Print
رشيد الحاج عبد إغباريـة

فقاعة

17 نوفمبر 2016
قص

 

جلس كعادته كل صباح يتناول فنجان الكابوتشينو مع الكوراسون في "مقهى فتوش" في شارع "أبو النواس"، شعره الطويل المجدّل على الطريقة الأثيوبية ينسدل على بلوزته البيضاء النظيفة من ماركة رالف لورين، مطرٌ خفيف يبدأ بالتساقط فيخرج كاميرا "كانون" الرقمية ذات العدسة شديدة الحساسية، ليصور الشارع مع ذرات المطر المتأرجحة في الهواء.

يعود الى صديقه ليتشاورا في كيفية وصولهم الى المظاهرة القُطرية اليوم نصرة للقضية الفلسطينية، يصر على صديقه أن يأتي معه في سيارته الرياضية بدلاً من الباص، ويطلق يده لتحتك خطأً بمؤخرة النادلة المارة فتذهب ويعود بدلها نادل وقح يتحدث معه بصلافة، وحتما لن يحصل على "التيب".

مظاهرة جبّارة ضد الكيان الصهيوني، وضد الإمبريالية العالمية ورأس الأفعى الصهيوأميركية. فأميركا هي أم الشرّ وهي أساس مصائب البشرية وكل ما يصيب الشرق من دمار وخراب. وهو يعرف هذه الأفعى عن قرب لكونه درس في مدرسة صيفية اللغة الإنجليزية في نيويورك حيث يعيش خاله. خاله الذي خرج مع جده الى باص عمان وبقي هناك، لتتحول العائلة الى عائلتين، عائلة جدته وبناتها، وعائلة جده الذي تزوج من جديد، التقت بهم أمه مرة أو اثنين  في بلاد محايدة. سافر خاله ليكمل شهادة الدكتوراه في هندسة الحاسوب وبقي هناك محاضراً مساعداً ثم محاضراً كبيراً.

يتشعب الحديث مع الصديق ... "كل المدراء خونة"، ويكمل في سره ما عدا والدي طبعا، فهو لا يصدق صفقة الأراضي المصادرة للكوبّانية المجاورة لقريتهم مقابل تعيين والده. جده المختار يشهد له الكل بأنه كان السبب بعدم تهجير القرية عندما ذهب بنفسه للتحدث مع قائد الجيش الذي وصل الى المنطقة في عام النكبة.

والده مدير مدرسة في حيفا منذ عقود، وهو للسنة الرابعة على التوالي يدرس في جامعة حيفا حيث درس سنة أولى علوم طبية (أملا في الانتقال الى الطب) ليكتشف أنه لا يحب المواضيع الطبية، ثم سنة أولى كيمياء في "التخنيون" (أملا في الانتقال الى الصيدلة) ليكتشف أن هذا الموضوع لا يلائمه متجاهلا أنه تم طرده من التخنيون بسبب معدله المتدني، ثم سنة أولى فلسفة مؤملا نفسه أن هذا موضوعه المفضل حيث مكانه في الإبداع ليكتشف أن الموضوع ممل جداً ولا يستطيع أن يستنفر حواسّه للدراسة أو المتابعة، وها هو هذا العام يدرس سنة أولى علوم مسرحية، ليس أيضا الموضوع الذي أراده تماما ولكنه على الأقل نجح- بصعوبة- في الامتحانات.

لديه ساعة قبل أن تبدأ دوريته في مطعم "الماكدونالدز" كنائب رئيس فرع، وحاليا يخطط لكتابة لافتات شديدة اللهجة باللغة الإنجليزية ضد العنصرية والفاشية والدعم الاقتصادي والعسكري الأميركي لإسرائيل. ويساعد صديقه أيضاً في تعبئة بعض الاستمارات أملا في الحصول على دعم لجمعيتهم من صندوق فورد، حتى يستطيعوا بناء مسرح طالما حلموا ببنائه.

المظاهرة في السابعة، بعد انتهاء ورديته مباشرة، ولكنه يعرف أن المواعيد العربية تعطيه نصف ساعة على الأقل قبل أن يبدأ "الأكشن"، المظاهرة في الناصرة وقوات الشرطة بدأت احترازياً في إيقاف المخططين ومنظمي السفريات، ومن الممكن أن تمنع الشرطة الباص من الوصول إلى المظاهرة.

أما سيارته الرياضية المكشوفة فلن يشك أحد أنها في طريقها إلى المظاهرة. ذهب إلى العمل ليس قبل أن يدفع الحساب عنه وعن صديقه المفلس. اسمه "أمير" ولكنته العبرية الإشكنازية تموه عروبته، وذلك خفف من شكاوى الزبائن ضده وساعده على التقدم. مرّ اليوم على خير وانطلق ليأخذ صديقه وشخصين آخرين من معارفه. حمّل اللافتات في السيارة وانطلق.

حضور المظاهرة متوسط، وجد مكانا في موقف بدفع عشرين شيكل سلفا عن كل اليوم تحسبا لما سيأتي، نزل الى المظاهرة التي توشك أن تتحرك.

هتافات يحفظها عن ظهر قلب، ضد الحكومة وضد العنصرية، وضد الشرطة وخيالتها الذين يشبهون الجزار صباح عيد الأضحى قبيل موعد الذبح تماماً.

وصلت المسيرة إلى دوار الشارع الرئيسي الموصل الى المدينة اليهودية، الشرطة لن تسمح بإغلاق هذا الشارع، يمكنك أن تغلق الناصرة كلها إن شئت وأن تحرقها أيضاً، لكن حذار من الاقتراب من هذا الشارع. وما إن اقترب بعض الشباب، حتى فتحت الشرطة أبواب جهنم دون إنذار مسبق، الهراوات تضرب كل من تواجد في المنطقة، والعيارات المطاطية تتطاير كالشرر حولهم، القنابل المسيلة للدموع تتناثر كالرز، الشباب بدأ بالهروب، حجر وهروب، الشرطة أيضاً تلعب اللعبة نفسها حين تنسحب تكتيكيا ثم ينطلق أفرادها لالتقاط واعتقال كل من يمر بطريقهم .

تباً لهذه الكندرة، لا تسمح له حتى بالمشي السريع، وهو بطبيعته ذو بنية مترهلة، يكره جميع أنواع الرياضة، حتى مشاهدتها بالتلفزيون تتعبه، الشباب يركضون متراجعين ويحذرونه من خيال يلح في افتراسهم، الكل يسبقه. 

تبّاً... الخيل يقترب بسرعة وكل الشباب قد سبقوه، صوت حدوات الحصان على الشارع الإسفلتي تقترب بسرعة.

ضربة هراوة على الرأس و ..... هدوووووووء .

استيقظ في المعتقل المعتم مع وجع شديد في الرأس، لم يتعرف على أي من المعتقلين، شباب في أجيال مختلفة يتحدثون بحرارة غير مألوفة له، يشدّون أزره ويواسونه، تكلّموا كثيراً وجميلاً، خطط وبرامج لخط دفاعهم مع المحقّق، تحذيرات من "عصافير" يغردون، رأسه تؤلمه، والوقت يمر ببطءٍ شديد.

تحسس جيبه ليجد مفتاح السيارة ما زال هناك، نأى عن أحاديثهم ليتخيل سيارته وقد اخترق دهانها مسمار معدني من أولها الى آخرها، فبدت عليه معالم الضيق والقلق.

لاحظه أكبر المعتقلين الذي كانوا ينادونه "أبو عرب"، طمأنه وحاول أن يهدئ من روعه: "ما تخافش، فش إشي يعملوه، المظاهرة قانونية وإذا ما في صورة إلك بترمي حجارة رح يطلعوك".

ضوء الزنزانة ثابت لكن تيقن من موعد الفجر، فساعته الرقمية تشير إلى الساعة الرابعة والنصف صباحاً، منعه الجوع وشخير بعض السجناء من العودة الى النوم.

في الثامنة تماماً بعد أن سهر والده أيضا خارج الزنزانة، حضر الضابط المسؤول، وأمر بإحضاره.

تلعثم ولم يعرف ماذا يقول لباقي السجناء، خرج واجما إلى غرفة جانبية لضابط كبير.

والده جالس هناك، نهض واحتضنه، ثم بدأ بتوبيخه على تهوره وحضوره المظاهرات التي لا تنجح إلا بالإخلال بالنظام وزرع الفوضى والخراب.

وأخرج أمام الضابط ورقة قبوله للتعليم المسرحي في جامعة كولومبيا، وجد صعوبة بلجم فرحته الكبيرة، فلهيب كلام السجناء ما زال مشتعلا في رأسه.

نبهه الضابط الى ضرورة عدم الانجرار أمام هؤلاء المخرّبين، وتكلم معه بعربية عامية لا تخلو من لكنة عراقية: "إحنا عشان الوالد سامحناك هالمرة، بس المرة الجاي مش رح أسامحك".

 
خرج من السجن، جلس في سيارة والده المرسيدس، تناول ساندويش الشاورما الذي أحضره له بثلاث لقمات، وأغمض عينيه متخيلا نفسه في طائرة تعبّ شواطئ نيويورك لتمر مسرعة فوق تمثال الحريّة قبل أن تحط في مطار كينيدي.

*قاص من حيفا/ فلسطين 48


(لوحة للفنان الفرنسي روبرت دولونوي)