Print
عماد الدين موسى

جميل داري: الشعر يبقى أحد أهم أعمدة الفن

28 مايو 2019
حوارات
تنتمي قصيدة الشاعر الكُردي السوري جميل داري، المولود في مدينة عامودا، إلى جغرافية الشِعر العمودي والتفعيلي منذ بداياته الموغلة في الكوميديا السوداء، وإلى جيل الثمانينيّات.
لم يشأ داري أن يمتطي موجة الحداثة دفعة واحدة، كما فعل معظم مجايليه من الشعراء السوريين وغيرهم، بل ظل متمسكا بقواعد الشعر الموزونة إلى هذه اللحظة التي لم يستطع شعر النثر أن ينتزع اعترافا حقيقيا به وحده في ظل شراسة وعناد الإيقاع لا سيما عند الراحل محمود درويش الذي حافظ على الغنائية في شعره حتى اللحظة الأخيرة.
بدأ بديوان صغير هو "السفر إلى عينيك" أواسط الثمانينيات، مرورا بديوانه "إن القرى لم تنتظر شهداءها" وإلى "ظلال الكلام" أواسط التسعينيات، وصولاً إلى "حرائق" و"اشتعالات" مؤخراً.
هنا حوار معه:

ليت الحياة طفولة
نظراً لأهميّة مرحلة الطفولة بالنسبة للمبدع، وتحديداً تلك الأحلام الجميلة التي طالما عشناها ببراءةٍ وعفويّة، سألنا ضيفنا: كيف عاش هذه المرحلة من حياته؟، فكان رده: أتذكر الكثير من ملامح تلكم الطفولة وظلالها المرتعشة لكنها لم تكن غنية بالأحداث الغريبة والمثيرة سوى أنني كنت أمارس لغتي الكردية خارج أسوار المدرسة والعربية داخلها ولا أعرف الظروف التي جعلتني أختارها هي لغة لعقلي وروحي حتى الآن، وفي نهاية تلك الطفولة وجدتني مجيدا للغة العربية التي أحببتها ورأيت فيها ضالتي الضائعة وفردوسي المفقود للتعبير عن نفسي التواقة إلى كتابة الشعر في الصف السابع مستمرا في اعتناقها حتى هذه اللحظة الحرجة من عمر الشعر الذي تختلف فنونه ومناهجه ومدارسه وأنا أواكبه كما تواكب أم رؤوم ابنها في مراحله العمرية المختلفة.
ويضيف: "الجميل أني استطعت الاحتفاظ ببعض الطفولة في روحي، فلولاها لما استطعت اقتراف القصيدة التي تحن إلى أطلالها البعيدة وكتبت بعض القصائد للأطفال وعنهم، منذ: ليت

الحياة طفولة.. وإلى الطفولة منتهاها، إلى هذه اللحظة التي تراق فيها الطفولة وتغرق في البحار البعيدة وفي بحور الدم وكأن الكون ما زال محتاجا إلى المزيد من الجنون والموت".

فترة الجامعة
يقول صاحب كتاب "السفر إلى عينيك": كتبت نصوصا كثيرة لا قيمة لها قبل مرحلة الثانوية وفي الأول الثانوي أعجبت بقصيدة مالك بن الريب وهو يرثي نفسه فكتبت على منوالها أبياتا ما زلت أحفظ بعضها، ثم قلدت فيما بعد محمود درويش وسميح القاسم ونزار قباني وظللت أدور في فلكهم حتى فترة متأخرة فكنت تلميذا نجيبا لأساليبهم الشعرية المحببة إلى نفسي ولم أستطع أن أهضم الشعر المنثور إلا في بعض نماذجه العالية كما لدى محمد عمران ونزيه أبو عفش وغيرهما، ولم أتحمل ما كتبه أنسي الحاج، أو بول شاوول ومن لف لفهما، ولقد نشرت أولى نصوصي الشعرية في فترة الجامعة بمجلة الثقافة الأسبوعية والشهرية لصاحبها مدحت عكاش، ثم تتالى النشر في بعض الصحف السورية والعربية في ما بعد.

حاجة النفس إلى التعبير
نسأله عن المؤثرات التي كانت السبب في الدفع به لكتابة الشعر، فيقول: حتى الآن أسال نفسي: لماذا الشعر؟ ربما هي الفطرة أو الموهبة أو حاجة النفس إلى التعبير عن نفسها بطريقة ما، فأنا وجدتني في أحضان القصيدة أقرؤها بمتعة عالية وتذوق عميق وكان حبي لها يزداد عمقا ورسوخا مع اكتشاف كل نص جميل ومدهش لدى الجواهري وبدوي الجبل ومحمود درويش ونزار قباني، ومع الزمن كان ذوقي يتطور فلا تعود القصيدة القديمة تجذبني إلا بمقدار ما تحمل من نبض وفن وشعرية، وهذا الذوق يختلف من شخص إلى آخر، إلى حد أن بعض أصدقائي الشعراء من عامودا كانوا ينظرون إلى كتاباتي على أنها بضاعة قديمة وبالية لمجرد أني لا أكتب مثلهم نثراً تقليداً لرواد النثر من العرب والأجانب. ولا أعرف ما الذي كان وما زال يجعلهم يناصبون الوزن العداء عموماً، لكنهم يرضخون لشاعرية محمود درويش، أو سليم بركات، ذات الإيقاع الموسيقي العالي.. إن الشعر مسألة أكبر من الوزن واللاوزن وقد كتبت بعض المقالات حول هذه الفكرة مبيناً أن الوزن وحده لا يصنع شعراً، وإلا لكان الفراهيدي أمير الشعراء عبر التاريخ العربي. ثمة شعراء أقرأ لهم بمتعة كمحمود درويش ومحمد عمران ونزيه أبو عفش وقصائد متفرقات هنا وهناك للشعراء الشباب فلدى بعضهم موهبة تضج بالنور

والجمال.
يؤكد ضيفنا أن الشعر ضرورة لروح الإنسان ولا بد منه في السلم والحرب وللشعراء عبر العصور مذاهب شتى تتعدد بتعدد بيئاتهم وثقافاتهم وحياتهم وهو بين جزر ومد، لكنه يبقى الخضم الذي نقف أمامه مشدوهين من لججه العتية وأمواجه الصاخبة.
في يوم واحد قد تقوم بجولة عبر الزمان والمكان فتقرأ لامرئ القيس ولبدر شاكر السياب في اللحظة نفسها دون أن يكون بينهما ذلك الفرق الإنساني فكلاهما يعبر عن روحه بطريقته ويجر آلامه خلفه فالنجوى الإنسانية غابة تتعدد فيها الأشجار ما بين عملاقة وصغيرة لكنها معا تشكل تلك السمفونية التي تتعطش إليها الروح في زمن الصخب والحرب والموت.
وللشعر أنواعه الثلاثة: العمودي والتفعيلي والنثري وما زال هناك الصراع بينها فكل نوع يقول: أنا الشعر لا سواي.. حتى صار الخلاف مسألة شكلية لا تمس جوهر الشعر وشروط نجاحه وجماله، فقد تجد الشعر الجميل في كل هذه الأنواع لدى نفر من الشعراء، ولا تجد أي قيمة شعرية وفنية لدى نفر آخر، ويبقى التذوق الشخصي لكل واحد هو الحكم الفصل في هذه المسألة المزمنة.
وبرأي داري يبقى الشعر أحد أهم أعمدة الفن مهما قسا عليه الدهر، ينبت بين الصخور ويضفي على الكون بهجة وجمالا، فهو الماء والهواء وهو الإنسان في حالاته جميعها.

كل شاعر ناقد
يرى صاحب كتاب "إن القرى لم تنتظر شهداءها" أن كل شاعر ناقد لشعره وشعر غيره سواء كتب في ذلك أو عبر عنه شفويا، فلا بد لكل شاعر من موقف نقدي من شعره وشعر غيره، و"من هنا كتبت قراءات كثيرة لشعراء كثيرين إما مع أو ضد ولذلك كسبت بعض العداوات من شعراء لم أجد لديهم بصيصا من الشعر من وجهة نظري، وهناك ظاهرة مرضية هي الشللية في الحياة الشعرية بحيث تضطر أن تمدح لتُمدح وهذا النوع من النقد لا يمس جوهر الشعر، بل له علاقة بالأشخاص وحياتهم اليومية، فمن نحبه نرفعه للسماء، ومن نكرهه نمسح به

الأرض. وفي كل الأحوال، فإن النقد الحقيقي يصاحب بعض الشعراء حيث يبدون وجهات نظرهم من الشعر عامة وشعرهم خاصة، وهذا يبدو جلياً في ما كتبه أدونيس، أو درويش، أو نزار، أو أبو عفش.. إلخ. جميل أن ينظر الشاعر ويبدي وجهة نظره، وقد تتفوق نظرته النقدية على شاعريته، كما أرى ذلك عند جبرا إبراهيم جبرا، فهو متحدث بارع عن الشعر الجميل، لكنه لا يرقى إلى مستوى نقده في ما كتبه من شعر منثور هو أبعد ما يكون عن الشعر".

النشر الإلكتروني
بحسب داري النشر الإلكتروني سلاح ذو حدين، فهو متاح للشعراء والمتشاعرين وقد غلب عليه الغث دون السمين وهذا لا يضر طالما أن الزمن القصير كاف لغربلة القمح من الزؤان وسيبقى النشر فيه حلا وحيدا للوقوف في وجه دور النشر التي تأنف من الشعر كونه لا يدر عليها ربحا وفيرا كما في الرواية وغيرها، وربما يكون الحق معها فلا قارئ للشعر وتشهد على ذلك قلة مبيعات كتب الشعر في معارض الكتب وعدم إقبال الناس عليه في أمسياته وصباحاته ومهرجاناته الاستعراضية، ولكن يبقى لبعض الشعراء النصيب الكبير في رواج شعره كما لدى محمود درويش، وهذا يحتاج منا إلى نقاشات لمعرفة أسباب ذلك.