Print
بهاء إيعالي

منذر مصري: الشعراء يتناسلون من بعضهم

17 يوليه 2019
حوارات
يصحّ القول بأنّ التجربة الشعرية عند الشاعر السوريّ منذر مصري هذه المرة هي محاولةٌ عدم تقريب الكمال لشيء، ففي كتابه الجديد (تجارب ناقصة)، الصادر عن دار الأدهم - القاهرة 2019، يريد منذريوس مصريام أن يقدّم نصّه على أنّه لوحةٌ تشكيلية لغوية بكونه أتى منها، وكما تقول التشكيلية كريمة الشوملي: ليس لتشكيلي أن يبدع ما لم يختبئ في داخله شاعر صغير، يحاول مصري أن يقلب هذا التعريف بأنّه ليس لشاعرٍ أن يبدع ما لم يختبئ في داخله تشكيلي صغير.
ويعتبر مصري من أبرز الوجوه الشعرية السورية والعربية منذ ثمانينيات القرن الماضي حتى اليوم، وقد نقلت بعض أعماله إلى عدّة لغاتٍ منها الفرنسية حيث صدر له كتاب (أهل الساحل) والألمانية وكذلك الايطالية والسويدية. هو اللاذقاني الذي يقول عن نفسه: ولدت في اللاذقية وترعرعت في اللاذقية وما أزال أعيش في اللاذقية.. وأغلب الظن سأموت بها.
هنا حوار معه:        

 


لماذا تجارب ناقصة؟
(*) سؤالي الأول، وأظنه سيكون سؤال الكثيرين ممن سيطلعون على هذه المجموعة، هو: ما الذي يدفع شاعراً مثلك، له باعك، إلى إصدار مجموعة مؤلفة من (تجارب ناقصة)؟ أليس في هذا مجازفة ما بسمعتك، لماذا تنشرها ناقصة؟ لماذا لم تكملها؟
حسناً، ها أنت تتيح لي فرصة أن أخبر قراء هذه المقابلة أنني ومنذ صدور (من الصعب أن أبتكر صيفاً) في 2008، لم أصدر أي مجموعة شعرية تتضمن قصائدي الجديدة، رغم أنني نشرت الكثير منها في الكثير من الصحف والمجلات التي تُعنى بالشعر؛ داكن (2014)، لمن العالم وسير مشبوهة أخرى (2016)، وبولونيزات (2018)، جميعها كانت مخطوطات

نائمة، تلمع عيونها كلما فتحت الدرج الذي كدستها به لسنوات طويلة، بل لعقود من السنين، بانتظار فرصة ما للصدور؛ صاحب دار للنشر ما، يصدق بي وبشعري، وعلى الأغلب يكون شاعراً بدوره، أو شاعراً سابقاً، وعلى استعداد لأن يطبع لي مجموعة شعرية. الشاعر فارس خضر هو آخرهم. خلال مشاركتي، منذ أشهر قليلة، في معرض الكتاب في القاهرة، طلب مني، وفي الحقيقة أعاد طلبه مني، فقد فعل هذا سابقاً أكثر من مرة، أن أقدم له إحدى مجموعاتي الشعرية ليصدرها في دار الأدهم التي يشرف على إدارتها. وهكذا صدرت واحدة من أشدّ مجموعاتي العشر أو الثلاث عشرة، أقسم إنني لا أعرف عددها بدقة، شعرية.
الشيء اللافت، أنهم، أقصد أصدقائي الناشرين أولئك، يفعلون ذلك لمرة واحدة، وكفى الله المؤمنين شر الشعر.
غير أنه، غالباً، بل دائماً، ما تكون فرصة نشر مجموعة ما، من قصائد قديمة كتبتها على مدى ربع قرن أو يزيد، كتابة قصائد جديدة، بالأسلوب ذاته، وضمن الموضوع ذاته، ولكنها تقدم إضافة ما لما سبقها. (تجارب ناقصة) قصائد بدأتها منذ نهاية السبعينيات وكتبت معظمها في الثمانينيات، ثم أضفت عليها على مدى السنين العديد من القصائد، أما قسم (الحياة المزرية لأساطين الموسيقى) فقد كتبته في التسعينيات، على ما أذكر. ما يجب عليّ قوله أيضاً، هو أن المجموعة برمتها كانت ملحقة بمجموعة (بولونيزات) التي كان عنوانها (بولونيزات وتجارب ناقصة) لكنني نُصِحت بتفريقهما، بسبب الحجم الكبير الذي كانت عليه.

(*) تقول في القسم الأوّل (نُزهةٌ في أروقةِ مَتحفِ الفنِّ الغربي) إنّ عملك في الرسم شديد الارتباط بما تكتبه شعراً، وإنّ بعض الأعمال التشكيلية قد تنظر إليها ولا تعجبك، لكن ذلك يظل كافياً لتخرج من طيّاتها قصيدة، وهذا يبدو جليّاً في ترك التشكيل بصمته على نصّك. إلى أيّ مدى تؤمن بتأثير عمل الشاعر على تجربته وكيف تفسّر ذلك؟
شديد الارتباط، نعم، لأنه يحدث بذات اليد، والعين، والعقل، وووو.... ذات الشخص، مهما كان الرسام بي والشاعر مختلفين، أو حتى عدوِّين. قلت عدوين لأنه غالباً أكون أحدهما على حساب الثاني. غير أن اختلاف أدوات الرسم عن الكتابة يعمل عمله المؤكد، الخطوط والألوان ليس لها معادل لغوي مباشر، ليس لها معان محددة، إنها تعبر بالصورة، المعاني التي تقدمها حسية لا إنشائية. أمّا عن كون اللوحة التي تغريني بالكتابة عنها أم لا، لا يعني بالضرورة أنني معجب بها كل الإعجاب، فهذا صحيح لحد ما ذلك لأنه بالتأكيد لا يمكن أن تكون لوحة رديئة بكل المقاييس. ثم عن القسم الأخير من السؤال، فلا ريب أن كوني رساماً (جيداً أستطيع القول) وإن لست محترفاً كما كنت مزمعاً أن أكون في يفاعتي وبداية تفتحي، له تأثيراته على 

نصي الشعري، وقد نوّه عن هذا عدد ممن كتبوا عني.

(*) في قصيدتك (ليتني كنت هذا الكوب) تقول: "ليتني كُنتُ هذا الشرابَ الَّذي يكادُ ينفَدُ الآن/ وبعدَ حينٍ/ سترشُفُ آخرَ قطراتِهِ شفتاها/ ثُمَّ كعادتِها ستلعَقُ الراسبَ منهُ بلسانِها".. كيف تصفُ علاقة الجسد بنصّك؟
إذاً بدورك ترى في هذا المقطع بعداً حسّياً أو جسدياً أو ربما إيروتيكياً، ولو برمزية زائدة. وهذا حقيقة ما كنت آمله وأعمل عليه دائماً، أعني أن أكون شاعراً حسّياً، ألا تكون قصيدتي مجرد أفكار، أو تجريدات ذهنية، علماً بأن العديد من قصائدي كذلك. حدث وكتبت قصائد ذهنية صرفة، كما ذلك القسم في (داكن) الذي يحمل العنوان (قصائد الذهن). وربما أغلب ما تضمنته مجموعة (الصدى الذي أخطأ) كان قصائد ذهنية، تأملية، والبعض يعتبرها أفضل مجموعاتي قاطبة، ولكنني غالباً ما وجدت نفسي أقول إنه عندما أكتب هذا النوع من القصائد لا أكون في أفضل أحوالي.

(*) لنعد إلى (نُزهةٌ في أروقةِ مَتحفِ الفنِّ الغربي)، يبدو أنّك تبحث عمّا جرى في كواليس العمل على هذه اللوحات من خلال كتابة قصائد، أو لنسمها "مسودّات فنّية" لهذه اللوحات، ما مدى صحة هذا القول؟ وهل لو وضعت هذه المسودات بأرشيف اللوحات لغاب النقص الواضح في هذه التجارب؟
لا أدري إن كنت قد فهمت سؤالك جيداً، ولكن، نعم، يجب إبعاد الرسم، اللوحة، عن النص الذي كتبته عنها. أولاً، لأن ذلك سيشتت ذهن، أو لأقل سيشتت حواس القارئ عن النص، وسيقوم، على نحو غير اختياري، شبه محتّم، بإجراء المقارنات، ومن ثم الموافقة وعدم الموافقة على هذا التفسير أو ذاك. وثانياً، يساعد الفصل على أن تتوفر للنص الاستقلالية المطلوبة لقراءته والاستمتاع به. وثالثاً، أظنه متاحاً لكل من يرغب، لكل من يدفعه الفضول، ليرى عما تتكلم عنه هذه القصيدة، أو ليجري تلك المقارنات، أن يجدها في النت، فقد ذكرت ما يكفي من المعلومات التوثيقية تحت عنوان كل قصيدة.


شبهة الوعظ
(*) في القسم الثالث من الكتاب (أسمع قرع أجراسك) رسائل متعدّدة، وهي أقرب للوصايا نوعاً ما، ترى هل الشاعر، في جميع مراحله العمرية، لا يفعلُ شيئاً سوى أنّه يحضر وصيّته؟
نعم أظن هناك شبهة الوعظ في أغلب قصائدي، "هناك قطة، وهناك مرآة، وهنا واعظ مجنون ككل الواعظين". ذلك لأني رغبت أن أكون مفيداً، إيجابياً، أن يساعد شعري في نقل قارئه إلى فكر أفضل، إحساس أفضل، حياة أفضل. ربما كان هذا بتأثير برتولد بريشت الذي عبدت يوماً، فهو بدوره قد اتهم ذات الاتهام. غير أن وعظي- حسناً لقد ثبتّ الصفة علي- أقرب لحالة، الشيطان يعظ؟ ذلك لأني حاولت أن أقوم بتخريب متعمد لكثير من القيم الأخلاقية والسلوكية السائدة. هذا ما أدى لمصادرة (داكن) عام 1989، كما أدى لتمزيق صفحتي قصيدة (ساقا الشهوة) من مجلة (الناقد) في عدد من الدول العربية.
أما عن وصيتي، فلدي عدة وصايا، كتبتها الواحدة بعد الأخرى استجابة لظروف ومخاوف، وذلك خلال خمس عشرة سنة. ربما كانت فكرة جيدة، ولكنها للأسف لم تخطر على بالي أن ألحقها بهذه المجموعة أيضاً.

(*) في القسم الأخير من الكتاب (الحياةُ العاطفيَّةُ المُزريةُ لأساطينِ الموسيقى) ثمة أيضاً بحثٌ في الكواليس الخفيّة، لكن عن "الحب" عند أهل الموسيقى، وهو يشبهُ تكريس معاناة الموسيقي في علاقاته كما صوّرها ميلوش فورمان في فيلمه "أماديوس" الذي يتحدّث عن حياة موزارت متناولاً الشقّ العاطفي لديه أيضاً، هل تريد هنا أن تقول إنّ الفنّ كجسد الوردة، جميع من يمسكون به لا بدّ أن يشعروا بالوخز؟
إذا قلت لا أدري من أين واتتني الشجاعة لأضم ما كتبته عن (الحياةُ العاطفيَّةُ المُزريةُ لأساطينِ الموسيقى) إلى (تجارب ناقصة) معتبراً إياها شعراً، أكون كاذباً. ضممتها بداية تحت غطاء

العنوان (تجارب). ثم لأعطي المجموعة حجماً إضافياً، كتلة، ثقلاً إضافياً، لشعوري أنها كانت تفتقر لهذا.
لكنني طبعاً لا أجد مانعاً من قبول المغزى الذي ذهبت إليه، على عاطفيته التي تخالف بالكامل العاطفة التي تضمنتها هذه القصائد، لا بل أرحب به كثيراً، إنه يكشف الجانب المعتم فيها ويغنيها لحد كبير برأيي. ثم ها أنت تسأل: "هل تريد هنا أن تقول إنّ الفنّ كجسد الوردة، جميع من يمسكون به لا بدّ أن يشعروا بالوخز؟" هنا قمت، لا أدري عن قصد أم لا، بدمج الشوك ضمن جسد الوردة، دون أن تذكره، علماً أن المبدعين أنفسهم مأخوذون بالشوك ذاته، لا معنى لوردة دون أن تكون لها شوكة توخز، أوراق الوردة تذبل بعد يوم أو يومين على الأكثر، عطرها يزول بعد سويعات، الشوك يبقى، يبقى يوخز. العاطفة هي لعبة الألم المفضلة.

تأثيرات الثمانينيات
(*) تنتمي أنت وياسر اسكيف وخالد درويش ودعد حدّاد وغيرهم إلى جيل الثمانينيات، حيث بدأت قصيدة النثر بفرض نفسها في الشعر السوري، وفي نفس الوقت هي مرحلة دقيقة في تاريخ سورية، كيف يمكنك الربط بين الأمرين؟ هل أثرت الحالة السياسية في ذلك الوقت على المشهد الثقافي- الشعري تحديداً؟
تعلم أنا من كتب (انعطافة السبعينيات في الشعر السوري) الذي صدر كجزء ثالث من أنطولوجيا الشعر السوري الحديث. وفيه أعتبر نفسي، كما الجميع يقر ويقبل، أحد شعراء جيل السبعينيات لا الثمانينيات، رغم أن أول كتاب صدر رسمياً لي (بشر وتواريخ وأمكنة) كان في الشهر الأخير من عام 1979. وفي الواقع بدأت قصيدة النثر تفرض نفسها منذ ذلك العقد، أما في عقد الثمانينيات فقد كان لها أن تتخطى البداية لتكون أقرب للسيادة المطلقة لكل الوافدين الجدد على الساحة الشعرية السورية، إلا باستثناءات نادرة جداً لبعض حاملي تأثيرات قصيدة التفعيلة الستينياتية، ما لبثوا أن اندرجوا في كتابة قصيدة النثر بدورهم. ولكن أوافقك أن مرحلة الثمانينيات مرحلة كارثية في تاريخ سورية، إلا أن قصيدة الثمانينيات كانت قد أعلنت افتراقها التام عن القضايا والموضوعات الكبرى، ودخلت أكثر فأكثر في الحياتي والشخصي وفي التفاصيل المعيشية، نازعة عنها كل أبوة محتملة لشعراء الأجيال السابقة، حتى السبعينيين منهم، الذي كانوا يبشرون بذات المضامين، ولكن ربما برؤية شمولية رغب الشعراء الثمانينيون وما بعدهم أن يتخلصوا منها نهائياً. لذا حسب معرفتي وإحاطتي النسبية بنتاج هذا الجيل لا أرى ذلك الرابط الذي نبحث عنه. دع عنك رياض الصالح الحسين الذي يخال لك أنه الصوت الصارخ ضد كل ما اتصف به ذلك العقد، إلا أن رياض توفي في عام 1982. ولكن ربما بنظرة للوجه المقلوب لهذه الصورة، يمكن لنا رؤية أن تأثيرات عقد الثمانينيات كانت تعمل

على نحو عكسي تماماً، فهي قد نجحت في إبعاد شعراء هذا الجيل عن الاهتمام بالشأن العام كلياً.
بالنسبة لي كان (داكن) هو جوابي على هذه الفترة، (داكن) يشطره الضوء، ورغم أنه لم يكن يتضمن قصائد سياسية بأي اعتبار، فقد احتجت وزارة الثقافة التي أصدرت الكتاب على العنوان، نعم الجهات الرسمية لا تحبذ هكذا عناوين، رغم أنه بعد ذلك صدر بذات الاسم.

(*) مجموعتك (الشاي ليس بطيئاً) هي الأكثر تداولاً بين قرائك إلى حدّ ما، وربّما يعود ذلك إلى توفّرها بنسخةٍ إلكترونيّة يسهل الحصول عليها، هل تؤيد فكرة أنّ الكتاب الإلكتروني ساهم في إبراز طاقاتٍ شعريّة كانت شبه مختفية في ظل احتكار البعض للمشهد الشعري في العالم العربي؟ وهل تظن أن الوقت حان للتخلّي عن الكتاب الورقي؟
بالتأكيد (الشاي ليس بطيئاً) هي إحدى المجموعات المفصلية في تجربتي، سبقتها (بشر وتواريخ وأمكنة)، المجموعة التي كانت السبب لي ولغيري بأن يصدق شاعريتي. ولكن أعترف أن صدور (الشاي ليس بطيئاً) عن أهم دار نشر عربية وقتها (شركة رياض الريس) كان له دور في تكريسي كأحد شعراء واجهة الشعر العربي الحديث في سورية والعالم العربي، الأمر الذي لم أستطع الإبقاء عليه كما أظن، إلا أنها ليست المجموعة الوحيدة المتوفرة بنسخة إلكترونية، وببحث قليل تستطيع أن تجد العديد من مجموعاتي، منها (.. لأني لست شخصاً آخر) في موقع الهيئة العامة للكتاب في القاهرة، كما أن (داكن) لها صفحة في الفيسبوك، وكذلك (منذر مصري وشركاه).
وأنا بالتأكيد أؤيد فكرة أن الإنترنت، الفيسبوك وسواه من وسائط التواصل الاجتماعي، قد ساهم في ظهور شعراء شباب ما كانت ستتوفر لهم الفرصة للظهور ضمن واقع النشر القائم في البلاد العربية. فهذا بات معروفاً ومتفقاً عليه من قبل الجميع، حتى وإن اختلفوا في تثمين النتائج التي تولدت عنه.
ومع أني أصدق أننا قادمون على عصر جديد سوف يتغير فيه كل ما نعرفه ونتعامل معه اليوم، فأنا لا أظن أن الوقت قد حان للتخلي الكامل عن الكتاب الورقي، فهذا أيضاً واقع، لأنه ما زال الكتاب التقليدي مطلوباً ومتوفراً في الأسواق، وما زالت هناك مكتبات. بالنسبة لك

ككاتب، ماذا يعني أن يكون لديك خمسة كتب، ولا شيء منها على رفك، أو رفوف من يحبّ كتابتك.

(*) يقولُ أحمد ندا في مقالٍ له في جريدة الأخبار عن الشاعر صلاح فائق إنّه "وضع كلّ ما يملك" على الفيسبوك، ولاحظنا في الفترة الأخيرة أنّك نشرت أيضاً عدداً من كتبك مثل (حقل الفخاري)، (بولونيزات)، (لمن العالم) و(تجارب ناقصة) الذي صدر مؤخّراً، هل بإمكاننا توصيف ذلك بأنّه "تفريغ حمولةٍ شعريّة ضخمة"؟
(حقل الفخاري) ليس مجموعة شعرية. طبعاً هذه مفاجأة لأغلب من يعرفونني.. لكن نعم أنا إنسان اختار مكبّ الشعر لتفريغ حياته كلها فيه.

(*) من المعروف أن ديوانك الرابع (داكن) الصادر عن وزارة الثقافة عام 1989 صودر في نفس العام، قبل أن تعيد دار "أرواد للطباعة والنشر" إصداره عام 2014، هل تجد أن منع كتابٍ ما أو مصادرته يؤدّي إلى نتائج عكسيّة ويساهم في تكريس نوع من البروباغندا للكاتب؟
تناولت هذه الفكرة في مقدمة الطبعة الثانية، وخلصت إلى أن ذلك لا يحصل عندنا، أو لم يحصل بالنسبة لي عموماً. قوبل الكتاب باستحسان لافت، لأنه يستحق، أحب أن أصدق. رغم أنني كنت أعتبره أحد أكثر كتبي بعداً عني وعن الطريقة التي أحب كتابة الشعر بها. هناك ميل غالب فيه للأفكار والذهنيات على حساب الحسيات، من عاطفة وغريزة، في العديد من قصائده. لكنني البارحة كنت أجلس مع شاعرين شابين يتحدثان أمامي عن روعة (قصائد من الذهن) أحد أقسام (داكن).

(*) قمت بإصدار عملك (بولونيزات) موقّعاً باسم "منذريوس مصريام"، ويحضر هذا الاسم في حوارات له مع بولس الرسول تنشرها بين الحين والآخر على حسابك في فيسبوك، وفي كتابك (داكن) تطرّقت لشخصية "منذريوس" في (زهر وثمر) أنّه كان شاعراً غير معروفٍ من مدينة لاودقية (اللاذقية). ترى لأي حد تتماهى شخصيتا "منذر" و"منذريوس" برأيك، وهل لشخص بولس الرسول أثرٌ في تكوين قصيدة "منذريوس" رغم خلافاتهما؟
هذه قصة طويلة، صديقي. أختصرها أنني أول ما اخترعت، أو قل إنني أول ما تقنعت بمنذريوس مصريام كان عندما كتبت مقدمة قصيدتي (ساقا الشهوة) التي كانت سبب منع (داكن)، على أنني قمت بإجراء حوار بين شاعر لاذقاني التقى ببولس مرتين أو ثلاثا وسمع أقواله وتعاليمه، وحاوره واختلف معه، حول ما إذا كان الجسد مدنّساً أم مقدساً، ومن البديهي أن منذريوس الوثني كان صاحب الرأي الثاني: "زهر وثمر.. هذه أيضاً أعمال الجسد" قد ذكرت أنه أرسل له عدة رسائل ما زالت محفوظة في مكتبة ما، تضمنت المقاطع الثلاثة لهذه القصيدة. وفي آخر المقدمة، أنفي نفياً قاطعاً أي تشابه بيني وبينه، كما يقال ذلك عادة في القصص والأفلام. ولكن.. عند إعدادي لمجموعة (بولونيزات) وجدتني مدفوعاً لأضع عليه هذا الاسم.. الذي لدهشتي لا يكتشف البعض أنه مشتق بصورة شبه آلية من اسمي.
أمّا مناوشات منذريوس وبولس، فللأسف لم أستطع بها تحقيق ما كنت أرغب به عندما أنشأت

حساب (منذريوس مصريام) بعد امتلاء حسابيّ الأسبقين، كنت أرغب أن أظهر منذريوس على أنه حقيقة منذر مصري، "هذا القناع يشبهني أكثر من وجهي" الذي لا يلوي على شيء، متابعاً صورته الصفيقة والملعونة في (بولونيزات).

(*) وسط حركة الترجمة الواسعة اليوم للشعر حيث بات يكفي إتقان الشاعر للغةٍ ما حتى يلج عالم التعريب، بعيداً عن الجدلية البيزنطيّة في جودة الترجمات المنقولة وأولويّة نقلها من لغتها الأم وما إلى هنالك، هل كانت لك محاولات في الترجمة يوماً، وكيف يمكن للشاعر أن يكون "ناقلاً" جيّداً برأيك؟
لا شيء يستحق الذكر بالنسبة لمحاولاتي في الترجمة. أما كيف يمكن للشاعر أن يكون ناقلاً جيداً، فهذا يحتاج إلى بحث، علماً أنّي لست أفضل المؤهلين للإجابة عليه.


الشعراء يتناسلون من بعضهم
(*) تقول شقيقتك الشاعرة مرام المصري إنّك أنت من علّمتها الشعر، هل تحبّذ نظرة "الأب الشعري" لك من قبل الأجيال اللاحقة لجيلك؟ وهل شخصية "الأب الشعري" ضرورية لهذه الأجيال أم محض خرافةٍ اختُرعت لوصل أزمان الشعر ببعضها؟
بدوري هناك من علمني الشعر، أو قل من وجدت فيه ما أتعلمه منذ زمن، والآن أيضاً. ولكن هذا شيء و (الأب الشعري) شيء آخر. لا أشعر أن أياً من توفيق الصايغ، أو شوقي أبي شقرا، أو جبرا إبراهيم جبرا، أو عباس بيضون، أو حتى محمد سيدة الذي علمني الكثير، أب لي. وفي الواقع، أحسب أن تجربتي بجوهرها تقوم على أساس غير مستقر كفاية ليزعزع كل ما يمكن أن يشيّد عليه. من بوسعه أن يكون ابناً لـ(الشاي ليس بطيئاً) و(من الصعب أن أبتكر صيفاً)؟ من يرضى أن يكون صاحب (لمن العالم وسير مشبوهة أخرى) و(بولونيزات) أباً له؟

ولكن ربما رفضي لمقولة (الأب الشعري) يتركز على أحاديته، وربما أكون أشد تساهلاً مع فكرة (الآباء الشعريين) وذلك لأني بالمقابل أصدق بأن الشعراء يتناسلون من بعضهم.