Print
تيسير النجار

ميرنا الرشيد: العالم العربي يجيد استخدام الديمقراطية لفظياً فقط

31 أغسطس 2019
حوارات
يعد كتاب "ليس سهلاً الطريق إلى الحرية" لأيقونة النضال في العالم نيلسون مانديلا الصادر مؤخراً عن "دار المدى" بترجمة ميرنا الرشيد من الكتب المهمة نظراً لأهمية التجربة التي ينطوي عليها.
وأشارت الرشيد، الصحافية والمترجمة السورية، إلى أن مانديلا سخرّ كل حياته من أجل ثلاث كلمات: الحرية والعدالة والديمقراطية، ووصفت الكتاب بأنه وثيقة صمود قاهر أسطورة العبودية.
هنا حوار معها:


(*) كيف تنظرين إلى وجود اسمك على غلاف واحد مع نيلسون مانديلا؟

ليس خافياً على أحد أن السيرة المشرفة لهذا الرجل هي مبعث اهتمام لكثير من القرّاء والمترجمين على حد سواء. وحقيقة الأمر أن توجهي إلى ترجمة الكتب جاء بمحض الصدفة ودون تخطيط مني بعد أن كان عملي محصوراً لسنوات طويلة في ترجمة الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، واختيار كتاب نيلسون مانديلا لم يكن لي يد فيه، بل يعود الفضل إلى إيهاب القيسي، مدير دار المدى، بأن ساهمت في نقل هذه الوثيقة التاريخية التي تحوي مقالات وخطابات مانديلا خلال مسيرته النضالية ضد سياسة الفصل العنصري، وما جعلني أعي دلالة أن يظهر اسمي على غلاف الكتاب هو أن ثمار جهودي تأتت بردود إيجابية من القرّاء الذين انكبوا على قراءة الكتاب، وربما لم أكن لأشعر بهذا القدر من الغبطة المعنوية لو أنني لم أوفق في الترجمة كما يجب.


(*) إلى أي مدى أثر فيك الكتاب بعد قيامك بمهمة ترجمته باحترافية وبأسلوب منهجي؟
ما يمكنني التأكيد عليه هنا فيما يخص مسألة احترافية الترجمة هو أنني حينما أؤدي عملاً ما،

أبذل فيه كل ما بوسعي، وأقدم كل جهدي ليبصر العمل النور بشكل أكون قد أديت فيه دوري بعناية. وقد أثر فيّ الكتاب بأن جعلني في بعض اللحظات أتفاعل شعورياً مع ما ذُكر فيه من تفاصيل واقعية مأساوية، فكنت أشعر بالحزن لما تعرض له سكان جنوب أفريقيا من تمييز عنصري وإذلال بسبب حكم السياسة البيضاء. كما أن شخصية مانديلا تترك أثرها على المدى الطويل لما تتحلى به من سمات يندر أن نجدها في أي زعيم ومناضل. فهو لم يكن يسعى لكسب المجد والألقاب واعتلاء المناصب. وكان من النوع التكتيكي القادر على سن استراتيجيات نضالية تبعاً للظروف الفعلية خلال فترة معينة من الوقت. وعلى الرغم من أنه تلقى انتقادات من رفاقه في الحزب ومن قادة عالميين فإنه لم يتوان عن إحقاق الحرية لبلده.  



الإصرار
على المضي في طريق الحرية
(*) يضم الكتاب بين صفحاته مجموعة من مقالات نيلسون مانديلا وخطاباته ورسائله فماذا تُظهر لنا؟
تظهر المقالات والخطابات عناد مانديلا وإصراره على المضي في طريق الحرية وإن كان سيدفع حياته ثمناً لذلك. كما أنها تظهر بنفس القدر من الإصرار والعناد أنه لم يؤسس لنهج يكون فيه الأفارقة السود متفوقين على البيض بحجة أنهم الأكثرية، على الرغم مما نالهم من ظلم حكم الهيمنة البيضاء. كما أنها تبيّن حكمته في التريث بالانتقال إلى المواجهة المسلحة قبل البدء بتشكيل "رمح الأمة" الجناح العسكري في المجلس الوطني الأفريقي، لأنه حتى اللحظات الأخيرة، وعلى الرغم مما تعرض له الشعب في جنوب أفريقيا من الظلم والاستبداد، كان مانديلا يشدد على أهمية الانضباط والنضال السلمي غير العنيف، لكن تطورات الوضع آنذاك تطلبت تغييراً جذرياً في مسار الحركة النضالية.


(*) وماذا عن الحس الإنساني الذي عكسته المقالات والخطابات؟

عكست المقالات والخطابات حسه الإنساني العالي من خلال القصص التي سردها عن المدنيين الذين عانوا مرارة القمع وقوانين الفصل العنصري التي تسببت بإبعاد الأفارقة عن السلك التعليمي وتفكيك العائلات وخلق سوق واسعة من العمالة الرخيصة. فكانت قصة راشيل المرأة التي أقصيت عن عائلتها، وصموئيل ماكا الأفريقي الذي كُسر كاحله بسبب ضربة تلقاها من أحد عناصر شرطة الحكومة البريطانية، وأمضى ليلته يترنح من الألم، بعد أن حرمه مسؤولو السجن من الحصول على الرعاية الطبية اللازمة. وقد أراد مانديلا أن يعلّمنا من خلال هذه القصص وغيرها أنه مهما بلغ الظلم والاستبداد أشده، وإن استطاعت تلك الأساليب أن تزرع الهلع والخوف في نفوس بعض الأفراد، بيد أنها فشلت في إحباط نضال الشعب التواق إلى الحرية. فمن رحم كل ذلك وُلد المقاتلون العتيدون، وأصبح الناس أكثر إيماناً بضرورة التضامن، دون الأخذ بعين الاعتبار مسألة العرق، أو الانتماء الحزبي، أو العقيدة الدينية.



العالم العربي 
والديمقراطية
(*) ماذا تقولين عن موضوع الديمقراطية، محط الاهتمام الأول في سيرة مانديلا ونضاله؟

الديمقراطية كلمة يجيد العالم العربي استخدامها لفظياً فقط، وقد أسيء توظيفها بشكل كبير، وزُجت في سياقات بعيدة عن المعنى الحقيقي لها، لكنها تبقى مطلب كثيرين منا، على الرغم من أن الأثر الفعلي لها على المستوى العملي يكاد يكون معدوماً. وهي تعني حرفياً حكم الشعب، وأن يمارس دوره الحر في تقرير مصيره السياسي. لكن حقيقة الواقع أن الشعوب العربية تُحكم ولا تَحكُم، تُساق وغير مسموح لها أن تقود، يُحدد لها ما يُقال وما تقول. وهذا النوع من السياسات يؤدي بالضرورة إلى خلق شعوب مُنهكة ومغيبة فكرياً، تصطدم فيما بينها عند أول اختبار حقيقي تواجهه، لظنها أن ما وقعت فيه من تخبط وفوضى كان سببه الديمقراطية!


(*) هل يشكل هذا الكتاب وثيقة تاريخية، وإلى مدى يمكن للشعوب أن تتعلم منه؟ 
يمكن وصف الكتاب بأنه وثيقة حية يمكن للشعوب إن أرادت أن تسلك طريق الحرية أن تتخذ من تجربة الجنوب أفريقيين مثالاً لها. إنه وثيقة صمود قاهر أسطورة العبودية الذي أمضى في سجن جزيرة روبن سبعة وعشرين عاماً، كان يحرم فيها من ارتداء السراويل الطويلة في الشتاءات القاسية، ويمنع من الزيارات، وتضرر بصره بسبب تعرضه لوهج الشمس الحارق عندما كان يعمل في المقلع الجيري في الجزيرة، ومع ذلك ظل صامداً، لم يقهر. يمكن وصف الكتاب بأنه جرعة مركزة لخلاصة واحد من أكثر السياسيين والمناضلين حكمة وتسامحاً، فمقولته القائلة "إن أردت أن تصنع السلام مع عدوك، عليك أن تسير معه جنبا إلى جنب، ثم تجده قد تحول إلى شريك لك"، تحمل في طياتها الكثير من التسامي الخلاق والترفع فوق الأحقاد، وأعتقد أنه من أجل الوصول إلى مجتمع حر ديمقراطي قائم على المشاركة واحترام الاختلاف، علينا أن نقتدي بمثل هذه الحكم.


(*) الكتاب يحكي كيف يمكن لبضعة أشخاص أن يقوموا بصناعة معجزة، ويروي كيف انتقل ذلك الطفل الريفي إلى سدة حكم جنوب أفريقيا، تلك الدولة التي ظلت معقل العنصرية لعقود.. فهل ذلك يشكل مصدراً للإلهام في العالم؟

بالتأكيد تشكل سيرة حياة ونضال نيلسون مانديلا ومن كان معه من رفاق الدرب إلهاماً في كيفية عبور النفق المظلم وصولاً إلى بقعة النور في نهايته. لكن قد لا يكون أمراً كافياً أن نستلهم، نظرياً فقط، من سير أشخاص كانوا مدركين تماماً لما يمكن للظلم أن يصنعه، ولم يحيدوا، على الرغم من كل الإغراءات السياسية، وما عانوه من ملاحقات واضطهادات، عن الهدف الأسمى؛ التأسيس لوطن يكون فيه الجميع سواسية في الحقوق والواجبات، ولا هيمنة لفئة على أخرى بحجة الأقلية أو الأكثرية. وبما أن واقع الحال مفرط في الظلم والعنصرية واللاعدالة، فينبغي من أجل أن يعود زمن المعجزات الذي ولى، أن يتبدد الخوف الدفين في النفوس، الخوف من كل شيء، من تغيير المفاهيم الفكرية بفعل ما ترسب في الأذهان من أفكار وأيديولوجيات خشبية، ومن تقبل الآخر المختلف، والخوف من أن تُكشف مواطن الخلل والفاعلون الحقيقيون بدافع المصالح الشخصية التي تُفسد كل مصلحة عامة، ومن الخروج على النسق المحدد والحدود الضيقة المفروضة التي تزج الأفراد في قوقعة الانتماء الطائفي والعرقي وغير ذلك.