Print
فريبا وفي*

حجر برأسين

30 نوفمبر 2015
قص
استيقظ أحمدي حوالي منتصف الليل. لم يتذكّر ما رآه في المنام. كان جسده قد ابتلّ بعرق بارد. أشعل سيجارة وجلس على فراشه. كانت "سوري" نائمة بعيدة عنه وعن الأولاد قريبةً من المطبخ. كانت تبدو، وهي بدون ماكياج، بسيطة وبريئة، أجمل من أي وقت آخر. كان أحمدي يحبّ "سوري"، وهي نائمة، أكثر من الحالات الأخرى. 
مرّة أخرى خطر الليلة في باله، أنّ "سوري" تملك ما يجعلها جميلة ومحبوبة للرجل، حتى لو كان ذلك الرجل عجوزاً مفعماً بالحيوية مثل المهندس.

ابتسم في الظلام ساخراً. ما هذه الأوهام؟ لكن ماذا حصل في طريق العودة من تلك الغابة الباردة الهادئة مما جعل "سوري" غاضبة إلى ذلك الحدّ.
كان أحمدي قد اقترح أن يخرجوا إلى جولة للتنزّه. وصفّق المهندس تصفيقاً له صوت عال.
"ممتاز! ممتاز!"

اقرأ أيضًا : فردتان مختلفتان

كانت أوراق الغابة اليابسة الكثيرة تخشخش تحت أرجلهم، والنهر يواصل طريقه بين الأحجار. كان المهندس يتقدّم أمامهم يُصدر للأطفال صوتاً يشبه صوت بنات الآوى. وكان الأطفال يضحكون بصوت عال، من دون أن يغفلوا لحظة ما يقوم به المهندس.

قالت "سوري": "كم يعوي هذا المسكين!"
قال أحمدي: "الهواء النقي يجنن الإنسان".
كان المهندس قد ارتدى قبعة بيضاء ذات حواف، وكان يغنّي من دون أن يهتمّ بأحد. كان أحمدي يفكّر بالنساء العاملات في الشركة، واللواتي يحاولن إغراء المهندس بألف طريقة، لكنّه لم يكن ليهتمّ بهنّ.

اقرأ أيضًا : ربيع كاتماندو الأزرق

قال لنفسه، إنّ المهندس الذي قضى معظم حياته في الولايات المتحدة، وكان بإمكانه التمتّع بنساء كثيرات، ماذا يريد من قرويتنا "سوري"، وهو يستطيع بأمواله الطائلة، على الرغم من سنّه أن يفتن مائة فتاة بكلمة واحدة تخرج من بين شفتيه. آه ما هذه الأوهام؟!
بدأ أحمدي يضحك. مرّة واحدة فقط وبطريقة محترمة، أخذ المهندس يد "سوري" ليساعدها في الصعود عبر طريق ضيق...هو إنسان منفتح، لكننا منغلقون لدرجة نسيء فهم هذه المواقف. لو كان لديه سوء نية، لما قال لـ"سوري" أمامي، حين وصلنا إلى الشلال: "أنت مثل الطبيعة في البساطة والصفاء".

قال أحمدي بصوت عال: أمامي أنا!
وأشعل سيجارة أخرى.
كانت "سوري" تسيء الظنّ منذ البداية. منذ اليوم الذي اصطحبته إلى الشركة، فانبهرت بجبروت مكتب المهندس الفخم، كما احمرّ وجهها من ابتساماته الفرحة المستطلعة، فلم تردّ على أي من الأسئلة التي وُجّهت إليها ردّاً صحيحاً، كما دقّت الباب وهي تغادر الغرفة!
تذكّر أحمدي، كيف أنّه سخر منها أياماً عدة على فعلتها هذه، وضحك منها كثيراً. كذلك قالت "سوري" يوم وصلوا إلى الفيلا، وهي لا تصدّق ما تراه: "لم أمتْ ورأيتُ، أخيراً، فيلا حقيقية".

وكان الأولاد يحدّقون في الحطب الذي يحترق في المدفأة الخشبية.
انحنى أحمدي احتراماً: "تحياتي!"
ومسّد المهندس على ظهر "سوري".
"أنت يا سيدتي، اجلسي أمام النار... أنا أعدّ العشاء الليلة، ما رأيك؟ سمك الحفش المشوي جيد؟"
واشتغل المهندس بالأسماك. وانفجرت "سوري" ضاحكة.

"بحياتك يا أحمدي... يبدو أنّ مهندسك هذا سحب جلداً قاسياً لحيوان على وجهه كي لا تخرج عظامه!"
لم يضحك أحمدي.
"أنت ناكرة للجميل يا "سوري"... هذا جزاء حفاوته هذه..."
"ليس العيب عليّ، العيب كلّه على زمن لا يصدّق أناساً يعاملون الناس بحنان مجاناً".
نقّ أحمدي: "مجاناً... لا تعلمين أنت، كم ضحيت أنا من أجله". أغمض أحمدي عينيه وفكّر لو أنّه تنفّس عميقاً، سيشعر بهواء الجبل النقي الذي يدخل رئتيه ويدوّي في قلبه وروحه خريرُ مياه الشلال الذي يتدفّق من قلب الجبل.
هتفت البنت قائلة: "اُنظروا إلى فم الشاهين..."

اقرأ أيضًا : قصة الأرنب والبندورة

كان في قمة الجبل حجر يشبه رأس شاهين فتح فمه باتجاه السماء.
ضحك المهندس.
"هذا حجر برأسين. حجر الخيانة. له قصته".
قفز الأولاد من الفرح وهم يصفّقون.
"يا سلام... القصة!"
"قبل كلّ الشيء اُنظروا إليه بدقّة".

والآن، كان بإمكانهم رؤية رأسين لإنسانين متقابلين على جسد واحد. كانت الشمس قد اختفت تماماً، والضوء الخافت لمصباح المهندس اليدوي، هو الضوء الوحيد في ظلام الغابة. كان المهندس يمشي خطوات إلى الأمام ثمّ يقف ليضيء الطريق للآخرين.
"... كان هناك راع قبيح جداً، وجهه يشبه وجه بناتٍ لآوى... حين يكون الإنسان قبيحاً وفقيراً، لا تقبل أيّ امرأة بالطبع الزواج منه. لكن شاءت الأقدار، وأصيبت بنت مختار القرية الجميلة بمرض لم يستطع الأطباء أن يجدوا طريقاً لعلاجه. حينئذ قال المختار، أزوّج بنتي لمن يُشفيها من مرضها. ويسمع الراعي الخبر ويجد في الجبال عشباً فيه دواء لداء بنت المختار.

وتتحسّن البنت فلا يرى المختار أمامه سوى تزويجها من الراعي القبيح. حين أصبح الراعي وبنت المختار عروسين أقسما بالله ألا يخون أحدهما الآخر، فمن خان تحوّلَ الاثنان إلى الحجر. هذا الحجر علامة الخيانة. سوف أقول لكم، إنّ الراعي كان خائناً..."
كان صوت المهندس يبتعد ويقترب، والغابة مخيفة تدوّي فيها أصوات غريبة مجهولة. كان المهندس قد أعطى المصباح اليدوي لأحمدي، ماسكاً قبعته بيده، وهو يتنفس أنفاساً متقطعة. أمسك أحمدي يد "سوري". كانت "سوري" ترتجف. حين وصلوا إلى أضواء الفيلا، كان وجه "سوري" شاحباً.

"يكفينا! يجب أن نغادر، هنا، غداً".
قال أحمدي: "طفح كيل فرحك ... فاشتقتِ إلى بيت الأشباح المصطبغ بلون الدخان بصاحبه السيء... لا أريد أن أرى البيت اللعين ثانية".
قالت "سوري": "هذا لا يغيّر شيئاً من الواقع الذي نعيشه".

لم يكن هذا فقط. كان المهندس قد أعطى وعوداً كثيرة. لم يكن إنساناً بخيلاً يخاف الإنفاق.
فكّر أحمدي: هو جنتلمان حقيقي.
ذهب أحمدي ووقف أمام صورة زوجة المهندس الكبيرة، ثم قال بصوت عال: "انظري، كم هي شابة وجميلة".
قال ابنه: "مثل بنت المختار تماماً".
حين وصلوا إلى البيت، تنفسّت "سوري" الصعداء.
"بيت الإنسان أفضل في النهاية من أي مكان آخر!".

كان أحمدي غاضباً.
هذه مشكلة القرويين... لو ذهبوا إلى أفضل الفيلات في العالم، يفضّلون في النهاية كوخهم الوسخ".
كان غاضباً من "سوري" لأنها لم تودّع المهندس باحترام، فاضطر أحمدي إلى أن يتذرّع بوجع في رأسها ويودّع المهندس نيابة عنها.
قالت "سوري": "والله نحن مصابون بسوء التغذية... عند المهندس النهم، نفهم أننا جائعون حقاً في بيتنا. سمك الحفش!".
قال الأولاد بصوت واحد: "الحفش بالنارنج..."
قال أحمدي: "الششليك بالفلفل... كبدة الخروف الطازجة..." وضحك فرحاً.
"سوف نذهب ثانية لنأكل كلّ ما نريد".
قالت "سوري": "دعنا يا رجل ..."
قال أحمدي: "أدع؟ ... سوف يأتي المهندس إلى بيتنا يوم الخميس".
ونظرت "سوري" إليه باستغراب.
قال أحمدي: "قال هو، سأزوركم في بيتكم ... هو إنسان متواضع جداً..."

كان الخميس غداً، و"سوري" لم تكن تنبس ببنت شفة. كانت السماء قد بدأت تضيء، حين بدأ الدفء يتسلل إلى عيون أحمدي، والحجر برأسيه في قمة الجبل يكبر بسرعة خلف جفنيه. كان أحمدي وحيداً، وهو يصعد إلى قمة الجبل. كان يتنفس أنفاساً متقطعة، ثمّ يقف. كان الحجر يشبه فماً مفتوحاً لشاهين. قال في نفسه، إن المهندس اخترع القصة كي يكون لديه شيء ليقوله في تلك الغابة الباردة المطبقة بالصمت. كان خرير الشلال يدوي في الجبل، وهو يصعد الجبل بصعوبة. لم يكن بينه وبين الحجر إلا مسافة قصيرة. كانت السماء صافية زرقاء. كان قد بلغ القمة وصوت الشلال قد غاب. كان الصمت المطبق مثيراً للجنون. واتجه إلى الحجر، وعرق بارد قد بلل جسمه، فجعله يرتجف. حاول أن يتذكّر من الذي قد خان. الراعي أم زوجته؟ لام نفسه على اجتيازه طريقاً طويلاً لرؤية ذلك الحجر. مدّ يده. كان بإمكانه تلمّس الحجر. سأل نفسه: هذا ظهر الراعي أم ظهر زوجته؟

كان الحجر متجمداً بارداً قاسياً. كان قد وصل إلى قلب الحجر بالرأسين، فظلّ ينظره بأنفاس محبوسة. زوجان من العيون الحيّة الشفافة كانا قد حدق بعضهما في بعض. كانت عينا المهندس على حجر تقابلهما عينا زوجته الجميلتان على حجر آخر.

استيقظ فجأة، وطلب من "سوري" أن تسخن له شيئاً من الماء، فتصبّه على رأسه الذي كان قد أصبح حجراً، ثقيلاً.
قال لـ"سوري"، وهو ينشف رأسه ووجهه: " أينقصكِ شيء هذه الليلة؟".

الترجمة عن الفارسية سمية آقاجاني ويدالله ملايري