف إلينا قليل من الحزن على فقدنا أشياء لن تعوَّض أبدًا.                                                                                      
لكن أين اختبأت الفردة اليسرى من جورب أمي النايلون؟.                

رأيتُ صفحة كراسة الموسيقى وقد اصفر لونها بفعل القِدِم، ومررت بعينيَّ على قائمة المقادير التي أملتها جارتنا على أمي عبر اتصال تليفوني جرى بينهما منذ زمن طويل، وأعدت قراءتها لنفسي سطرا وراء سطر، حتى توقفت فى ذيل القائمة عند جملة كتبتها أمي وراء الجارة فى نهاية المحادثة وهي تحذرها قائلة: "خل بالك يالولا ما ترجيش البيض جامد بالمضرب". هكذا كتبت أمي بكل إخلاص نصائح جارتها الطيبة طبق الأصل كما خرجت من بين شفتيها، حتى لا تسقط من ذاكرتها عفوًا تفصيلة دقيقة وهي واقفة في المطبخ تدور حائرة بين الحلل وشعلة البوتوغاز الموقدة والتطلع بين لفتة وأخرى إلى الصفحة. حركت برفق السطح، وقد ازداد فضولي فى التوغل إلى القاع، جارفًا إلى جنب أوراق أخرى منسية فانفرط أمامي سيل من الصور العائلية كأوراق الكوتشينة، ومن أسفلها ظهر لي كتاب "سمير فريد"، العالم من عين الكاميرا، بغلافه المهترئ والذي تعود طبعته الأولى إلى نهاية الستينيات من القرن الماضي.


كان الكتاب هو الشيء الوحيد الذي ينتمي إلى عالمي الضيق من بين زحمة الأشياء الأخرى التى رحلت عنها صاحبتها، مثلما كان الكتاب نفسه ينتمي إلى عالم قديم من الأحلام الثورية التي لم يعد لها مكان على أرض الواقع في الألفية الثالثة. أخرجتُ الكتاب بحرص، وأنا أفكر في أن كل ما اجتمع مصادفة داخل صندوق حذائي هو ما أصبحت عليه الآن. فبإمكان الأشياء التافهة أن تقرر بشكل حاسم ما سيكون عليه المرء فى صيرورة حياته: كأن يكون شاعرًا وقاتلاً لأحبائه، فالاحتمالات جميعها تكتنف الفسحات الضيقة الكائنة بين الأشياء المرئية، والتي لا يمكن الإحساس بثقل وجودها الخفيّ عَبَرْ النظر.
                                                                                     
ولكن كيف انفلت الكتاب من ربقة رفوف المكتبة متسللاً خلسة إلى ظلمة الصندوق؟. كنت قد نسيته وسقط اسمه من قائمة ذاكرتي للكتب التي حررها الناقد خلال حياته المهنية. وفي الحقيقة كان هذا الكتاب الذي أقبض عليه الآن، هو الكتاب الثاني لي في سلسلة قراءاتي المبكرة عن فن السينما. أمَّا الكتاب الأوَّل فكان "فن الفيلم" للناقد أرنست لندجرن – طبعة وزارة التربية والتعليم الإقليم الجنوبي - هكذا كُتب على الغلاف - والذي قمت باقتناصه خلسة من مكتبة المدرسة بعد أن فُتنتُ بين صفحاته برؤية صورة لوجه مُكبر مأخوذة عن فيلم "المدرعة بوتِمكين"، هذا ما كان يعنيني: "صورة الوجه"، حيث كنت وقتها شغوفًا بتعلم مبادئ التصوير الفوتوغرافي، بعدما سمحت لي أمي باسخدام كاميرتها الخاصة "لايكا" التي كانت تعمل بفيلم حساس مكوَّن من 16 صورة.                 

أمَّا كتاب "سميرفريد" فقد حزتُ عليه – من دون قصد ـ بعد صفقة عقدتها مع أحد بائعي الكتب المستعملة بسور الأزبكية، وبموجبها حصلتُ على غنيمة هائلة من كتب: المغامرون الخمسة للناشئين، مجلد ضخم من مجلدات تان تان، عدد واحد من أعداد السلسلة العلمية "كل شيء عن؟" يدور حول الثعابين والأفاعي، العدد الأول من مجلة ميكي جيب الذي فاتني شراؤه عند صدوره، لكن عندما عدتُ إلى البيت وألقيت نظرة خاطفة على الكتاب أصابتني صدمة مروِّعة وشعرت بالخديعة، فقد حسبته في البداية يدور حول مبادئ فن التصوير الفوتوغرافي بعدما قرأت لفظة "كاميرا" تتصدر عنوان الغلاف، لكنه لم يكن كذلك، والمصيبة الكبرى أنه لم يحتو بين طياته على أية صور لممثلات عاريات من اللواتي كنت أحب مطالعة صورهن بمجلة الكواكب، فقط كانت هناك صورة واحدة سيئة الطباعة بالأبيض والأسود لفتاة صغيرة السنْ تظهر سُرّتها البائسة من خلال فتق مصطنع في قميصها، وقد خلا الكتاب مما يجذبني إليه، فألقيت به غاضبًا وأنا أشعر بالخيبة لاندفاعي في إهدار مصروفي الصغير في شراء ما لا يفيد من الكتب.

أستطيع أن أكتب الآن متلعثمًا في بضع كلمات هي كل ما تبقى لي، وأنا أقتفي تلك الآثار الغامضة التي سممت حياتي ودفعتني إلى السقوط في الشَرَك بعد إحكام سجني داخل قوقعة من الصور والكلمات.

لقد صيرتني في النهاية كتابات "سميرفريد" النقدية عن السينما، والتي شغفت بها منذ ذلك الوقت، إلى كتابة النقد السينمائي وأنا في السادسة عشرة من عمري، متأثرًا بطريقته الشاعرية في الكتابة، والتي عجزت عن التحرر منها حتى الآن، والمرصعة بأفكار سارتر الوجودية، وتقنياته الأسلوبية في قراءة الأفلام وفك شفراتها عبر جملة من الاستعارات الثقافية المنفتحة على التراث الأدبي والفني والفلسفي.

إنها الطريقة الإنسانية الوحيدة ليس فقط لفهم العالم الغامض، وترويضه، عبر دفعه إلى متاهة من الاستعارات اللُغوية في محاولة تأويله وهدهدته، بل أيضًا الطريقة المؤكدة لتهذيبه من الرعب الوحشي الكامن داخله، أن تراه مُتَخيَّلاً كشريط سينمائي يجري من دون توقف، لكنه في ذات الوقت، يستعصي على الإصلاح وتدارك الأخطاء بعد انتهاء مرحلة التصوير أو بالأحرى الحياة.                                                                                      

لقد أرقني طويلاً الصراع  بين "المبدع/الناقد" بداخلي، فكلاهما يسير في اتجاهين متعارضين إلى حد التنافر، لكنهما متلازمان كعاطفتي الحب والكراهية. وإذا كان المبدع، أيَّا كانت مادة عمله، يقوم بتشييد عوالم موازية ومحاكية للعالم بحثًا عن المعنى فيما وراء الأصل المتشظي، مستندًا إلى شروط جمالية أكثر تنظيمًا وعدالة في أهدافها بأن يصيغ من الفوضى شكلاً، ضمن صيرورة متصلة بالسؤال البدئي: "لماذا نموت؟"، فشاغله الأساس هو الخلود والدوام لعوالمه المختلقة. على العكس من ذلك، فإن عمل الناقد وشغله الشاغل هو "الهدم"، أن يقوض ما صنعه المبدع في لحظة انفعاله العاطفي اللاوعي، وهوسه الجنوني بالاصطناع، ليعيد كل شيء إلى سيرته الأولى التي كان عليها فى البدء، ليصل إلى الفكرة التي انطلق منها كل شيء، بأن يذيب "الشكل" إلى عناصره الأولية.

وكما أن العالم لا يمكن أن يعاش هكذا غفلاً من المعنى، كالخراء، كذلك الأفلام والأعمال الفنية والأدبية، لا تدوم حياتها بدون تبرير لوجودها في الزمن: "لا تدوم حياة كائن إلا ما تدومه فكرة"، مثلما يردد خورخي بورخيس في قصصه. والسؤال الفلسفي الخالد: "لماذا أنا موجود هنا؟" من الممكن أن ينسحب أيضًا على الأعمال الفنية التي تظل تطارد "الناقد" وتسائله بذات السؤال الملِّح عبر فعل التلقي الجمالي المتغيّر من حقبة إلى أخرى، بحثاً عن المعنى من وراء خروجها إلى عالم الوضوح والتقنية بدلاً من بقائها في عالم المادة المظلمة "الكاووس" حيث التشوش والاختلاط الكامل، والوجود الغفل الأعمى الذي لا يفقه أسباب وجوده، وحيث يجد "الناقد" نفسه مجبراً على الإجابة على ذات السؤال الذي يواجهه به العمل الفني: "ما الهدف من صنعي وسجني داخل إطار، أو كتاب، أو عبر آلاف الأمتار من شرائط السلولويد ..؟".

عندما أصدر سمير فريد كتابه "العالم من عين الكاميرا" كان يبلغ من العمر آنذاك 24 عامًا، بينما لم تكد حصيلتي اللغوية قد جاوزت حينذاك خمس كلمات بالعدد، كان الكتاب يتناول عبر منهجه في النقد التطبيقي أهم الأفلام التي عرضت عام 1968. إنه العام المحدد لإسدال الستار الفعلي على حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية بكل أفكارها وشعاراتها البراقة، "عام نهاية الأحلام" بتعبير برناردو بيرتولوتشي في فيلمه الحالمون، عندما احتل الطلبة في أحداث مايو شوارع باريس، لتتصاعد الاحتجاجات بعد ذلك، وتتواصل أمام مشهد سحق الدبابات السوفيتية لتمرد "براغ" في 21 أغسطس/آب من نفس العام. فكل شيء كان يشرف على نهايته مثلما كان الناقد الشاب أيضًا يشرف على مفارقة الشعارات والأحلام التي آمن بها وهو يقف عند مفترق طرق يواجه تحولات بلده بعد هزيمة حزيران، والتي كانت تتويجًا لفشل الحكم العسكري لمصر في مساره المضاد لحركة التاريخ.                                      


لقد كانت حقبة مستعرة في كل شيء، وبتعبير آخر: أكثر الحقب في أدبيات تاريخ الثقافة صخبًا وعجيجًا باللغو الأيديولوجي الذي كان يؤججه في ذلك الوقت الصراع بين النظرية الماركسية والرأسمالية، وبين النظم الشمولية والليبرالية، والذي وصل إلى ذروته بإعلان الحرب الباردة، والذي انعكس بدوره جماليًا - وبشكل عصابي - على كافة الفنون المقدمة في تلك الفترة، وأيضًا النظريات النقدية المطروحة آنذاك في السجال الثقافي الدائر حول مفهوم: الفن للفن، والفن والمجتمع، وإشكاليات المثقف العضوي تجاه مجتمعه ودوره في تثوير تلك المجتمعات النامية، ثم مسؤوليته الأخلاقية تجاه النوع الإنساني بكامله، والذي لا يزال مهددًا في الحاضر بتكرار مأساتي هيروشيما وناغازاكي، بالإضافة إلى الانشغال بفضح أشكال وممارسات الهيمنة الاستعمارية والاستغلال الاقتصادي للمجتمعات الفقيرة.


سنوات من الغليان مزدحمة بحروب السيمولوجيين وتناظر العلامات المتطايرة في كل اتجاه، الصراع الحاد بين سينما النثر وسينما الشعر، انتشار الجماعات اليسارية والفوضوية المتطرفة واختلاط المفاهيم بين ما هو ثوري وما هو إرهابي، صعود التجمعات النسوية المنادية بحق الإجهاض، ازدهار سينما المؤلف المتأثرة بكتابات المنظر السينمائي "الكسندر استروك" ونظريته "الكاميرا - قلم"،  شيوع سينما الاغتراب والعصيان ضد الرأسمالية ومفهوم التشيؤ، ووضعية الإنسان المعاصر في المجتمعات الصناعية الحديثة، اختلاط منشورات الغضب السياسي ضد حرب فيتنام بمقولات سارتر وكامو الوجودية بالشعارات المنادية بالحرية الجنسية، وأفكار هربرت ماركيوز، ظهور تيار ما يسمى بالسينما الثورية، اجتياح حمى موسيقى الروك آند رول العالم، تنامي ظاهرة التجمعات الطابوية والمشاعية المنشقة عن مجتمعاتها المدنية.           

تلك كانت المشهدية البانورامية التي كان عليها العالم خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، والتي تقوت عليها الكتاب في أفكاره وتردد صداها عبر تيمات الأفلام التي عكف سمير فريد على تحليلها. أما عن الموضوعات التي كانت مطروحة في تلك المرحلة فتتلخص فى خلق وإيجاد صورة مجتمع جديد وحديث تقوم فيه الثقافة بالدور الديناميكي الفعال في معطيات وجوده وتثويره. ولم يكن هذا الوعي الاستراتيجي غائبًا عن إدراك الناقد الشاب، ومعظم جيله، خلال تحليلاته النقدية للأفلام، والتي كانت مشحونة بكل الإرهاصات السياسية والجمالية التي يتفجر بها العالم آنذاك، بالإضافة إلى السعي نحو إيجاد تيار سينمائي جديد من داخل نطاق السينما المصرية، كأحد الأهداف المهمة من وراء نشر الثقافة السينمائية بين قطاعات مهمشة اجتماعيًا، من أجل خلق إدراكات ذوقية جديدة تناسب تطلعات المجتمع الاشتراكي الجديد.

يكتب سمير فريد فب مقدمة كتابه "العالم من عين الكاميرا": "إن النقد السينمائي في مصر حيوان هلامي لا جسد له ولا عقل، وهو كذلك على المستويين النظري والتطبيقي، ولا غرابة في ذلك فموضوع النقد هو الذي يخلق مستواه، والفيلم المصري باعتباره الموضوع الأساسي للنقد السينمائي في مصر كان لا بد أن يخلق نقدًا هلاميًا بضرورة فساده المزمن". لا تخرج فصول الكتاب عن الانشغالات الجارية في ذلك الوقت مثل مراجعة وتمحيص المفاهيم المغلوطة السائدة عن المذهب الواقعي متتبعًا في ذلك خطى الناقد "محمد مندور"، فيرى أن على السينما المصرية أن تتخلى عن مفاهيمها السطحية عن الواقع باكتفائها بالمظهر الفوتوغرافي للبيئة المصورة، وأن تتجاوز ذلك إلى مرتبة الموقف الفكري الذي يتخذه الفنان إزاء الواقع، عبر استخدام الشكل الفني الملائم للتعبير عن هذا الموقف.


كان يحاول منذ البدء إصابة القلب مباشرة في عملية التذوق الفني، بخلخلة العادات الذهنية المتحجرة لأشكال التلقي، والتي تحتوي داخلها، وبشكل معقد، كافة الموروثات اللغوية لطرق التفكير والتصورات عن "الدين/ الجنس/ السياسة" وصولاً إلى المحرَّم. مررتُ بعينيَّ بين صفحات الكتاب، كان يتنقل بثقة وحماس شاب بين سينمات العالم عابراً من الغرب الى الشرق، ومن الجنوب إلى الشمال، وقد أثملته الشعارات المرفوعة آنذاك، حيث يقدم فيلم "السراب" للمخرج إدوارد ديمتريك قائلاً فى مفتتح مقاله: "ما أعظم أن يعرض على شاشة السينما فيلم كالسراب يدين السياسة الأميركية والحياة الرأسمالية ويعلن أن السلام في أميركا "سراب" في الوقت الذي يأمر فيه جونسون بضرب هانوي عاصمة فيتنام الشمالية المناضلة، ثم يتوجه إلى ضيعته غير عابئ بالرأي العام العالمي، ولا عجب ففيلم السراب صنعه مناضلان، الكاتب هاوردفاست والمخرج إدوارد ديميتريك، من أجل مستقبل أفضل للإنسان". ومن الأفلام المستوحاة عن روايات نجيب محفوظ "القاهرة 30/ خان الخليلي / السمان والخريف"، مقارنًا بين النص الأدبي وكيفية تحوله إلى الوسيط السينمائي، إلى فيلم "هذه الملكية مدانة" للمخرج سيدني بولاك والمقتبس عن الأصل المسرحي للكاتب تنسي وليامز، قافزًا إلى فيلم "معركة الجزائر" للمخرج الإيطالي "جيلو بونتيكورفو"، متبنيًا تساؤلات حول كيفية إيجاد سينما ثورية ترتبط بالجماهير وبالحركة الاشتراكية العربية، والارتباط العميق بين الفن والواقع، معتبرًا أن فيلم معركة الجزائر نموذج للسينما الجزائرية الثورية التي نشأت من خلال الثورة وحرب التحرير الشعبية.                                                                                      

عدتُ إلى البحث بين رفوف مكتبتي عن المقالات النقدية التي كتبها الناقد خلال الثمانينيات، والتي كنتُ أحرص على جمعها واقتطاعها بحرص من جريدة الجمهورية كل يوم إثنين من كل أسبوع، متكبدا عناء غسل يدي في كل مرة ألمس فيها الجريدة التي كانت تنضح في التو بأحبارها السوداء، لقد كانت، في الحقيقة، الجريدة الأقذر على مدار تاريخ صناعة الصحافة منذ اختراعها.                                                                                      

ثمة شيء فارق في حساسيته ورهافته كان قد طرأ على الخطاب النقدي لـ"سمير فريد" متبدَيًا في نظرته وقراءته للأفلام خلال سنوات السبعينيات وما تلاها، كما لو أن الناقد قد طرح عن كاهله حملاً أثقل روحه طوال السنوات الفائتة، وقد بدأ متحررًا من أحمال الستينيات بكل شعاراتها الأيديولوجية، متخففًا من السياقات والتوجهات الرسمية ذات النزعة الديماغوجية في إثارة الجماهير.         
                                                                                     
بالفعل، كان المزاج الجماهيري الكوني قد بدأ تدريجيًا فى التحول إبان تلك السنوات: سنوات التانجو الأخير في باريس وصعود نفوذ سلطة الإعلام والماس ميديا وثورة التكنيك في الأفلام الإباحية مع تعاظم النزعة الاستهلاكية وازدياد تأثير النظرية الثقافية خارج الإطار الأكاديمي لتشمل داخلها كافة الممارسات البشرية على كوكب الأرض.


في نفس الوقت الذي خلع فيه "اليتش راميرتز سانشيز" عباءة الثوري الماركسي المنضوي تحت راية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ليرتدي قناع "ماركوس" الإرهابي ذا الألف وجه، بينما كانت الشكوك تلاحق المفكر الفرنسي "ريجيس دوبريه" حول ما إذا كان قد كرر ما فعله يهوذا بالمسيح، بأن أقدم على تسليم صديقه الأممي "تشي جيفارا" إلى أعدائه، إنها سنوات من التحولات الدراماتيكية التي ستنهي حتما بسقوط حائط برلين عام 1989 ليدشن معه نهاية القرن العشرين، وفي ظني أن هذه الانقلابات هي نفسها التي ساهمت في تحولات الناقد الرؤيوية والمتعلقة آنذاك بأزمته العقلية وحيرته داخل متاهته، أو بالأحرى أزمة العثور على إجابات مطمئنة تتعلق بالأسئلة الجمالية والوجودية القلقة التي يصطدم بها على الشاشة، وهو ما دعاه في ظني إلى إعادة النظر في ما يتصل بأفكاره السابقة، وبتجديد الرؤى إزاء المفاهيم الفنية كما تتمثل في كتابات المفكر الفرنسي روجيه غارودي وبالأخص كتابه الشهير "واقعية بلا ضفاف 1965"، والذي سيصبح منذ ذلك الوقت بالنسبة إليه إنجيله النقدي وقاموسه الذي يقتبس عنه أيضًا استكشافاته، وبشكل إجمالي لرؤية التيارات الوجودية لفلسفة ووظيفة الفن وموقفها من الإنسان والعالم، وتمثيل الجسد فى تموضعه داخل العالم، والنظر إلى الإنسان ككل من ناحيته الواعية واللاواعية، ومحاولاتها التوفيق بين النظرية الماركسية والوجودية. وهي تحديدا الإشكاليات التي ستحتل المشهد السينمائي حتى بلوغ نهاية القرن المنصرم الممزق بين الالتزام العقائدي والديني وبين الفردية الغريزية الخالصة.    


يصف سمير فريد  فيلم "التانجو الأخير في باريس 1970": بأنه أعظم أفلام "برناردو بيرتولوتشي" ففيه يواجه لأول مرة الحاضر الآني مباشرة في زمن تصوير الفيلم، إذ إن كل أفلامه السابقة تدور في الماضي القريب، وفيه أيضًا يحل بيرتولوتشي التناقض بين السينما السياسية التي يصنعها "فرانشيسكو روزي" وبين سينما الرؤى الذاتية التي يصنعها بازوليني، إنه على حد تعبير سارتر في "ما الأدب؟"، أراد أن يجمع بين الظرف التاريخي والمطلق الميتافيزيقي وأن يحقق ما يسمى أدب الظروف الكبيرة". وبعد ست سنوات سيكتب أيضاً عن تحفته التالية "1900" بمجلة الطليعة تحت عنوان "الصراع الكبير بين الاشتراكية والفاشية" قائلاً: "إن 1900 هو تعبير آخر عن سينما الظروف الكبيرة، فهو عبارة عن عناق بين التاريخ والذات".


وعن سينما الرؤى الذاتية يكتب عن بازوليني تحت عنوان "أوديب: خارج التاريخ": جاء بازوليني إلى السينما وقد اتخذ مسارًا خاصًا به منذ أول أفلامه فهو نموذج لفنان السينما الذي يعبر عن رؤية خاصة للواقع من حوله، ورؤية بازوليني للواقع رؤية يسارية واضحة ضد البرجوازية، ولكن بازوليني من ناحية أخرى ينظر إلى العالم نظرة تراجيدية. إنه يلخص على نحو عبقري الصراع بين الماركسية والكاثوليكية في إيطاليا المعاصرة، ويعانق كل التناقضات الفكرية والمادية في عصرنا، وهو في معالجاته الأسطورية يبحث عن الحقيقة الإنسانية المطلقة، إنه يحاول اكتشاف الجوهر ولهذا يضع معالجته لميديا وأوديب خارج التاريخ، ومن ناحية أخرى فإن الأسطورتين تفجران أقصى طاقات الإنسان في تمزيق أكثر المحرمات تقديساً عبر تاريخه كله".


وبعد سنوات طويلة وفي عام 1996 يكتب عن موت بازوليني القاسي، بعد أن صاحب أفلامه طويلاً بالنقد والتأويل، عقب مشاهدته فيلم "نيروليو" للمخرج الإيطالي "أورليو غريمالدي" والذي يدور حول الأسابيع الأخيرة من حياة بازوليني حتى مصرعه، لكنه لا يقرأ الفيلم وهو يكتب عنه من منظور معرفته بالسيرة الذاتية لبازوليني، ومدى مطابقتها لأحداث السرد الفيلمي، بل من خلال استحضاره صوت بودلير في أزهار الشر، وهو يستجلي التيمة الخفية للكراهية التي تستتر وراء مشاعر الحب في فيلم غريمالدي.


قبل ذلك بعشرة أعوام وأثناء انعقاد مهرجان كان السينمائي عام 1986 كتب مقالا بعنوان "القربان أعظم وصية في تاريخ السينما" عن المخرج الروسي "أندريه تاركوفسكي" وفيلمه "القربان" الذي عرض داخل المسابقة الرسمية ونال جائزة لجنة التحكيم الكبرى. كان الناقد ينعى إلى قرائه حياة المخرج الذي باشر تصوير فيلمه الأخير، وهو يعلم بمرضه وأنه في طريقه إلى الموت، بعد أن عانى طويلاً آلام الحنين إلى موطنه وهو في المنفى. وبينما كان الناقد يكتب نصه كان تاركوفسكي يرقد داخل مستشفى بباريس ينتظر اللحظة الفارقة: "إنني أدعو له منذ علمت بالنبأ، لكن كل التقارير الطبية تؤكد أن السرطان يأكل فنان السينما الكبير أندريه تاركوفسكي، وسواء أكان القربان هو الفيلم الأخير لمبدعه أم كان للبشرية حظ تلقي أعمال فنية أخرى منه، فإن القربان هو خلاصة فكر وفن تاركوفسكي ووصيته إلى كل إنسان، وإن بدا مجرد وصية إلى ابنه أندريه الصغير. ظلت لغة السينما منذ بدايتها لغة للسرد القصصي بأساليب مختلفة وكانت المحاولة الأولى لتجربة لغة السينما كلغة فلسفية في فيلم "الختم السابع" إخراج برغمان، ولكنه كان ترجمة للأفكار من لغة الكلمات إلى لغة السينما، ثم جاء تاركوفسكي في فيلم "المرآة" واستكمل المحاولة وقد أوصلها إلى ذروة الاكتمال في القربان باستخدام مفردات لغة السينما للتعبير الفلسفي المباشر عن محنة الوجود الإنساني بين الحياة والموت، والزمان والمكان، والمعرفة والجهل، ومحنة الحضارة الغربية بين الدين والعلم".                                                                                         

ومن وصية تاركوفسكي الأخيرة قبل الرحيل يذهب الناقد إلى وصية كيرواساوا في آخر لقطات فيلمه "أحلام" مفتتحًا بها نصه "كيرواساوا والعودة إلى الطبيعة" وقد أيقن داخله أن سر الفيلم مرهون بترديد تلك الكلمات لإدراك المعنى الخفي من وراء صور الأحلام التي تراءت لرجل في الثمانين من عمره: "عندما يحين الأجل أريد أن أدفن على شط جدول صغير في قرية صغيرة تعيش على طواحين الماء، ودون شاهد قبر، وإنما حجر غيرمسنون يضع عليه أطفال القرية الزهور، ويقولون مرَّ من هنا رجل غريب ودفن حيث مات".                                                                                      

قبل بضعة أيام، وبينما كنت منهمكًا في تأمل ما وجدته داخل صندوقي العزيز عرفت بمرضه الشديد وأنا أطالع مقاله اليومي في الجريدة، كان يعتذر لقرائه عن عدم قدرته الجسدية على السفر لتغطية بينالي فينسيا للسينما، وأن أعباء المرض تدفعه إلى التفكير جديًا في اعتزال كتابة النقد السينمائي بعد ما يقرب خمسين عامًا من العمل المتواصل. كتبتُ إليه على الفور رسالة عَبْر البريد الإلكتروني، رجوته فيها ألَّا يتوقف عن الكتابة مهما كانت درجة الآلام الجسدية التي يحس بها، لكنني كنت أعرف في قرارة نفسي أن ممارسة الكتابة لا تخفف من وهن الجسد بقدر ما تزيد من آلام الروح. أعدتُ قراءة نصوصه النقدية عن أفلام كيرواساوا، وشاهدت فيلم "أن تعيش" مرارًا وتكرارًا، لعله يعينني على أن أفهم شيئًا من صيرورة حياة بلا معنى خالية من الإيمان ومن الفرح.


واستحضرت أمامي ما كتبه بفرح عن فيلمي الأوَّل "أبيقوريّ الجسد والروح" وأنا في العشرين من عمري، دون أن أفهم لماذا وكيف سار كل شيء على هذا النحو المؤلم!؟، لكنني فجأة تذكرت دون مقدمات وأنا أضع الصندوق مكانه في قاع الخزانة، أنني غفوتُ قبل سنوات وأنا أُشاهد فيلم عباس كياروستامي "طعم الكرز" في عرضه الأوَّل بصالة سينما تراس تيفري. مرَّة واحدة سقط رأسي من التعب على كتف زوجتي الراحلة "باولا" الجالسة بجواري، بعد فوات عشر دقائق على بداية الفيلم حيث رحتُ في النوم، فيما كانت تتسلل إلي في تهويمات النعاس أصوات الفيلم الدائر وحوارات الممثلين المبهمة وصوت موتور السيارة وهي تتقدم على طرق وعرة بين المحاجر، في رحلة بحث البطل عن شخص ما لا يعرفه بمقدوره أن يوكل إليه مهام دفنه بعد الموت. وخُيلَّ إليَّ في لحظة عابرة أنه من الممكن أن تدوم الحياة هكذا إلى الأبد كفيلم أو كحلم، وأنا غاف عن كل شيء، غير عابئ بأي شيء من حولي، فليس على النائم حرج.

                                                                                تصورتها فيلمًا له بداية لكنني لا أدري متى سينتهي، وعلى أي شكل ستكون هذه النهاية، حين تظلم الشاشة وتكف آلة العرض عن الدوران ويحل الصمت في القاعة!. إنه أنا وكأني فارقتُ الدنيا بحالها.