Print
عارف حمزة

خلدون النبواني: النضال ضد التوحش يحتاج إلى يسار جديد(1)

1 ديسمبر 2019
حوارات
عادة ما يكون الحوار شيقاً مع الدكتور خلدون النبواني (1975)، العضو المنتخب في معهد العلوم التشريعية والفلسفية في جامعة السوربون منذ عام 2017، والذي يجعل كلّ إجابة منه مفتتحاً لسؤال آخر. وآثرنا أن نجري هذا الحوار مع صاحب "في بعض مفارقات الحداثة وما بعدها"، ونسمع رأيه من وجهة نظر الفلسفة حول الكثير من القضايا، خاصة وأنّه بالإضافة إلى كتبه الشخصيّة ومقالاته التي تُترجم إلى لغات أخرى، ترجم عن الإنكليزيّة والفرنسيّة كتباً لاقت رواجاً لدى القارئ العربي.

في هذا الحوار نحاول معرفة الآراء ووجهات النظر المعاصرة بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، وعودة البشريّة إلى أحضان التوحش واليمين المتطرف والاسترقاق الحديث، وكذلك عن المنفى والوطن، وعلاقة الشعر بالفلسفة وغيرها من القضايا. هنا الجزء الأول منه:

(*) هل نجحت الفلسفة في بحثها عن الحق والخير والجمال بعد وصول البشريّة إلى هذا الزمن المتوحّش؟
- إذا كانت الفلسفة منذ سقراط قد رفعت هذه المثل الثلاثة إلى فضاء المطلق، فإنها ستكتشف متأخرة أن ما ظنته مُطلقاً نقياً لم يكن يوماً كذلك، بل كان مسكوناً منذ الأصل بنقائضه وبذور انحرافه. فلا خير ولا حق ولا جمال مطلقاً.
لقد أدركت الفلسفة الحديثة مثلاً أن الخطأ والوهم يقبعان فيما يبدو حقاً (من الحقيقة true وليس من الحقright ) ويتحدثان باسمه وأن الشر ليس مقابل الخير كنقيض أنطولوجيّ له وإنما هو وجهه الآخر وأن الجمال كثيراً ما راح يتكشف عن قبح.

منذ سقراط تعرضت هذه المثل الثلاثة لتجارب مؤلمة كذّبتها مراراً وشككت بمطلقيتها وصفائها. في عصر التنوير الأوروبيّ تم تصور عالم مثاليّ قيد الإنجاز والتحقق قائم على العقل وحرية الإنسان والمساواة بين البشر.. إلخ، لكن القرن العشرين الذي عاش (وربما مات في) حربين عالميتين، وعانى من فظائع الأنظمة الفاشية والجرائم غير المسبوقة التي اقترفتها أوروبا سليلة التنوير، وجد نفسه مجبراً على مراجعة حقيقية مؤلمة لذلك الإيمان الساذج بتلك المثل.
لقد وجدت الفلسفة نفسها حينها أمام أسئلة خطيرة؛ فكيف استطاع العقل أن ينحرف مثل هذا الانحراف الخطي؟ ولماذا احتكرت العقلانية الأداتية النفعية فكرة التقدم فأنتجت الأسلحة "المتطورة" الفتاكة الكفيلة بالقضاء على كل منجزات المدنية والحداثة والتنوير؟ وكيف للديمقراطيات الغربية أن تنتج كل هذه الأنظمة الفاشية التي حكمت الدول الغربية؟ كيف كان لمثل هذا التنوير ومُثُلِه أن تنتج كل هذا الظلام والخراب؟  كانت هذه هي أسئلة الفلسفة المؤلمة التي تصل متأخرة غالباً كبومة منيرفا، على رأي هيجل، التي لا تفرد جناحيها إلا بعد أن يحل الظلام.
لا شك أن العصر الحديث بكل قتامته قد صبغ الإنتاج الأدبي والفلسفيّ بألوانه الباهتة الكئيبة، فكان أدب الحداثة بالعموم أدباً سوداودياً ميلانكولياً. لا غرابة إذاً أن يتربع كافكا السوداوي المرعب على أدب هذه المرحلة. ولا عجب أن يحظى كامو وسارتر بكل هذا الإقبال والانتشار.


مع الحداثة اختفى المطلق
(*) أليست الفلسفة ابنة زمانها؟  
- الفلسفة كانت ابنة زمانها، فكانت وجودية هايدجر بكل ما تحمله من قلق ويأس وعجز أمام تطور التقنية الكاسح، التقنية التي تخنق الوجود الحقيقي وتشوهه، ومن هنا التجأ فيلسوف الوجود في كتاباته المتأخرة إلى نيتشه والشعر، بينما هرب أدورنو وماركوز إلى عوالم الجمال والأدب، وانتهى هوركهايمر، الفيلسوف المادي المتشائم، إلى البحث عن لاهوت سلبي فوجد ضالته في تشاؤم شوبنهور، الفيلسوف المثالي المتشائم، في حين سيمزج بنيامين الماركسية المادية، الثقيلة على روحه، بالتصوف اليهودي، ويؤثر الانتحار على الوقوع في قبضة الفاشية. بالإضافة إلى ذلك سنسمع نغمات هذه السمفونية الحزينة في الفلسفات الفرنسية المعاصرة مع سارتر ودريدا.
مع الحداثة اختفى المطلق الذي كان يضمنه الدين. وأدرك الفلاسفة عجز الفلسفة بعد رحيل الإله عن العالم الذي تخلى عنه. وهذا ما يفسِّر لماذا ظهرت فلسفات ملحدة أنتجت في العمق لاهوتاً سلبيّاً حلت فيه فكرة ترقب الإله المتواري، لكن المُنتَظر، مكان فكرة رعب موته، فراح نيتشه يبشر بعودة ديونيزوس ويُطالب هايدجر بالإصغاء إلى صوت الوجود وترقب الحدث، بينما ما انفك دريدا، في فلسفته الأخيرة، يؤكد على إمكانية المستحيل الذي لا يمكن التنبؤ بوقت حدوثه.


(*) هل يعني أن كل تلك الفلسفات كانت ذات طابع سلبي؟
 
- طبعاً لا يمكن وصف كل الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة بالطابع السلبي؛ فهناك فلاسفة وجدوا أنفسهم مدعوين لمراجعة حقيقية للماضي القريب وانحرافاته، والتعامل مع العالم وتعقيدات المجتمعات الحديثة، بواقعية أكبر وسذاجة أقل مما كانت عليه الحال مع عصر التنوير.
لكن للأسف كان التصاق هذه الفلسفات بالواقع المضطرب عقلانياً، وبسبب من براغماتيتها المباشرة، جعلها هذا ميتة الروح، متصالحة جداً مع الواقع الذي تزعم تغييره ومراجعته، بل ومحافظة في كثير من الأحيان. لا تخرج أعمال هابرماس عن تلك الفلسفات الباردة برودة العالم الغربي العقلاني الحديث ونزعته المحافظة.


هزيمة ماركس
(*) كيف تنظر الفلسفة إلى العالم الذي تحكمه ديكتاتوريّة كبرى وهي المال؛ حيث ما عادت المجتمعات الاشتراكيّة تحقق الأمان وكرامة مواطنيها في العيش وفرص العمل، وصاروا يفرون إلى الدول الرأسمالية، وأصبحت الدول الرأسماليّة، أو شبه الرأسماليّة كالدول التي تدعم النظام الاجتماعي رغم رأسمالية نظامها، تسترق الناس وتحولهم إلى عبيد وآلات؟
- كما ذكرتُ في جوابي السابق فقد تراوح رد الفلسفة على عالم الرأسمال والشركات المتعطشة للربح والعولمة بين الانسحاب النوستالجي من واقع سوداوي، أو محاولة التفاهم معه. ولو استحضرنا مقولة ماركس في نقده للأطروحة 11 عند فيورباخ، بأن مهمة الفلسفة تستوجب الانتقال من فهم العالم إلى تغييره، فإننا على يقين اليوم بأننا غيرنا العالم أكثر من اللازم، ولم يعد بوسعنا فهمه لسرعة ما يتغير.


لكن قبل إطباق حبل المشنقة حول عنق المجتمعات الغربية الرأسمالية وما بعد الرأسمالية، لا بد لنا من وقفة تأمل شُجاعة والاعتراف بإزدواجية مشاعرنا ومواقفنا تجاه هذه المجتمعات وأنظمتها.. فهذا العصر الرأسمالي "المتطور" هو من جاء بأفكار حقوق الإنسان، وفيه وصل الإنسان إلى أعلى درجات التحرر والرفاهية المادية وضمان ما يُعرف بالغرب بدولة الرفاهية لحياة مواطنيها. بل والاعتراف بحقوق الأجانب وحقهم في الحياة واللجوء والتأمين الصحي والرعاية، مثلهم مثل مواطني هذه المجتمعات... الخ.
لم يعرف التاريخ مجتمعات تسود فيها القوانين وسيادة الحقوق والعدالة الاجتماعية كما هي الحال في مجتمعات الغرب الحديث. ألا يحج ويلجأ معذبو الأرض والباحثون عن العدالة الاجتماعية، والهاربون من جور الظلم والطغيان، بل حتى أولئك الفارين من أنياب الفقر، أو الساعين لتحقيق ذواتهم، إلى بلدان الغرب الرأسمالي؟ كيف يحدث هذا إذا كان بتلك الوحشية؟ 
ورغم كل ما يبدو من حسنات وإنجازات هذه المجتمعات الرأسمالية الصناعية والتكنولوجية والتقنية، إلا أن الفلاسفة، وبخاصة فلاسفة تلك المجتمعات الغربية، قد ركزوا جهودهم على فضح وكشف الأصل المتوحش واللاإنساني الكامن وراء القشرة الإنسانية لهذه المجتمعات. ففي الوقت الذي ينعم فيه أبناء هذه المجتمعات بكل مظاهر الرفاهية والحقوق والفرص، فإن سياسة الدول الغربية قامت، لتحقيق الثروة وتلك الرفاهية، على التوسع والهيمنة وسلب مقدرات الشعوب الأخرى وثرواتها وقراراتها.
لنتذكر مثلاً أن السلطات الفرنسية حين أوقفت زكي الأرسوزي في سورية، قال لها هذا الأخير: إنني أدافع عن حقوق الإنسان التي تعلمتها في فرنسا. فأجابته: ما تعلمته في فرنسا يخص فرنسا فقط.
بلدان حقوق الإنسان سجّلت أبشع الانتهاكات في ملفات حقوق الإنسان وجرائم الحرب والعنصرية خارج حدودها. لكن جهد الفلاسفة في نقد العصر الرأسمالي والمجتمعات الحديثة قد انصب أيضاً على مصير أبناء هذه المجتمعات وتشيؤهم واغترابهم وسلب وقتهم وحياتهم لصالح استمرار دوران آلة الرأسمالية العملاقة التي وقودها حياة الناس الحقيقية وأموالهم.
منذ ماركس والفلسفة تكشف وتفضح وتفكك كيف يتم استلاب جهد العامل وكيف يغترب الإنسان عن عمله ونتاج عمله وكيف يصبح تابعاً للآلة وشيئاً، وكيف تُنمّط حياة الناس ويصبحون ببعد واحد، كما أكد ماركوز. وكيف يتم استلاب الوعي وتحفيز غرائز الشراء في مجتمع غدا سوقاً كبيرة كل شيء فيه قابل للبيع والمساومة، ولكل شيء سعره. وكيف أن وراء وهم الحرية الحديثة تزداد الرقابة وتتقلص الحريات دون أن يعي الإنسان بذلك مباشرة. ولأبحاث فوكو هنا أهمية استثنائية في فضح هذه التناقضات.
هكذا عملت الفلسفة وعلم الاجتماع وعلوم النفس على تشخيص حالة الإنسان الحديث الذي مُسخ إلى صرصار، كما تذكّرنا أقصوصة "المسخ" الشهيرة لكافكا. ومع التكنولوجيا وتقدمها الكاسح تم تشتيت الوعي النقدي، وصارت ثقافة الصورة في مجتمع الفرجة تبيح كل شيء، فوصلنا إلى "حالة البورنو" على رأي بودريار؛ فحين يكون كل شيء ملقى أمام ناظريك لا تعود ترى شيئاً، وحين يكون الجنس مُباحاً وسهلاً تنتهي اللذة.
قرأت منذ فترة أن بلدية لندن تفرض مبلغ 10 جنيهات لزيارة ضريح ماركس في لندن (كان ماركس يريد ضريحاً بسيطاً جداً). تُخلِّف قراءة هذا الخبر ابتسامة صفراء على الوجه وإحساساً بخذلان التاريخ؛ فمن حارب الرأسمالية بكل شراسة تستثمر هذه الأخيرة ضريحه، كما لو كانت تهزأ به وتقول له أنا من ينتصر في النهاية.
ولعلك تتذكر عبارات "نيقولا برديائيف" التي استهل بها ألدوس هوكسلي روايته الشهيرة "عالم جديد شجاع"، والتي يأتي فيها: "ولعل عصراً جديداً يبدأ. عصرٌ سيحلم فيه المثقفون والطبقة المتثقفة بوسائل تجنب اليوتوبيا وبالعودة إلى مجتمع غير مثاليّ أقل اكتمالاً وأكثر تحرراً"، من دون الوقوع في خطأ الماركسية الشيوعية مجدداً، ومن دون الدعوة إلى التخلص من كل منجزات الدولة الغربية الحديثة المهمة على الصعد الأخلاقية والقانونية. ومع ذلك فإن النضال ضد توحش الرأسمالية يبدو لي اليوم نضالاً لا غنى عنه من أجل حرية حقيقية أمام حريات زائفة نتوهم امتلاكها، لكن هذا يحتاج إلى يسار جديد، وهذه هي إحدى أهم وأكثر المهمات إلحاحاً التي على الفلسفة الآن وهنا الاضطلاع بها.

فلسفة عربية راهنة واحتكار الغرب
(*) هل هناك ما يُمكن تسميته بفلسفة عربية في العصر الراهن؟
- أستطيع أن أجيب بـ "نعم" صغيرة. ولكن حتى هذه النعم الصغيرة تحتاج، لكي تكون مقنعة، إلى تحطيم جدارين اثنين، ومع أنهما وهميان إلا أنهما يشكلان سداً يحول بين العرب والفلسفة.
الجدار الأول معياري، فلا بد من التوافق – رغم تعدد تعريفات الفلسفة – على إطار عام يمكن ضبط الفلسفة فيه من دون الادعاء بالقدرة على رسم حدودها بشكل نهائي. تجدد الفلسفة عبر تاريخها، وتغير طريقة التفلسف، وكثرة تعريفاتها، كل ذلك يجعلنا نتحدث عن فلسفات لا حصر لها. إذاً إن تحديد الفلسفة هو إشكالية فلسفية بامتياز، وأمر يعاد صياغته دوماً، ويختلف حوله الفلاسفة بقدر عددهم.


لا شك أن الفلسفة لم تعد تعني محبة الحكمة وفق اسمها الإغريقي المركب العتيقsophia  philein أي المحبة والحكمة أو محبة الحكمة. بل إن الفلسفة لم تمارس منذ الإغريق بوصفها محبة أبداً تقريباً. ظلت الفلسفة وقورة وجادة كأم أرملة أو كمديرة مدرسة أو كراهبة متقشفة في دير. لا أظن إذاً أن تاريخ وممارسة الفلسفة يتوافقان مع دلالة اسمها، بل، على العكس، تبدو مقولة هيجل حول شقاء الوعي أكثر مطابقةً لواقع وتاريخ الفلسفة.
للفلسفة وجوه كثيرة ومواطن متعددة ومن واجب الفلاسفة اليوم مقاومة احتكار اسم الفلسفة من قبل حضارة أو جغرافية أو لغة. وإذ تتعدد الفلسفات فإن من بين تعريفات الفلسفة الكثيرة ومهامها يظل ربط الفلسفة بالتنوير وبالتحرر إحدى أهم مهام ومزايا الفلسفة، ومن هذا الباب يمكن لنا الولوج إلى فلسفة عربية من دون خوف ولا وجل ولا عقد نقص.
ولو استعدت هنا تعريف كانط للتنوير بوصفه التحرر من الوصاية والاعتماد على الذات والجرأة في التفكير والإقدام عليه، لوجدنا أن العرب تفلسفوا حقاً ولا زالوا يتفلسفون اليوم وغداً. على قدر أهمية فلسفة التنوير إلا أنه يظل مدخلاً صغيراً لها وأكثر سهولة من المهام الأخرى في الكشف والفضح والخلحلة والتفكيك، ومع ذلك هو أًصيل في الفلسفة. ولهذا لدينا كل مشروعية القول هناك فلسفات عربية قديمة وحديثة ومعاصرة.
أما الجدار الوهمي الثاني الذي يحول بين العرب والفلسفة فإنه ينهض باسم التفوق الحضاري الغربي واحتكاره للحضارة والفلسفة والأدب. فالغرب الأوروبي يحتكر تعريف الفلسفة، وهو من يحرس مداخلها، ويوزع بطاقات أعضائها على الأبيض الأوروبي فقط للأسف.


(*) أي أنه بالنسبة للمركزية الأوروبية إما أن تكون الفلسفة غربية أو لا تكون.
ـ نعم، تماماً. وهكذا استطاع الغرب الأوروبي الكولونيالي أن يحتكر الفلسفة ويحصرها بالإنتاج الغربي من سقراط وصولاً إلى يومنا هذا. لهذا التصور فرسانه الأشاوس من هيجل إلى هايدجر إلى ﭭيبر إلى هابرماس، بل حتى بول ريكور لا يستطيع أن يرى الفلسفة إلا بنظارات المركزية الغربية؛ فيؤكد أن الفلسفة هي فقط الإنتاج الغربي بأصوله اليونانية وامتداداته في التراث اليهودي والمسيحي، الغربي لا الشرقي، وكل ما أنتج خارج هذه الدائرة هو ليس من الفلسفة بشيء، وإنما هو طرق مختلفة في التفكير.
العرب غالباً، وبسبب عقدة نقص واضحة، تضاءلوا أمام الإنتاج الغربي وارتضوا مهنة التلميذ والمريد. فالغرب هو من يعمِّد الفلاسفة البيض فقط. هكذا اختفى لقب الفيلسوف من نطاق التداول للمشتغلين بالفلسفة، وصار أقصى ما يمكن أن يطمح إليه عربي أن يدعى مفكراً ومثقفاً.


فلاسفة أم شرّاح أم هواة كسالى؟
(*) وكيف يُمكن الرد على هذه النظرة المتعالية؟
- بالنسبة لي توجد فلسفة عربية إسلامية وسيطة تستحق الاسم بكل جدارة، وإن الكندي والفارابي وابن باجة وابن رشد فلاسفة بكل معنى الكلمة، وليسوا مجرد ناقلين وشراح للفلسفة اليونانية. وهذا التصور الأخير هو عقدة نقص وجزء من التصور المركزي الغربي للفلسفة الذي يقع في أسره معظم الباحثين العرب.


ومما لا شك فيه أن جزءاً من الإنتاج الفكري العربي الحديث والمعاصر يستحق، على تواضعه، وبدائيته، وارتجاله – إذا ما قورن بالإنتاج الغربي المحترف – لقب الفلسفة العربية.
وللخروج من سيطرة اللوغس الغربي والمركزية الأوروبية لا بد للعرب، وغيرهم، من التفكير في إمكانيات أخرى للفلسفة غير غربية ومنفتحة على ما أقصته هذه الأخيرة. وهناك مُناخ شرقي عربي يمكن أن ينزع عن الفلسفة حجبها ويحررها من سجن الهوية الغربية وتمركزاتها. وبوضوح أكثر، لا بدّ للعربي من الخروج من سجن الأصالة والمعاصرة؛ فإذا كان سطح الكرة الأرضية ملك للجميع، كما يؤكد كانط، فإن التراث الفكري والثقافي الإنساني ملك للجميع. أما رواسب النزعة القومية والخوف على الهوية من الآخر فهذا ما يجب دفنه إذا ما أردنا رؤية فلسفة عربية.
الشرط الأساسيّ اليوم لإنتاج فلسفة عربية لا يقوم أبداً على البحث عن هوية عربية خاصة من خلال القطيعة مع المرجعيات الغربية للفلسفة، بل على العكس تماماً؛ لا بد من الانفتاح على كونية الفلسفة لإنتاج فلسفات محلية/كونية.
ومع ضرورة كسر احتكار الغرب للفلسفة لا بد من تعلم الاحتراف الفلسفيّ من الغربيين؛ لكي يكون هناك فلسفة عربية.
للأسف لا يزال المتفلسفون العرب مجرد هواة كسالى، لا ينقطعون إلى الإنتاج الفلسفي ويتفرغون له على طريقة كبار الفلاسفة الغربيين، ولهذا هم يقدمون الكثير ويبنون مشاريع جدية، بينما يكتفي العربي، للأسف، بشهادة دكتوراه وبضعة كتب خفيفة وهوامش متواضعة على مؤلفات الفلسفات الأخرى.

(*) إلى ماذا تُحيلون هذا الكسل وعدم الإبداع؟
- لا شك أن الإنتاج الفلسفي العربي الحديث والمعاصر هو جزء من الحضارة العربية المتراجعة والراكدة منذ قرون. وهو ضعيف واقعياً بالقياس إلى الإنتاج الفكري الغربي. لكن الأمر الأخطر هو قيام جدران وهمية نفسية لا بد من تجاوزها بالشجاعة والجرأة على التفلسف؛ فالفلسفة ليست حكراً على الغرب الأوروبي فقط، وهناك إنتاج عربي، على ندرته، يستحق أن يُسمى فلسفةً وعن جدارة. ولا أقصد هنا ذلك الإنتاج العربي باللغات الأوروبية فقط وإنما المكتوب بالعربية أيضاً.
أمام هذه الفوبيا العربية، وعقدة النقص الفاضحة من اسم "فيلسوف" أدافع أنا عنه بشراسة، وأدّعيه لنفسي، حتى ولو لم أكن أستحقه، ولكنه رد فعل على تعالي الغرب وعلى عقدة نقص العرب أمام الفلسفة. 

(*) هل صحيح أن كثيراً من "الفلاسفة العرب" ما عادوا ينهلون من الفلسفة العربية القديمة ولا عادوا يهتمون بتجديدها، وباتوا يتتلمذون على الفلسفة الأوروبية والأميركية، وبالتالي ينتهجون نفس طرائق تلك الفلسفة وينقطعون عن جذورهم؟
- ليس تماماً، فرغم زيفه المطلق لا يزال الصراع الكلاسيكي بين حديث وقديم، وأصيل ومعاصر، وتراث وفكر مستورد، حاضراً بقوة في الوعي الفلسفي العربي. ولا زالت تطغى هذه الثنائيات الحديّة الزائفة للأسف على دراسة الفلسفة وتدريسها في الجامعات العربية؛ فالكثير من العرب "مُستلبو الوعي" لا يجدون حاضرهم ومستقبلهم إلا في الماضي المُؤمَثل، أي غير الواقعي. وهناك من لا يزال واهماً أن التراث القومي الماضي هو بوابة الحاضر والمستقبل. تفضح مثل هذه النزعة الشوفينية القومية الماضوية عند العديد من الباحثين العرب نزوعاً سلفيّاً وإن كان مُقنَّعاً أحياناً أو غير شعوري، وهذه حال مفكري التراث العرب برأيي.


في مقابل هذا التوجه الحديّ هناك نزعة لا تقل مرضيةً عن نزعة الماضي، وهي التعالي عن كل ما هو إنتاج عربي وهوس بالإنتاج الغربي، وحصر القراءة والكتابة باللغات الأوروبية. هذه الثنائية التي يُظن أنها أنطولوجية بين أصالة ومعاصرة وفكر قوميّ وفكر أجنبيّ زائفة بامتياز، وهي إشارة إلى عدم نضج فكري.
من الصحيح أن هناك شيئاً من "القومية" يظل راسباً في الإنتاج الفلسفيّ، سواء من خلال اللغة التي ترتبط بشكل قوي بإدراك المرء للعالم وتصوراته عنه، أو بتقاليد فلسفية تؤثر بشكل كبير في تطورات الفلسفة المحلية اللاحقة، أو ما كان يسميه فيخته روح الشعب. لكن الفيلسوف الحقيقي هو من يجد في مجمل التراث الإنساني مواد له للاشتغال عليها والتأثر بها ونقدها والاستيحاء منها. بهذا المعنى أفلاطون ولاو تسيو وابن رشد وسارتر، على سبيل المثال لا الحصر، هم جميعاً جزء من هذا التراث الفلسفي الكونيّ، رغم البصمة القومية أو التاريخية في كل واحد، وهو تراث لجميع البشرية علينا أن ننفتح عليه دون عقد.
إذاً لا بد من الخروج من التمركزين الخطيرين، المركزية الغربية والمركزية العربية الإسلامية، لكي تكون هناك فلسفة عربية تنتزع الاعتراف بنفسها وتحاور غيرها.