Print
صدام الزيدي

فخري رطروط: مستقبل قصيدة النثر في القصيدة البصرية

27 أغسطس 2019
حوارات
"أنا أكتب لأن هذا قدري./ أكتب لأنني قلق وضجر ومذعور وأخاف الموت./ أكتب لحل أسرار الوجود، وكلما أوغلتُ ضعتُ/، أكتب لأن الكتابة علاج لكثير من الأمراض./ أكتب مثل طفل يجرّب ثم يخرّب ألعابه./ أكتب كالهارب، لا وقت لدي لتقييم تجربتي". هكذا هي حال الشاعر الفلسطيني فخري رطروط (1972).
في حوار مع "ضفة ثالثة"، يتحدث الشاعر والمترجم الفلسطيني المقيم في نيكاراغوا، فخري رطروط، عن قضايا حساسة في مشهد الثقافة العربية، لا سيما أحوال الشعر العربي ومواجعه وإخفاقاته، وعن الشعراء الشباب، وعن المهرجانات والجوائز الشعرية العربية، وهل تصنع مبدعاً؟ كما يتحدث عن قصيدة النثر، ويراهن على أن المستقبل للقصيدة البصرية، لكنه تحدث بحسرة عن غياب ترجمة الأدب العربي بلغات عالمية، مشيراً إلى أنه: "حتى ما يُترجم من أدبنا العربي إلى لغات العوالم الأخرى، فإنه (للأسف) في معظمه رديء، ولا يمثل الشعر العربي".
وقال بأسف أيضاً: "التطبيع مع الشعراء الإسرائيليين والتقاط الصور معهم بات - لدى البعض - من أقصر وأسرع الطرق للوصول إلى المهرجانات العالمية". كما تحدث عن تجربته مع فيسبوك "السوق السوداء الجميلة برغم ما فيها". وعن "قفزة الأطلسي" (حيث يقيم منذ العام 2000م في نيكاراغوا بأميركا الوسطى)، وكيف انعكس ذلك على تطور تجربته كشاعر. وقال إن "الحروب والثورات تنتج شعراء متوترين وعصبيين"، منوهاً أن "الربيع العربي لم ينتج شاعراً واحداً". كما يشدد "علينا تقشير الشاعر حتى نصل إلى عمقه؛ لأن بعض الشعراء يشبهون رأس الملفوف، تنزع الأوراق فيطبق عليك الفراغ". 
هنا نص الحوار:



(*) لنبدأ من حيث شرع البعض مؤخراً في نشر ما يطلقون عليه "قوائم الأفضلية": أفضل 20 شاعراً عربياً؛ أفضل شعراء العربية؛ قائمة الشعراء الأفضل عربياً، إلخ.... ما الذي يفعله هؤلاء؟
أصعب شيء في الشعر هو وضع قائمة بأفضل الشعراء، الموضوع ليس مباراة كرة قدم. كل شاعر هو جندي مجهول. لا توجد معايير متفق عليها في الشعر لتحديد الشاعر الأفضل، من هنا يبدأ الشك في كل الجوائز الشعرية، وكل القوائم. الشعر مرتبط بالسياسة، الشعر تسويق، كل شيء في عالمنا العربي هو سوق مفتوحة، الروايات، الشعر، الموسيقى.

(*) في تقديرك، هل تعثر الشعر العربي في العقود الأخيرة؟ وهل نراهن على الشعراء الشباب؟
دور النشر وشعراء الصحافة وشعراء الأحزاب والقوميات الكبرى في الفترة السوداء الماضية

أهم أسباب تعثر ورداءة الشعر العربي على مدى العقود الأخيرة من القرن الماضي. أصف هذه الفترة بـ"الفترة السوداء". فالشعر في تلك الفترة كان ينحصر بين ثلاثة إلى خمسة شعراء (بين فترة السبعينيات والثمانينيات تحديداً) قضوا على غيرهم من الشعراء، كما أسهم الشعراء الصحافيون الذين كانوا متسلمين للملاحق الصحافية في تعثر الشعر العربي، لأن الدائرة كانت ضيقة، وهؤلاء كانوا هم المنبر الوحيد المتاح (والذي لا ينشرون له راحت عليه).. فكم من شاعر أتى في هذه الفترة لم يجد منبراً ولم يجد دار نشر. الأمور لم تكن متاحة كما هي الآن. أما في ما يتعلق بشعر القوميات العربية، فلقد بات شيئاً من الماضي، ماتت الأحزاب، ومات القادة، ومات الزعماء، وبقي الشعر هو حصيلة أفراد ومحاولات فردية.
ما يتعلق بالجزء الأخير من سؤالك، أجمل ما في كتابات الشباب هو أنهم يكتبون بلا قيود نقدية.

(*) يكثر التناسخ والتشابه في القصيدة التي تُكتب في الفضاء العربي حالياً.. ما مخاطر ذلك؟
التشابه بين ما ينشره الشعراء الشباب مخيف جداً وخطير، تشعر بأن مصدرهم الوحيد للقراءة هو وسائل التواصل الاجتماعي، ونحن حصيلة ما نقرأ. لا تشعر بوجود قارئ حقيقي مختلف لديه مصادره الخاصة.

(*) هناك أصوات جميلة لا بد...
في أحد اللقاءات التلفزيونية، سألت المذيعة جون أشبري: هل أنت بالفعل أهم شاعر أميركي على قيد الحياة؟ فأجابها: لا أظن. لكن كثيرين يظنون أن جون أشبري الذي ولد في روتشستر في نيويورك عام 1927، وتوفي في 4 أيلول (سبتمبر) 2017 عن تسعين عاماً، هو بالفعل واحد من أهم الشعراء الأميركيين المعاصرين (ورد هذا المقطع في جريدة الأخبار اللبنانية بترجمة أسماء ياسين).
علينا تقشير الشاعر حتى نصل إلى عمقه؛ لأن بعض الشعراء يشبهون رأس الملفوف، تنزع الأوراق فيطبق عليك الفراغ. وهناك كتابات جميلة، الكتابات الشابة الجادة التي تلفت نظري معظم أصحابها يعملون في مهن بعيدة عن الأكاديمية والتدريس.

(*) سطع مؤخراً "شعر الأقليات".. هل هو من تسلم الراية؟
تقريباً "شعراء الأقليات" هم الذين خطفوا الأضواء في السنوات الأخيرة، بعد أن انعكست الآية.. فالاهتمام لم يعد مرتبطاً بشعراء القوميات الكبرى، بل تحول إلى شعراء الأقلّيات. ويكفي أن تكون أمازيغياً أو كردياً أو سريانياً أو فينيقياً أو أي شيء ما عدا أن تكون شاعراً عربياً، إذا كنت من هذه الأقلية ستأخذ فرصتك.

(*) عودة إلى سؤال أحوال الشعر العربي، هل نظل نندب حظنا هكذا، بينما نلقي باللوم على من أشرت إليهم في مبتدأ حديثك؟
أنا أدعو إلى مراجعة فاعلة لمسيرة الشعر العربي في الفترة المنصرمة. نحتاج لفترة مراجعة جماعية ليس من صوت واحد أو شاعر واحد، لتقييم الشعر العربي في السنوات الماضية، أين فشل وأين نجح وأسباب تراجعه؟

(*) هل الشعراء العرب الآن جديرون بالتفاعل مع ما تطرحه؟ هل هناك روح عالية لديهم؟
إنها دعوة جادة، لا بد من مراجعة لتلك الفترة السوداء، مع أن المشكلة يا صديقي أنك حين تتحدث عن تجارب وتنقد تجارب، تُغضِب الكثيرين ويأخذون الموضوع كمنحى شخصي. إذا أنا انتقدت تجربتك أو طريقتك في الكتابة لا يعني هذا أنه بيني وبينك شيء شخصي.

(*) حركة النقد العربي المعاصرة، هل هي بخير؟
أسأل من ناحيتي، هل هناك نقد بعيد عن الشللية، نقد حقيقي بعيد عن منطلقات الهجوم على

أشخاص؟ هل هناك نقد عربي صاف مئة بالمئة؟
أنا أدعي أن أساتذة الأدب والنقد العرب أنتجوا نسخا مضروبة عنهم، فهم لا يقرأون ولا يتابعون. إذهب إلى الجامعات العربية، التركيز كله على الأدب الأموي والعباسي والمملوكي والكلاسيكي و.. و.. إلخ... قد تجد محاضرات عن الأدب الحديث لكنها لا تتناول أي شيء مهم. أنا لست ضد أن تُعطى دروس عن الأدب الأموي والعباسي لكن الموازنة مطلوبة. لا يزال هناك دكاترة جامعات لا يعترفون حتى الآن بقصيدة النثر، تخيل! كما أن هناك إغراقاً بالمحلية مما أسهم في مخرجات لا تعرف الكثير عن حركة الأدب في العالم.


غياب مؤسسات الترجمة
(*) لماذا لا يترجم أدبنا العربي إلا على استحياء؟
هناك غياب لافت لمؤسسات عربية حقيقية داعمة للترجمة ولديها مشروع حقيقي فعلاً لنشر ثقافتنا العربية وأدبنا العربي. للأسف حركة الترجمة من داخل الوطن العربي إلى الخارج تكاد تكون بسيطة وبجهود فردية وشبه معدومة. حتى بالنظر إلى ما يُترجم من أدبنا العربي إلى لغات العوالم الأخرى، فإن معظمه (للأسف) رديء ولا يمثل الشعر العربي، كما لا يساعد القارئ الأجنبي على القراءة وعلى أن يدفع 20 يورو أو 25 يورو لشراء كتاب شعري رديء تُرجِم فقط لأن صاحب هذا الكتاب له مركز ثقافي أو سطوة ثقافية أو استغلّ المؤسسات التي تدعم الترجمة ليظهر بأنه هو الشاعر الأوحد. هناك أيضا نوع من الإقصاء للآخرين والشللية في الترجمة. فقط منذ فترة بسيطة صاروا يترجمون لبعض الشعراء الشباب العرب الذين فرضوا وجودهم بجهود ذاتية من خلال وجود منابر جديدة مثل الفيسبوك.
وما يحدث عندنا نحن العرب أنه إذا أمسكنا كاتبا أو شاعرا معروفا سواء كان لاتينيا أو أوروبيا، نظل نترجم فيه. خذ مثلاً ريتسوس، تخيّل كم واحد ترجم له. كذلك يحصل في الأسماء الكبيرة من الشعراء العرب. في أميركا اللاتينية تسأل أحدهم: من تعرف من الشعراء العرب؟؛ فيقول لك: أدونيس؛ محمود درويش؛ نزار قباني؛ وحتى الطاهر بن جلّون الروائي. وهذا مؤشر لغياب ترجمة الأدب العربي.
يجب أن ندرك أن الشعر والرواية والفن والموسيقى هي أفضل سفراء بين العوالم لأنها لا

تحتاج لا إلى قنصلية ولا إلى مصاريف ولا إلى تكاليف ولا تحتاج إلى تمثيل ديبلوماسي، تنتقل بسهولة وبتكلفة بسيطة جداً. وللأسف الترجمة فقط تنشط في البلاد العربية التي تُدمّر. الأدب الفلسطيني كان حظه في الترجمة أحسن من غيره. لبنان أيضأ وبعده العراق. الآن الأدب السوري والأدب الكردي والأدب الأمازيغي يُترجم. نريد ترجمة صافية بعيدة عن السياسة وبعيدة عن إشكاليات كثيرة. طبعاً الإنسان الغربي ليس معنيا كثيرا بالترجمة من الأدب العربي. هو يهتم بنوع معين من الأدب، فالأدب الذي يهاجم الأدباء، الأدب الذي يحكي عن الجنس، الأدب الذي يمجِّد المثليّة، الأدب الذي مع التطبيع، هذا يُسمح له. الأوروبي والغربي لا يعنيه بشكل عام قيمة العمل الأدبي والتجربة، ما يعنيه هو أن هذا الفنان أو الكاتب جاء من بلد مدمّر على باخرة حتى وصل أوروبا و.. و.. إلخ... هو مهتم بقصة الفنان أكثر من عمله الإبداعي، ثم إن البعد الجغرافي للغربي عن العربي لا يجعله على اطلاع مباشر على الشعر الجيد والأدب الجيد. هو على تماس مباشر مع المهاجرين واللاجئين شعراء وكتابا وروائيين من هذه البلدان العربية وبالتالي ليس أمامه إلا أن يعود إليهم، ومن هنا، هؤلاء الكتاب العرب (من يعبرون الحدود والقارات) عندهم فرصة إما أن يفسدوا الأدب العربي أو أن يكونوا رؤوسا لمشاريع أدبية عربية جميلة وصافية وجيدة يُذكرون في التاريخ بأنهم كانوا خلفها.


اتساع دور الشاعر 
(*) قصيدة النثر العربية والاتهامات الموجهة لكُتّابها بأنهم يغرِّدون في فضاء بعيد عن قضايا أمتهم؟ كيف تنظر إلى هذا الموضوع تحديداً؟
شعراء النثر لم ينفصلوا عن قضايا الأمة. ما حدث هو إخفاق دور شعراء المنبر لصالح الفكرة

الصافية الهادئة، كما أن الأسلوب وطريقة التعبير باتت مختلفة. الشعراء (شعراء النثر) فقط أصابهم الإحباط واليأس، وفي ظل العولمة بات الشاعر العربي يعبر عن قضايا العالم وليس الأمة العربية فقط. لقد اتسع دور الشاعر. إلى ذلك، تعتبر قصيدة النثر ثورة الفقراء ضد الرأسمالية الشعرية، حيث لا يوجد كبير في الشعر، ولو ولد المتنبي في عصرنا لكتب قصيدة النثر!. بالمقابل، تبقى مشكلة قصيدة النثر أنها حتى الآن لم تجد بديلا شافيا عن الموسيقى والقافية والوزن التي ألفتها الأذن العربية، ولا تصلح للمنابر والخطابات، فهي تُقرأ على انفراد، والأمر شبيه بانفراد عشيقين هامسين. مشكلتها العظمى استسهال الناس لها وإدراج كل ما يُكتب من خواطر وحشو وثرثرة تحت عنوان قصيدة النثر!

(*) ما مستقبل قصيدة النثر؟
معظم ما ينشر على وسائل التواصل، اليوم، يمكن تصنيفه إلى يوميات أو خواطر أو سرديات أو شذرات، هناك النص المفتوح الهجين، الذي فيه شيء من كل شيء، يشبه مسخاً في طور التشكيل، هذا النص المهجّن هو مستقبل قصيدة النثر، العلامة البارزة فيه قربه وتأثره بالتكنولوجيا، نص قريب من مشاهد السينما. المستقبل هو للقصيدة البصرية.

(*) الطمأنينة، هل تقتل الشاعر؟
الشاعر الجيد لا يفارقه شعور بأنه أسوأ شاعر مرّ على هذه الأرض. الطمأنينة مقتل الشاعر.

القارئ أهمّ جائزة!
(*) الجوائز الشعرية العربية هل هي فاعلة؟ وهل تصنع الجائزة شاعراً؟
حقيقة لم أشارك في أي جائزة، باستثناء مرة يتيمة ولم أكررها، ولا أعرف كواليس منح الجوائز، لكن في تقديري أفضل جائزة للشاعر هي القارئ. مرّةً قالت لي الشاعرة آيتانا رفائيلي ابنة الشاعر الإسباني رفائيل ألبرتي بأن والدها لم يفز بجائزة طوال حياته باستثناء مرة واحدة وكانت الجائزة زجاجة نبيذ. وإجمالاً: الجوائز لا تصنع شعراءً.

(*) والمهرجانات الشعرية العربية.. لا سيما حين نقارنها بمهرجانات الشعر خارج الحدود؟
يؤسفني القول إن التطبيع مع الشعراء الإسرائيليين والتقاط الصور معهم بات - لدى البعض- من أقصر وأسرع الطرق للوصول إلى المهرجانات العالمية، فقد لاحظت أن معظم شعراء مهرجان جرانادا للشعر العالمي في نيكاراغوا يتواجدون بعد شهرين في مهرجانات في فلسطين المحتلة!. لكن مؤخرا بدأنا نلحظ تواجدا لاتينياً في المهرجانات العربية، وهذا شيء جميل جداً؛ لأن الشعر الثقيل الآن يتواجد في هذه القارة. المهرجانات الشعرية اللاتينية تمتاز بكثافة

الحضور، ومن مختلف الأعمار، الشعر لا يزال مقدساً لديهم، الشاعر يأتي في مرحلة أعلى من الكاهن والمحارب والمعلم هناك. الدعوة إلى مهرجانات الشعر تتم (في المجمل) وفقاً لعلاقات وترشيحات شخصية، كما أن هناك أنصاف شاعرات تتم دعوتهن لتلطيف الأجواء وتأنيثها، وهناك فئة من الشعراء في كل العالم تراهم في كل مهرجان، بشكل يتكرر سنوياً كما لو أنهم حلقات فولاذية لا يُسمح باختراقها.

(*) هناك مسابقات شعرية عربية منها ما هو متلفز.. هل هي ظاهرة صحية أم فوضى؟
لدينا شاعر المليون وأمير الشعراء و....... لكن هل هذا ينتج شعراً حقيقياً؟. الشعر ينمو ويزدهر في العتمة.

"جنة المرتزقة"
(*) إضافة إلى خمسة كتب شعرية صدرت لك حتى الآن (جنة المرتزقة؛ صنع في الجحيم؛ 400 فيل أزرق؛ البطريق في صيف حار؛ تحت جناحي الممزق تستريح الريح)، ترجمت كتاباً بعنوان "ملابس أميركية" وهو الديوان الشعري للهندوراسي دينس أبيلا من الإسبانية إلى العربية، الكتاب صدر حديثاً (2019) عن "الآن ناشرون وموزعون" في عمّان متزامناً مع أحدث دواوينك الشعرية "تحت جناحي الممزق تستريح الريح".. كيف تقرأ منجزك الشعري من زاوية شخصية بحتة؟
"جنة المرتزقة" أول ديوان لي. أصدرته وعمري (37) سنة، كنتُ قد أعدمتُ جميع كتاباتي السابقة، كان لدي مجموعة ضخمة تحت عنوان "نعي العوالم"، لكن لم أنشرها. في "جنة المرتزقة" تمرد على القصيدة العربية الرسمية، وبعد "الجنة" جاء "صنع في الجحيم"، الكتاب الممزوج برائحة الموت والحلول الصوفية لألغاز العالم، ثم جاء "400 فيل أزرق" والذي

أعتبره ديواني الأول الرسمي، ثم جاء "البطريق في صيف حار" وبدأ بالتركيز على شذرات الكون، ثم حلّقت واكتشفت أن جناحي مكسور ويجب مداواته (يشير هنا إلى أحدث دواوينه: تحت جناحي الممزق تستريح الريح).

(*) تكتب شذراتك بخفة وبراعة نادرتين ما يجعل من هذا النوع من الكتابة الشعرية تحليقاً مغايراً بالنظر إلى ما تنتجه المشهدية الشعرية العربية من مطوّلات وأصناف وأشكال و.. و... كيف تصنف ما تكتبه؟
لا أفكر بنوع القصيدة التي أكتبها، منذ بدأت الكتابة في أواخر التسعينيات وأنا أكتب بنفس الطريقة، لم أكتب لأناسب موجة أو موضة. وأترك للقارئ وللزمن الحكم على ما أكتبه. أنا أكتب القصيدة المفجوعة بهاجس الزمن، أميل للقصيدة القصيرة، أو الشذرة، التي ستكون مستقبل الشعر العالمي كما قال الإيراني عباس كيارستمي، وأكتب القصيدة ذات الشطر الواحد، والتي تشبه طلقة أو ضربة سوط.

لا خوف على الشعر
(*) بينما تندلع كتابات لا يمكن تجنيسها، في عصرنا الراهن، هل نخاف على الشعر؟
لا خوف على الشعر، فإنه يطور نفسه بنفسه، وسيظل ما دامت الحياة باقية. الشعر يطوِّر اللغة وليس العكس. الشعر كالبحر يملأ جميع الأوعية، المشكلة في الوعاء الذي تحمله. الشعر لا يمكن حصره في إطار أو أسلوب أو لغة. وأنا أعترض على من يقول أننا الآن نعيش زمن "خفوت الشعر".. فالشعر لم يخفت، الذي خفت هو صوت شعراء المنابر ومتسلقي القضايا.
 

(*) هناك من يكتب قصيدة ترتدي جلباب محمود درويش. وفي اليمن هناك بردّونيون كثر!
التقليد مجزرة في كل الأحوال. أترحم على محمود درويش. لكن سنحتاج سنوات طويلة قبل أن نتخلص من معطفه.

(*) ما وظيفة الشعر برأيك؟
وظيفة الشعر كانت دائماً ملاحظة الطاقة الكونية المتولدة من وجود الأشياء قرب بعضها ومحاولة التقاطها. وأقتبس هنا قول الشاعر المصري ماجد زاهر: "التقط هذه الطاقة وعبِّر عنها كما تشاء".

(*) هل انصرف الناس عن الشعر إلى الرواية؟
البشر بطبيعتهم يحبون الثرثرة والتلصص والفضائح، وهذا ما يجدونه في الرواية، أما الشعر فهو صامت غامض مُقَنّن. أعتقد أن دور النشر لعبت دوراً في ذلك من خلال ترديد عبارات غير حقيقية بأن الشعر غير مقروء، بأنهم يخسرون، أما الرواية فمربحة. ومن ناحية، تجد أن

الجوائز الدسمة مرصودة للرواية. إذاً هي ذائقة الناس أو العامة تكاد تنحصر في الفن السياسي والجنسي، هذه الخلطة يتقنها أغلب كُتّاب الرواية وبعض الشعراء، أما الشعر وخاصة قصيدة النثر فملعبها أوسع وأكبر وأكثر تمرداً، وتظل الرواية الابن غير الشرعي للشعر.

(*) ماذا عن الربيع العربي والشعر؟
الحروب والثورات تنتج شعراء متوترين وعصبيين. كل هذا الربيع العربي لم ينتج شاعراً واحداً.


(*) لماذا؟
السبب حالة الإحباط بين عامة سكان الوطن العربي، وهو إحباط سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي، ليس الشعر بمنأى عنه.

سوق سوداء جميلة
(*) لنتحدث عن فيسبوك.. كيف هي تجربتك معه؟
لولا الفيسبوك تحديداً لبقيت حال الأدب العربي جامدة ومكررة ومقتصرة على حفنة بسيطة من الكتّاب إلى الأبد. الفيسبوك محا البعد الجغرافي وكسر الحدود بين الشعراء المهاجرين والعالم العربي، وبين الشعراء العرب والعالم الخارجي، ومع أنه ساعد على تسليع الثقافة وتحويل الكتّاب إلى شخصيات عامة ونجوم، إلا أنه كان حبل النجاة لآلاف الكتّاب المهمشين، الفيسبوك قلل الجهد والوقت، لست محتاجاً لإيصال قصيدتك إلى رسالة وبريد وشحن، وأنت مكانك يسمع العالم قصيدتك.
الفيسبوك سوق سوداء جميلة لتبادل البضائع المهربة ونسخ PDF، لستَ بحاجة لتدفع نقوداً، تتبضع مجاناً. الفيسبوك جعل جميع الناس شعراء، أعادهم إلى فطرتهم الأولى، وهذا سلاح بحدّين، لكنه كشف زور مقولة أن الشعر يتراجع، وبأنه لا أحد يشتري دواوين الشعر، نعم هذه حقيقة لأن معظم ما كان يطرح في السوق كان رديئاً ومزوراً ومليئاً بالأساطير والألغاز والأحاجي، والقارئ ذكي. الفيسبوك وفّر للجيل الجديد مواد أدبية للقراءة، لم تكن متوفرة للأجيال السابقة. لولا الفيس لبقيتُ مجهولاً ومنسياً إلى الأبد، هكذا علّق الشاعر صلاح فائق، وهكذا نعلّق معه، الفيسبوك جلب لي قراء وأصدقاء وأعداءً أيضا. لكن من مشاكل النشر على الفيسبوك: السرقات والتناص والتلاص وهذا يؤدي إلى النمطية والتشابه، أنشر على الفيس

خائفاً؛ لأن ما أنشره يُسرق مباشرة، وهناك لصوص أذكياء، يضعون نصك أمامهم ثم يشرحونه ويعيدون تركيبه أو تقليده، أنا مغمور ولست شاعراً كبيراً، لكنني أقول بأنني أثّرتُ في شريحة واسعة من الكتّاب، مرة بعث لي روائي عربي كبير جداً رسالة على الماسنجر يقول فيها بأنه مدين لي لأنه استوحى فكرة روايته من أحد النصوص التي نشرتها، والرواية انتشرت بشكل خيالي، وأضاف بأن الجميع يغرف من فخري رطروط، وطلب مني أن أبعث له بديوان  ليتولى هو نشره كنوع من التحية والتقدير ولأني أستحق ذلك حسب رأيه، وهذه فرصة لأشكره لأنه السبب في نشر ديوان "البطريق في صيف حار". لا تزال هناك طائفة يهمها الجودة، لا أحب المديح؛ فهو يربكني، لكن هذه الرسالة بالنسبة لي تعادل جائزة نوبل.
لكن بالمقابل، مرور مدة زمنية طويلة على نصك المنشور في الفيسبوك وتعرضه للسرقة والتقليد والتّلاص، يجعل من الصعب الفصل في هذه الأمور وتضيع (الطاسة) وربما تصبح أنت المتهم بالسرقة، للأسف لا يوجد مرجعية في ذلك، أتمنى أن تكون هناك آلية في الفيسبوك تكشف السرقات، ويكون في خانة (اللايك) خانة (لص)!


عبور الأطلسي
(*) عبرت الأطلسي قبل نحو 20 عاماً، لتقيم بعدها في نيكاراغوا بالقارة اللاتينية، هل خططت لذلك؟ وكيف ألهمتك تلك البلاد؟
أكبر قفزة في حياتي كانت عبور الأطلسي والذهاب إلى آخر العالم، كانت أول مرة أركب الطائرة، أول مرة أشاهد محيطاً، بدا مهيباً وكلما توغلت الطائرة كنتُ أنكمش والمحيط يتمدد. لولا وصولي إلى هذه القارة لبقيت مجهولاً كشاعر، هذه البلد أعطتني الكثير، إخوتي من الشعراء اللاتينيين يعاملونني كفرد منهم، وأنا جسر بين ثقافتين تتوقان لمعرفة الكثير. من المؤسف أن تقتصر معرفة الشعراء اللاتينيين على محمود درويش وأدونيس ونزار قباني وبعض المزيفين. وجودي في هذا المكان أتاح لي إعادة تعريف الآخر الذي نراه أقل منا وبأنه كافر ونحن خير أمة، يجب إعادة النظر في تربيتنا الدينية في موضوع نظرتنا إلى الآخر، نحن أمة مغرورة، هذا الآخر مثلنا لديه دم أحمر وأحلام وعذابات، لفت نظري بعض المتطرفين الدينيين هنا حين تحصل كارثة في العالم الإسلامي ينظرون إلى ذلك كعقاب إلهي لأنهم كفار بالمسيحية، وهوغو شافيز أصيب بالسرطان لأنه ضد الإسرائيليين شعب الله المختار (حسب زعمهم)!. هنا اطلعت على تجارب شعرية مختلفة وعرفت أكبر عدد من الشعراء، تناقشنا طويلاً في القضية الفلسطينية في سهرات طويلة، أجزم بأننا استقطبنا الكثيرين منهم لصالح قضيتنا الفلسطينية، العمل في الهامش أقوى من إلقاء نص مباشر عن القضية الفلسطينية، باتت مهرجانات وفعاليات كاملة محرمة على الشعراء الإسرائيليين الذين تشعر بأنهم ضباط موساد. تواصلي مع المطر والغابات والبراكين جعل قصيدتي أكثر ليونة وحياة وألواناً وتفاصيل، ولدت في مدينة الزرقاء الصحراوية، الماء كان يأتينا مرة في الأسبوع، مدينة فيها مصفاة البترول والمصانع وثكنات الجيش وفيها أكبر مقبرة وبجانبها سجن كبير، فجأة وجدت نفسي بين محيطين وغابات وبجانب بحيرة عظيمة وتحت أمطار استوائية عنيفة. هناك بركان يبعد عن بيتي 14 كلم فقط. وجدت نفسي في واقعية سحرية في مدينة تخلو من العمارات والأبراج، لا جدران بين البيوت، فقط أسلاك وأبواب مصفحة، مدينة متواصلة مع الطبيعة تحيط بها حقول

قصب السكر والذرة، مدينة ذات سقوف صفيح، تتعرض لهزات أرضية طوال السنة، هذا يكفي ليصنع منك شاعراً. الحشرات هنا عالم مدهش، بسهولة تسرَّبَت إلى قصائدي. أستيقظ على أصوات الطيور والمطر. أن ترخي أذنك للأمثال الشعبية التي تسمعها هنا للمرة الأولى كفيل بميلاد قصيدة. قصص المهاجرين العرب الأوائل إلى هذه القارة فيها تفاصيل تشبه الأساطير، فيها مادة روائية وشعرية ثمينة، تذكرت جدي الذي جاء إلى هنا قبل مئة سنة على سطح باخرة بضائع لا يعرف الإسبانية، لا يعرف أحداً، لا يمتلك مالاً، بدأ حياته كإجراء شنطة يضع فيها قطع القماش ويغيب في الغابات بين الفلاحين.

(*) ما هي كائنات فخري رطروط؟
كائنات وِلِدَت بلا حيوانات منوية، فانتفى منها الجانب الحيوظ
اني، كائنات مجنونة من شدة تعقلها، كائنات نِفرية ضاقت عبارتها واتسعت  رؤاها، لذلك هي صامتة، تحدّق بحزن.

(*) ما جديدك شعراً؟
لدي الكثير من الكتابات أحجم عن نشرها في الفيسبوك خوفا من السطو المسلّح وغير المسلح، لدي كتاب "1/2 كيلو من السعادة" لدى دار المتوسط مع وعد بنشره قريباً، ولدي بعض المجموعات جاهزة للنشر لو توفرت لي فرصة النشر وحَنَّ علينا أحد الناشرين.

(*) هل نعتبر "ملابس أميركية" فاتحة لترجمات قادمة لك عن الإسبانية؟
"ملابس أميركية" تجربة أولى سيتبعها ما بعدها؛ ونظراً لكون الكثيرين يتقنون اللغة الإنكليزية هناك الكثير من المترجمين وهذا رائع، وذلك بعكس اللغة الإسبانية، حيث هناك قلة في المترجمين. الترجمة تحتاج طاقة جبارة ومزاجاً صافياً.