Print
ميسون شقير

إغناثيوس دي تيران: الثقافة العربية عصيّة على التبسيط والتنميط

10 سبتمبر 2019
حوارات
يطالعك بكل ألفة وود كأنه العربيّ الذي أهدتك إياه الحياة في إسبانيا البلد الأوروبي الغريب عنك، يتحدث معك بلهجتك، وحين يتعمق الحديث تكتشف أنك أمام مستعرب قادر على أن يدلك على نفسك، ربما أكثر مما استطاعت كتب تاريخك أن تفعل ذلك، مستعرب قادر على ترجمة أوجاعك مثلما هو قادر على ترجمة أدبك إلى اللغة الإسبانية، مستعرب أمضى أيامه بين دراسة اللغة العربية وعشقها، وبين التعمق في التاريخ المعاصر لكل ناطق بها، والوقوف معه كأنه ابن جلدته.. إنه الدكتور إغناثيوس غوتيريث دي تيران غوميث بينيتا، الذي ولد في مدريد عام 1967، والذي يعمل كأستاذ أساسي للغة والأدب العربيين والتاريخ المعاصر للعالم الإسلامي، فهو أستاذ متخصص في بحث وتحليل وتدريس مسيرة التطورات الديمقراطية في العالم العربي، في قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة "أوتونوما" بمدريد. وكان قد أنجز رسالة الدكتوراة في العام 2000 وموضوعها "العلاقات الطوائفية في لبنان وسورية من حقبة التنظيمات العثمانية إلى نهاية القرن العشرين" ونشرت لاحقا على هيئة كتاب جامعي في دار النشر "كانتارابي- جامعة أوتونوما" عام 2003.
كتب عدة مقالات في الأدبين الإسباني والعربي، وفي واقع العالم العربي المعاصر آخرها "الثورات العربية، مسيرة متواصلة" (2017)، و"اليمن، مفتاح العالم العربي المنسي" (2014)، و"تقرير حول الثورات العربية" (2012، باللغة الإسبانية)، كما ألف عددا من الدراسات في الأدب الكلاسيكي العربي ونقل إلى اللغة الإسبانية "رسالة للجواري والغلمان" للجاحظ (2018)، و"دراسة في الجنسانية العربية: الروض العاطر" (مدريد، 2015)، وقبلها "نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب" لشهاب الدين التيفاشي (1999). وله بحوث أيضاً في مجالات أخرى كما في الكتاب الجماعي "المجتمع المدني في العالم العربي اليوم" (2014).
ونقل إلى اللغة الإسبانية روايات عربية معاصرة لكتاب مثل إبراهيم الكوني، إدوار الخراط، مريد البرغوثي، عالية ممدوح، بهاء طاهر، غسان كنفاني، مازن معروف، ومصطفى خليفة. كما ترجم لكل من الشعراء محمد الماغوط، سميح القاسم، محمود درويش، وسعدي يوسف.
وترجم إلى اللغة العربية بعض الأعمال الأدبية الإسبانية كـ"رحلة علي باي إلى المغرب" (2005) وشارك في أسبنة "تاريخ الأدب الإسباني المعاصر" (2006). ونشر مقالات بالعربية في صحف ومجلات عربية، كما ساهم في دراسات ومؤلفات متعددة تبحث في أدب الرحلة ومنها المقال المدرج في المجموعة التي نسقها الأديب نوري الجراح ("رحالة عرب ومسلمون"، الدوحة، 2011) أسوة بكتابات تحاول تسليط الضوء على مسألة التسامح الديني و"حوار الأديان" في عهد الأندلس كما في المؤلفة المنشورة في كل من العربية والإنكليزية والصادرة عن دار إي. بي تاوريس بلندن "الإسلام والغرب أو الحوار الحضاري" (2013). ونشرت له قبل فترة دراسة عن اللغة والثقافة العربيتين في إسبانيا مع مجموعة من الباحثين الإسبان يكتبون بلغة الضاد (2016، مركز خدمة اللغة العربية، الرياض).
كما أنه كان شارك في فعاليات ومؤتمرات ومنتديات في كثير من الدول العربية من المغرب إلى الإمارات المتحدة العربية ومصر واليمن والمغرب وسبق أن كان طرفا في معارض للكتاب في بعضها.
أما على صعيد الإداري، فقد تولى تنسيق الدراسات الأفريقية والآسيوية وهو الاختصاص الذي تندرج فيه مقررات اللغة والثقافة العربية في جامعة أوتونوما، وسبق أن أشرف كذلك على ماجستير "العالم العربي المعاصر" القائم في المؤسسة الجامعية نفسها، وكان قد تبوأ أمانة سر قسمه للدراسات العربية والإسلامية طوال عقد من الزمن. وقد حصل على مرتبة المترجم المحلف (عربية- إسبانية- عربية) في العام 1998 وهو المتخصص في الترجمة الأدبية والتقنية.
في مساحة ضيقة من الوقت، واسعة من الفكر، كان لـ"ضفة الثالثة" هذا الحوار معه:


مفاعيل سد
آفاق الديمقراطية
(*) كباحث في الدراسات العربية المعاصرة، ما هي برأيك أهم معوقات التقدم العربي في الفترة الحالية؟
من المعوقات الرئيسية تفشي الجهل والمعرفة الضحلة وتدني المستوى التعليمي وهي ظاهرة عالمية ولكنها تبلغ مبلغا خطيرا جدا في الدول العربية، زد على ذلك بقاء نخب سياسية وعسكرية واقتصادية تنأى بنفسها عن الوطنية النزيهة والغيرة على رفاهية مواطنيها وتطوير بلادها وإنما تكتفي بمراعاة مصالحها الضيقة والتبعية لأي قوة خارجية تضمن لها البقاء والانفراد بالسلطة. تلك الجماعات الانتهازية المتسلطة عاكفة على سد آفاق الديمقراطية وخنق الكلمة الحرة وإسكات الأصوات الناقدة، يساعدها في ذلك رجال دين ودولة وتجارة يتآمرون على مصالح الناس. وحرم المواطن العربي من حقه في الحديث الحر والعلم المستنير والعمل

السياسي البناء، ومن الصعب جدا التغلب على كل هذه السلبيات، ولذا فإننا نجد أنفسنا في عمق دائرة مفرغة يتعذر الخروج منها. فالمجتمعات العربية، وقد تجاوز عدد الشبان دون الثلاثين نسبة الخمسين في المائة من مجموع السكان في بعض الدول، تتطلع إلى التغيير والتنمية المادية والروحية ولكنها تفتقر إلى الوسائل الكفيلة بتحقيق هذا التغيير الجذري فلا تمتلك القدرة المادية لأن وسائل الإنتاج والموارد محتكرة لدى طغمة حاكمة تهمشها ولا تتوفر لديها ثقافة سياسية متطورة فتبادل الرأي والنقاش العلني أمر منهي عنه، زد على ذلك تواطؤ الخارج، لا سيما الغرب المتبجح بمساندته المزعومة للديمقراطية في كل مكان، مع الحكام العرب المتسلطين من أجل الحفاظ على مصالحه الاقتصادية وممارسة استعماره الجديد المبني على نوع من "الإدارة من الباطن". وما أشعر به حين أسافر إلى بعض الأقطار العربية أو أتحدث مع المغاربة والمشارقة القاطنين في إسبانيا هو أن الأوضاع الاقتصادية، مع عدد من الاستثناءات، هي من سيء إلى أسوأ وكذلك الانغلاق السياسي في سياق تثبت فيه الأنظمة المعنية عجزها أو عدم إرادتها في إسداء خدمة صالحة لشعوبها، في حين نستفقد مفكرين ومثقفين وممثلين عن المجتمع المدني، إن كان هناك أصلا شيء اسمه "مجتمع مدني"، يستطيعون مجابهة السلطة والتعامل بجدية مع القضايا الرئيسية وفتح القنوات اللازمة لتنسيق مطالب مواطنيهم. وأمام مشهد مزر كهذا لا غرابة أن يسود الإحباط والخيبة والرغبة في الهجرة. ولا يظنن أحد أني متشائم لا أرى خيرا في الشعوب العربية بل بالعكس، أنا على يقين من أن حالة الانزعاج والتململ ستمهد الطريق إلى انتفاضات شعبية إيجابية تعكس القوة الروحية للشعوب العربية. بدأت الأمور بالتغير وإن ببطء، فالمشوار طويل وحافل بالمنعطفات والمطبات ولكنه مستمر، وما حدث مؤخرا في كل من الجزائر والسودان، مهما بدا محدودا إزاء مؤسسات حاكمة تمسك بجميع موارد السلطة، يبرهن على طاقة معنوية لا يستهان بها.

(*) ما الذي دفعك لدراسة اللغة العربية والأدب والتاريخ العربيين مع أنها لغة صعبة ليتعلمها الغرباء؟ وهل للتاريخ الذي جمع الإسبان مع العرب يوما دور في اختيارك؟
كلما وُجه إليّ هذا السؤال، وقد أصبح معتادا في أيامنا المضطربة هذه عربيا وإسلاميا، أتذكر أحد الزملاء الذين التحقوا بقسم الدراسات العربية في جامعتنا بمدريد (أوتونوما) بعد انتسابي أنا إليه بسنوات، وكان الرجل يرد دائما على من يطرح عليه السؤال ذاته بأنه اختار هذه الدراسات لأن المسلمين عموما والعرب على وجه الخصوص "مظلومون" يتعرضون للإجحاف والضير والأحكام المسبقة ولذلك فإن هذه الظاهرة المنحرفة غير العادلة تستلزم من يتصدى لها ويناصرهم، ليس من أجل تبرير أخطاء العرب والمسلمين وخطاياهم، وهي جسيمة على كل حال، وإنما في سبيل إعادة الاعتبار إليهم ومعالجة قضاياهم بقدر مقبول من الإنصاف والموضوعية، وهما جزءان لا يتجزآن من مقاربة صادقة علمية دقيقة تزمع التوصل إلى حقائق ملموسة، إلا أن الموضوعية والاتزان والروية هي سمات تغيب في غالب الأحيان عن التحليلات الراهنية بشأن العرب والمسلمين وظروفهم. وكان موقف صاحبي هذا يحملني بدوري إلى تساؤلات عن ماهية ما يُروّج عن "لا حداثة" العرب و"تخلفهم" و"سلبية" حضارتهم ودينهم ومجتمعاتهم، وسائر الأحكام الجاهزة الواردة في كم هائل من الكتب والدراسات والتعليقات الصحافية ومؤخراً مفرزات مواقع إنترنت. وقد ازدادت الأمور خطورة بعد أن تحول "الإسلام المتطرف" و"غزو المهاجرين المسلمين" و"فوضوية العالم العربي" إلى تحد كبير يهدد العالم بأسره. وكنت أتساءل ماذا دفع بي إلى اختيار هذا الاختصاص المتواضع القليل الانتشار ومحدود الفرص المهنية؟ فكنت أظن أني ذهبت إلى الشؤون العربية افتتانا بجمال اللغة وتاريخ الحضارة الإسلامية، علما بأن وطني إسبانيا شكل يوما جزءا من أجزائها، ولكن ربما أدى الدافع العاطفي، أو قل السعي إلى التضامن مع من جرى التجني على حقه المشروع، دورا في هذا الميل وإن لم أكن واعيا بحقيقة الأمر، الله أعلم.

ثقافتنا الغربية الرسمية تلح على
إظهار الجانب السلبي فقط للعرب والمسلمين
(*) كأستاذ محاضر لمادة التحولات الديمقراطية في العالم العربي، هل تعتقد أن الشعوب العربية لا تزال قادرة على الوصول إلى الديمقراطية المنشودة، وما هو رأيك بشكل خاص بالوضع السوري الكارثي؟
إن إحدى الصور الأكثر تحريفا وتشويها وإيذاء لما أفرزته "المنظومة الثقافية الغربية" بخصوص "الواقع" العربي هو القول بأن الممارسة السياسية العربية الإسلامية معادية بالسليقة لمبادئ الحرية والديمقراطية والتبادل في السلطة ولذلك اتسعت رقعة الاستبداد والطغيان في العالم الإسلامي. وتبقى هذه الرؤية راسخة ليس فقط لدى شرائح واسعة من الرعايا الغربيين

وإنما ألفيناها متجذرة لدى أشخاص يعدّون أنفسهم مفكرين وباحثين وأساتذة مرموقين في الجامعة ومراكز البحوث الراقية. ومرة أخرى نعود إلى القول بأن الراهن العربي له سلبيات كثيرة ولكن ثقافتنا الغربية الرسمية تلح على إظهار الجانب السلبي فقط للعرب والمسلمين، والأسوأ أن هذا الإلحاح يتم في المعتاد من خلال الترويج لمقولات مؤدلجة مسيسة تعسفية. وبرهنت الثورات العربية، مهما كانت نتائجها الإجمالية مخيبة للآمال في العديد من الحالات، على أن هذه المجتمعات العربية الشابة تقدر على طرح الحلول الذاتية والبحث في مشاكلها بطريقة بناءة، فرأينا تجارب رائعة للحكم الذاتي وتشييد ظواهر مؤسساتية محدودة النطاق في عدد من الدول، شأنها شأن سورية في مراحل الثورة الأولى في مناطق أخرج منها رموز النظام وتولت لجان محلية الإشراف الإداري عليها، ثم جاءت هجمات العمليات العسكرية الموسعة والقصف الجماعي ووراءها الفصائل الجهادية والتدخل المباشر للقوى الإقليمية والدولية وتتمة القصة معروفة للجميع. وكان ذلك النظام المجرم قد سقط لا محالة لولا تدخل قوى خارجية معينة واتفاق دول القرار على أن بقاءه يشكل شرا لا بد منه يخول للكل الاحتفاظ بقسط مرسوم من النفوذ على ما يجري في سورية. ولكن الطاقات الروحية والفكرية للانتفاضات العربية، كما نراها اليوم في السودان والجزائر على سبيل المثال، لا يمكن إنكارها، وإن كانت تلك الشعوب لا تنعم بأي دعم من الخارج ولا بموارد مالية وإرهاصات المجتمعات المدنية الناضجة أو أحزاب سياسية نزيهة موثوق بها، ويجوز اعتبار هذه الثغرات والنواقص ناتجة عن تراكم دام عقودا طويلة من الحكم المتسلط والتضليل الثقافي والتجهيل الممنهج والتلاعب بالدين والشعارات القومية الرنانة.

(*) إلى أي حدّ أثرت الديكتاتوريات التي حكمت العالم العربي باسم التقدم، والمرجعيات الإسلامية التي تحكم العالم العربي باسم الإسلام السياسي، على افشال عملية التقدم الطبيعية وعلى تأخر العرب؟
تلك الدكتاتوريات سواء أكانت تدعي العلمانية أو تتباهى بتطبيق الشريعة الإسلامية تتحمل قدرا كبير جدا من المسؤولية فيما يتعلق بأحوال الشعوب العربية المتردية ثقافيا واقتصاديا وسياسيا، ولا يمكن أن نترجى خيرا منها، وحبذا لو أدت الحركات التغييرية المندلعة في بعض الدول العربية إلى زوالها، ولكن المأساة أنها تبدو، في الدول العربية العظمى على الأقل، أكثر متانة وقوة من ذي سابق وهي مستعدة لقمع أي محاولة من شأنها التمهيد للتعددية والعدالة الاجتماعية وحرية التعبير الحقيقية. وكم يؤسفنا أن نرى مواظبة بعض الأنظمة على تشويه المبادئ الإسلامية واستغلالها لأغراض رخيصة لا علاقة لها بتعليمات الدين الحنيف. الواضح أن المنظومة السياسية العربية التقليدية فاشلة تحتاج إلى تعديل جوهري، وهذه رؤية تشترك فيها نسبة عالية من المواطنين العرب، إلا أن المعضلة الرئيسية تكمن في إيجاد السبل الكفيلة بتحقيق هذا الغرض النبيل.

الثقافة العربية بحر
(*) كمترجم لعدة كتب من العربية للإسبانية، ما هي المعايير التي تجعلك تختار كتابا لترجمته وتقديمه للمجتمع الإسباني؟
من حيث المبدأ أحرص على التقيّد بمعيارين اثنين، أولهما أن تكون المؤلفات القابلة للترجمة قد أثارت اهتمامي فبدت لي ممتعة ومفيدة في الآن نفسه، أما المعيار الثاني فهو أن أحس بأنها ذات أهمية وجدوى بالنسبة للقارئ الناطق باللغة الإسبانية وذلك لأنها تكشف في نظري عن جوانب غير معروفة للحضارة العربية والإسلامية أو لكونها تعالج قضايا قد تكون جديدة أو

مفاجئة للجمهور ذاته. والحق يقال إن هناك قائمة تطول من العناوين القديمة والحديثة القمينة بالنقل إلى اللغة الإسبانية والتي لم تترجم سابقاً لأسباب أجهلها، برغم ما تجود به من إبداع وأصالة. وحاولت أن أسير على هذا النهج مع منتخب من "كتب الباه" العربية الشهيرة بما فيها إحدى رسائل الجاحظ – ولما يحظ كاتبنا العظيم بقسطه من الترجمة بالإسبانية- وصادفت قراء كثيرين أقروا لي بعد قراءتهم "رسالة الجواري والغلمان" أو "الروض العاطر" أو "نزهة الألباب"، وقد نقلتها مؤخرا إلى الإسبانية، بأنهم لم يتوقعوا قط أن تكون الحضارة العربية الإسلامية الكلاسيكية "هكذا"، وعندما أستفسرهم عن معنى "هكذا" والمراد بها يزيدون أنهم يقصدون "تعددية المواقف والجوانب"، "الانفتاح"، "الديناميكية" وما شاكل، وهم المواطنون الغربيون المفروضة عليهم الصورة السلبية النمطية المشاعة من وسائل الإعلام والأوساط الفكرية المعتمدة بخصوص "سلبية" الإسلام وتحجره وركوده وتخلفه المزمن، وجميل أن ينتبه القراء الأوروبيون إلى أن الثقافة العربية بحر وهي عصية على التبسيط والتعميم النمطي. ومما يدل على انحطاط الأنظمة العربية التقليدية شغفها بمنع حتى روائع التراث العربي الإسلامي إذا كانت تتطرق إلى أمور "شائكة" مثل الجنس، سواء كان مؤلفو تلك المؤلفات من العلماء والفقهاء والحكماء الذين كان همهم الوحيد هو إفادة حضارتهم العربية الإسلامية.

(*) ترجمت رواية "القوقعة" للكاتب مصطفى خليفة، ما الذي أضافته هذه الرواية لك، ولبحثك في الدراسات العربية؟
قرأت الكتاب قبيل نشوب الثورة السورية فتأثرت كثيرا به، أولا لأنه رواية ممتازة ومبدعة، وثانيا لأنها أضافت الجديد لأدبيات السجون، وهي جنس أدبي غني جدا بسبب الطابع الاستبدادي للحكومات العربية الحديثة، وقدمت تجديدا في القالب والمضمون والتقنيات السردية، ولم أصدم، صراحة، بالأحداث المرعبة الواردة فيها، فسبق أن قرأت ما يماثلها في مذكرات مشابهة لمن كتب عليه المكوث في معتقلات جماعة الأسد المهولة، بقدر ما صدمت بالنبرة المتهكمة واللغة المجردة المباشرة التي روى بها مصطفى خليفة تلك التجربة المدمرة، وبما أني رأيت فيها ما قد يجذب القارئ الإسباني فإني عكفت على أسبنتها أسوة بالزميلة نعومي راميريث دياث، وفعلا وجدت مرة ثانية من عبر لي عن دهشته أو دهشتها وهم يقرأون الكتاب فلم يكونوا يتوقعون هذه اللغة الصريحة في رواية عربية، وربما قد توقعوا أن تكون الرواية مثل تلك الكتب العربية النمطية التي تحب دور النشر ترجمتها ظنا منها أنها تعكس النبض الروائي الحقيقي العربي أو لأنها تعرض واقعا عربيا مصطنعا هم، الناشرون، أكثر ارتياحا لها.

(*) كيف تقيم معرفة الشعوب الأوروبية لحقيقة ما يجري في العالم العربي؟
هي معرفة سطحية وعرضية، لقد استسلمت الشعوب الأوروبية للتعليمات السخيفة التضليلية لوسائل الإعلام وفيالق أنصاف المثقفين المرددين كالببغاء للهراءات المعروفة عن العرب والمسلمين، بعد أن تخلينا عن التحليل والاستقصاء، ونجحت هذه المنظومة الإخبارية المنهجية في صناعة عالم عربي لا توجد فيه سوى النزاعات والإشكاليات ومظاهر العنف والتخلف والإعدامات شنقا أو رجما أو ذبحا وتهميش المرأة وميل العرب إلى الكسل والتهرب من العمل وكذا وكذا وكذا. ولا أحسب نفسي من المستعربين الذين يسعون إلى تجميل ذلك الواقع العربي والادعاء بأن العرب أولياء صالحون لم يؤذوا ذبابة، ولست بالسذاجة والوقاحة الكافيتين للتنكر لسلبيات العرب، وثمة أمور كثيرة لا أستحبها في المجتمعات العربية كما لا أستحبها في مجتمعي أيضا، ولكن العرب لهم أشياء كثيرة يسعنا أن نلفي فيها ما يشرفهم إذ أنها تنم عن قدر عظيم من الحيوية والنشاط والإبداع، وكثيرا ما ألتقي بأصدقاء ومعارف قاموا برحلة استجمام  أو عمل إلى هذه البلاد العربية أو تلك ثم يؤكدون لي، مرة أخرى، بشيء من التعجب، أن الناس هناك "لطفاء" و"كرماء" و"خدامون" وكأنهم كانوا يتوقعون أن يصادفوا أناسا متشددين واجمين مقطبي الجبين يرفضون الحديث مع الغرباء ويقضون معظم ساعاتهم في الظل يقيلون القيلولة... إني ما زلت أستغرب ردود الفعل هذه، وكأن الرؤية المتكرسة هنا عن العرب تملي علينا التشبث بصورة سلبية لا تمت بصلة إلى الواقع على الرغم من أنها تعني مجموعات بشرية تسكن قاب قوسين منا.

قلق أوروبا من المسلمين سماعي
(*) برأيك هل ظاهرة الإسلاموفوبيا هي ظاهرة حقيقية في أوروبا؟ وهل تشكل خطرا حقيقيا على رؤية العالم للإنسان العربي؟
قبل أشهر اشتركت في مؤتمر انعقد في إحدى المدن الإيطالية الشمالية موضوعه رهاب الإسلام وتصاعد الأحزاب والتيارات السياسية اليمينية المتطرفة المعادية للمسلمين، فطلع علينا باحث من ليتوانيا وضعنا في تفاصيل دراسة ميدانية أجراها مع فريق من الجامعيين في عدد من المناطق الأوروبية، وهي عبارة عن استطلاع لآراء الأوروبيين في "الهجرة الإسلامية" ومدى توجسهم منها، وكانت النتيجة أن نسبة الرفض الأعلى للسماح للمهاجرين المسلمين بالإقامة في أوروبا سُجلت في بلدة تقع في شمال إيطاليا على قمم سفوح سلسلة الآلب المتاخمة لدولة

النمسا، والمضحك (والمبكي) في الأمر أن عدد المسلمين القاطنين في تلك البلدة هو... صفر، لا أحد على الإطلاق، فالمنطقة خالية من المسلمين، إيطاليين كانوا أم أجانب. وأضاف ذلك الباحث قائلا إن معدي الاستبيان لما سألوا هؤلاء المواطنين الإيطاليين عن أسباب رفضهم القاطع لهجرة المسلمين إلى أوروبا على الرغم من خلو المنطقة من هؤلاء، أجابوا أنهم قلقون مما يشاع من أخبار عن مواقف المسلمين المعادية لقيم الحداثة والتسامح والمساواة السائدة في القارة الأوروبية، أي أن قلقهم "سماعي" قياسي مبني على الاشتقاق إن صح التعبير. وإن دلت هذه المعلومة على شيء فهي تدل على أن مسألة الإسلاموفوبيا مصبوغة بألوان أيديولوجية زاهية تستمد قوتها في كثير من المناسبات من حملات دعائية تروج لمعطيات مزورة وأرقام ملفقة، وتبين أن الأوساط الأكثر رفضا لاستقرار المسلمين في أوروبا وهي محسوبة على اليمين القومي بالعموم، خبيرة في تلفيق البيانات وتضخيم الأخبار المسيئة للمسلمين، والمعضلة أن هذه الأكاذيب والمغالطات لها فعاليتها إذ أنها تنشر الريبة والخوف والوجائس في صدور الناس البسطاء الذين ينتهي بهم الأمر بالاقتناع بأن الإسلام ككلّ يشكل تهديدا. ومرة أخرى نحتاج إلى خطاب موضوعي يعود بنا إلى الأسباب الحقيقية لخطاب الكراهية هذا والبحث في تبعات تردي نسب الولادة في المجتمعات الأوروبية وانتشار الشيخوخة وتراجع الدور الأوروبي والغربي عالميا ومتقلبات الأزمة الاقتصادية المزمنة، وكلها عوامل قد تساعدنا في الكشف عن أوجه التوجس الأوروبي من الإسلام، ويتمثل دور المثقفين الواعين والصحافيين المسؤولين والسياسيين العاقلين في تقديم الحقائق ومخاطبة الناس بالتي هي أحسن إذ أن هذا الخطاب خطير للغاية يمكن أن يفسح المجال لتربع منظمات سياسية عنصرية على مقاليد السلطة، وهو احتمال أصبح واردا في بعض الدول الأوروبية.