Print
حسام أبو حامد

فنان الأفيش شمس الدين بلعربي.. من بؤس الشارع للعالمية

7 نوفمبر 2019
حوارات
الأفيش (AFFICHE) لفظة فرنسية تعني في المجال السينمائي الملصق أو الدليل الدعائي للفيلم، وكانت نشأته الأولى في فرنسا بالتزامن مع انطلاق السينما، ليأخذ أبعاداً رحبة تجارية وفنية في الولايات المتحدة الأميركية، متأثراً بالنمو الكبير لصناعة الدعاية والإعلام.

كان الأفيش في بداياته الأولى بوابة للتواصل مع الجمهور، ووسيلة ورقية توزع باليد للتبليغ عن العرض المسرحي أو السينمائي في السنوات التي شهدت وسائل دعائية محدودة، تمثلت في إعلانات الصحف والمجلات والوصلات الإذاعية، ليفرض نفسه دعامة أساسية في الدعاية للفيلم السينمائي، جاذبا فضول المارة في الشارع، ومحفزا لهم على مشاهدة الفيلم من خلال الرسم اليدوي على ورق بقياسات محددة، أكثر استقرارا في المكان (أبواب السينما، الشوارع، وسائل النقل)، لتتطور شروطه الفنية والجمالية مع تطور فن السينما.
انطلاقا من الخمسينات لم يعد الأفيش مجرد آلية لتسويق الأعمال الفنية، بل مهنة جديدة، وفنا قائما بذاته، ضاهت قيمته الجمالية عديدا من الفنون التشكيلية. الألوان الحادة والبراقة والجذابة لصور أبطال الفيلم، في مشهدية مؤثرة، من إغراء أو قوة أو رومانسية أو فنتازيا، استمرت عناصر لقدرة الأفيش على التأثير في المتلقي.
الجزائري شمس الدين بلعربي (Chemsou Belarbi) ربما يكون آخر عربي يرسم الأفيش، محافظا على تقنياته التقليدية اليدوية، ومع ذلك استطاع الوصول إلى العالمية، وبهر بفنه مشاهير هوليوود، الذين حرصوا على إبداء أعجابهم بفنه بوسائل مختلفة، ووصف في الغرب بأنه فنان عربي ينافس الطباعة الإلكترونية. معه كان هذا الحوار:

تصميم الأفيش صناعة
(*) مرّت السينما بعدة تحولات، فبعد أن حلت السينما المنزلية مكان عتمة الصالات عدنا إلى الصالات مع السينما ثلاثية الأبعاد، تناغم ذلك مع تحولات في عالم الميديا والصورة والرسم، وبدت الأفيشات المرسومة باليد قد انقرضت لصالح تلك المرسومة بأجهزة الكمبيوتر وبرامجه المخصصة للرسم بدقة عالية توفر الجهد والوقت والتكلفة. كيف استطعت بتقنياتك التقليدية منافسة الطباعة الإلكترونية؟ ولماذا يستمر الطلب عالميا عليها؟
- بعد بسم الله الرحمن الرحيم أشكرك على منحي فرصة التواصل مع قراء ومتابعي موقع "ضفة ثالثة".
رسم ملصقات الأفلام بالطريقة اليدوية فن تقليدي كلاسيكي قديم، بروح فنية مميزة، وتتصف بالمبالغة الفنية في بعض الأحيان، التي تعجز الآلة الإلكترونية عن إنجازها، لا سيما بيد الفنان العربي ذات اللمسات الخاصة، الساعية إلى إثبات الذات، بترجمة تلك الرغبة إبداعا يسعى للاستحواذ على ذائقة الآخر، وإثارة فضوله لمشاهدة الفيلم.

تأثرت بالمدرسة الكلاسيكية المصرية في رسم الأفيش، وأود أن أشير إلى خصوصيتها، فحين يدخل فيلم أميركي للعرض في مصر، يكون الملصق الأميركي مصمما ليتناسب مع العقلية الغربية، وعليه أن يتناسب والذائقة المصرية، التي اعتادت على أفيشات تصوّر شخصيات الفيلم بألوان داكنة تعكس نبرة التحدي في أفلام الأكشن مثلا. بينما قد يحوي ملصق الفيلم الكوميدي رسما كاريكاتوريا لأبطال الفيلم، هذه الأفيشات غير الرسمية الهدف منها جذب الجمهور المصري، حتى عناوين الأفلام قد يطالها التغيير للسبب نفسه، فمثلا فيلم "kick boxer" عندما عرض في مصر تم تغيير الاسم الرسمي إلى "لا تراجع ولا استسلام"، وكان لهذا الإجراء دور في ضمان الرواج الكبير الذي حققه الفيلم.
عملت على تطوير تقنيات المصريين، مضيفا إليها تقنيات عصرية، فقدمتها إلى مؤسسات الإنتاج السينمائية العالمية بحلة جديدة تحاكي المعايير المطلوبة. طبعا الأمر لم يكن سهلا، لا سيما مع بروتوكولات التواصل المعقدة، وتوافر العرض واكتفاء بعض المنتجين بفريق عملهم الذي لا يرغبون دائما بإضافة عناصر جديدة إليه. لكن مع المثابرة ومضي الوقت أصبح لأعمالي صدى واسع في الأوساط السينمائية في هوليوود والعالم.


(*) إذاً ليست هناك معايير واحدة للأفيش متعارف عليها عالميا، بل هناك معايير مختلفة؟
- نعم، تصميم الأفيش هو صناعة، تندرج ضمن صناعة السينما، ولها معايير تختلف من مدرسة إلى أخرى. هناك مدارس عديدة: الأميركية والهندية والصينية والفرنسية والمصرية، استفدت من جميع المدارس لأنشئ أسلوبا خاصا بي. وبفضل الله لقيت أعمالي إقبالا كبيرا.

 (*) البعض يعتقد أن الافيشات اليدوية تعبر عن مهارة الفنان وإحساسه وتضفي على العمل عنصرا إنسانيا وروحا وحميمية لا توفرها الأفيشات الحديثة. لكن، إلى أي حد تتدخل النوستالجيا في أحكامنا الجمالية؟
- في بعض الأحيان قد تكون النوستالجيا، لكن في أحيان أخرى يلعب التمايز عن المألوف دوره، عبر جاذبية الألوان الطبيعية، المزينة بالبريق الفني، لتبدو صورا حقيقية مزركشة بلمسات الرسام من ظل ونور، إذ يوفر الرسم اليدوي خيارات تقنية واسعة تصنع الفارق بين إضافات بروح حقيقية، وبين تقنيات بصرية ذكية خالية من الروح.


الرحلة إلى العالمية
(*) وهل كانت الصدفة هي سبيلك إلى العالمية أم الإرادة؟ صف لنا رحلتك.
- نشأت في قرية صغيرة نائية غرب الجزائر، كنت أرعى الغنم مع خالي رحمه الله، وفي سن الخامسة وأنا في المرعى رحت التقط صفحات الجرائد ذات الصور الملونة لنجوم السينما، أتمعن فيها، وأرسمها على الرمال بالعصا. وفي السادسة، انتقلت إلى المدينة بغرض دخول المدرسة. بدأت موهبتي في الرسم تلفت انتباه المعلمين، ووجهت اهتمامي إلى مادة الرسم على حساب غيرها من المواد مثل الرياضيات والفيزياء. اضطرني الفقر إلى ترك الدراسة، والنزول إلى الشارع مستغلا موهبتي في الرسم مهنة تؤمن لي دخلا، فرحت أزين واجهات المحلات وأنسق ديكورها الداخلي.

تصميم الأفيش صناعة تندرج ضمن صناعة السينما، ولها معايير تختلف من مدرسة إلى أخرى



















(*)
علّي أن أقاطعك هنا.. ألم تكن صغيرا على العمل وتحمّل مخاطر الشارع، لا سيما أن موهبة الرسم ترتبط بأشخاص من ذوي الحساسية العالية ويعتنون بالتفاصيل حتى التعب؟ 
- كان الشارع بمنتهى القسوة، تعرضت بين أزقته للاستغلال، فاستثمر البعض موهبتي دون مقابل، وحين كنت أطالبهم بالأجر أواجه بالصد، وإذا ما فكرت في اللجوء إلى الشرطة، يهددونني بالانتقام، فأشعر بالخوف وأكتم خيبتي ومرارتي في داخلي. أعود إلى سؤالك السابق.. كنت أمر بجانب قاعات السينما أشاهد الأفيشات التي بدت ضخمة بالنسبة لي على أبواب قاعات السينما، وعندما أعود إلى البيت أعيد رسم كل ما شاهدته على الورق. المشكلة أننا كنا نعيش في بيت من سقف لم تحمنا شقوقه من مطر الشتاء وبرده. الكثير من رسوماتي أتلفت بسبب المطر، وبدأت أفكر بإرسال أعمالي الفنية الي الخارج، فراسلت شركات الإنتاج السينمائية وأرسلت رسوماتي لها عبر البريد. انتظرت الرد، مرت سنوات دون أن أتلقى ردا، ووصفني بعض المحيطين بي بالمجنون حين عولت على نتيجة. لكني لم أيأس، وتوكلت على الله الذي منحني هذه الموهبة، وتمسكت بإيماني أنه يجب المضي بهذه التجربة إلى غايتها. واصلت العمل في الشارع، اعتلّت صحتي، جراء الشمس والبرد، انتقلت إلى العمل في المعامل، لكن ذلك لم يمنعني من دخول المشفى لتلقي العلاج مدة ثلاثة أشهر. ما أن بدأت حالتي الصحية بالتحسن تدريجيا حتى فاجأتني رسالة تلقيتها من منتج أرجنتيني يعمل بالشراكة مع هوليوود، وساعدني في ترويج أعمالي في الأوساط السينمائية، وبدأت أتلقي الطلبات من المخرجين والمنتجين، وأنجزت الكثير من ملصقات الأفلام العالمية.

زارني في الجزائر وفد من خبراء سينمائيين من بلجيكا، وكرموني في حفل كبير أقاموه في وهران. وبدأت وسائل الإعلام العالمية والعربية تتحدث عن أعمالي الفنية https://2u.pw/ZKFln وتم تسجيل اسمي في القاموس العالمي للسينما   https://2u.pw/iyqYI. وحبي للسينما دفعني لخوض تجربة التمثيل، وسأمثل قريبا في فيلم يوثق حياتي ومسيرتي الفنية.

(*) كما علمت لديك أيضا تجربة في كتابة السيناريو، هل هي نقلة محتملة أم سيبقى الأفيش هو الأساس؟
- كانت لدي تجربة في كتابة سيناريو بعنوان "الأسطرلاب الذهبي" وأنتظر دعم شركة الإنتاج لتحويله الي فيلم سينمائي. الأفيش هو الفن الذي احترفه، أما التمثيل وكتابة السيناريو فهما هواياتي التي لا مانع أن أكررها في المستقبل القريب.

ضرورة التوثيق
(*) مقارنة بغيرهم من كادر صناعة الفيلم السينمائي، ظل فنانو الأفيش جنودا مجهولين في العالم العربي، هل من ضرورة لتوثيق هذا الفن؟ ولماذا تأخر برأيك اهتمام العرب بتوثيقه؟
- الاتجاه التوثيقي في النقد السينمائي العربي ضعيف إجمالا، وربما يكون هذا قد أثر على توثيق هذا الفن، بالرغم من أنه أنتج كنوزا جمالية حقيقية، وباستثناء العمل الفريد للناقد المصري سامح فتحي، نفتقر لاهتمام حقيقي بتوثيق هذا الفن، ولكنه على أهميته تجربة غير كافية نظرا لتاريخ طويل من الروائع الفنية في هذا المجال منذ بدايات القرن العشرين. قد لا تكفي الجهود الفردية ونحن بحاجة إلى جهود مؤسسية، تعلم هذا الفن وتوثقه. أفكر في فتح مدرسة عالمية لتعليم هذا الفن حين يتوفر الدعم اللازم.

(*) رسمت أفيشات لأشهر الأفلام العالمية وأبطالها، هل تذكر لنا بعضها؟ وهل تتعارض العالمية مع إبراز هويتك العربية الجزائرية، لا سيما وأنك ترسم عوالم أفلام تنتمي إلى ثقافة أخرى؟
ـ نعم عملت الكثير من ملصقات الأفلام العالمية أهمها: Chinese Hercules وThe Bolo وYeung Story و Ley Mortal و Honor و The News و Watch This و Bucks of America وغيرها.
بالنسبة لسؤالك عن الهوية، فأنا أتمسك بثوابتي المستمدة من ثقافتي العربية والإسلامية، فأقرأ السيناريو جيدا، وأرفض أي مضمون، يتنافى مع المبادئ الإنسانية والأخلاقية وكرامة الإنسان، وقيم المساواة بين البشر. تعاملت مع الكثير من مشاهير هوليوود المسلمين من أمثال الممثل الأميركي عبد السلام عبد الرزاق، والنجم فاران طاهير، والأسطورة محمد قيسي وغيرهم. ولم أجد حرجا في الاعتزاز بهويتي العربية الإسلامية، التي وجدت تقبلا لها في الأوساط الغربية تماما كما تقبلوا رسالتي الفنية.

تعاملت مع الكثير من مشاهير هوليوود ولم أجد حرجا في الاعتزاز بهويتي العربية الإسلامية


















(*) هل ترسم أفيش الفيلم بمجرد قراءة السيناريو أم تشاهد الفيلم مصورا؟
ـ أرسم الأفيش بعد قراءتي للسيناريو، والاطلاع على الصور الفوتوغرافية التي التقطت أثناء تصوير الفيلم، وبعض أهم مشاهده، والغاية النهائية أن أفهم مضمون الفيلم للتعبير عنه على طريقتي الفنية.

(*) أحيانا تشاهد أفيش أحد الأفلام لكنك تفاجأ بأن الفيلم ليس بمستوى روعة الأفيش الخاص به؟ ألا تورّط الغاية الإعلانية التجارية للفيلم فنان الأفيش في ممارسة خداع الجمهور؟
ـ هنا الفنان والمخرج يتحملان المسؤولية. من واجب الفنان إبراز محتوى الفيلم بطريقة جذابة لكن ليس له أن يضمّن عمله ما لا يحتمله الفيلم، وإلا انتهك أخلاقيات المهنة ولم يحترم جمهوره. وعلى المخرج تقديم معطيات حقيقية عن الفيلم للفنان التي يبدع من خلالها، فإن مارس المخرج خداعا أو إهمالا، فإنه بلا شك ينعكس على عمل الفنان.

رسائل خاصة جداً
(*) تحتفظ برسائل خاصة وصلتك من شخصيات عالمية مشهورة لم تكشف عنها مسبقا؟ هل تخصنا بها؛ ممن كانت وما هي موضوعاتها؟
ـ وصلتني رسالة من عائلة الملاكم الأسطورة محمد علي كلاي رحمه الله.  وكتب عبد الرحمن علي، شقيق محمد علي كلاي:

It is beautiful and I thank you very much for painting this picture

Rahman Ali

أما زوجة الراحل، الممثلة خليلة علي كلاي، فأرسلت لي شريط فيديو، تعطي فيه رأيها في أعمالي الفنية و أرفقته برسالة جاء فيها:

I hope it can help you my dear brother, and keep up your good talent. Thank you I am honored that you care

Thank you Chemsou. It is wonderful to know people I do not know. This is so sweet

أيضا أرسل لي النجم العالمي جان كلود فان دام صورة بحجم 21 على 27 سم عليها توقيعه، وكتب عليها:

To a great artist chemsou belarbi

Jean-Claude Van Damme

أما رسالة رائد الفضاء الكندي، جيرمي هانسون، فكانت عبارة عن صورته وكتب عليها:

Hi Chemsou.

Thank you for your drawing. It’s really nice

Have a great day

Jeremy Hansen

Astronaut .