Print
وليد هرمز

سليم بركات: نحن بشر المعضلات (2/2)

25 أكتوبر 2019
حوارات
صعب جداً إجراء حوار مع شاعر وروائي غنيّ عن التعريف مثل سليم بركات. فليس من السهل اقتناص ظرف مناسب في إقناع سليم وهو في عزلةٍ تامة رافضاً أية لقاءات صحافية أو متلفزة. لكن الأصعب في ذلك حين يكون سليم صديقاً قريباً وأديباً ينبغي لمحاورته صياغة أسئلة منتقاة باعتناء ودراية، وهو الذي يمتلك تجربة إبداعية ذهبية تمتد لما يقرب من 50 عاماً، أصدر خلالها العشرات من الدواوين والروايات. في رصيده، لحد الآن (53) كتاباً، وما زالت جذوة إبداعه متقدة.
يقيم سليم بركات، منذ أعوام، في العاصمة السويدية ستوكهولم، وقد نُقلت ثمانية من أعماله إلى السويدية لغاية الآن، وكذلك إلى العديد من اللغات العالمية، وهو مرشح لنيل جائزة نوبل إلى جانب العديد من الأدباء والمبدعين المشهورين.
هذا الحوار الذي تطالعون هنا الجزء الثاني، والأخير، منه، هو القسم الأول من حوار طويل نعمل عليه منذ فترة، وسوف يصدر في كتاب لاحقاً.

 

مُعضلةٌ الإيمانُ بالأمكنة
(*)وُلِدتَ وترعرعتَ، في الشِّمال السوري، في "مدينة القامشلي"، وكتبتَ كثيراً عن الشمال السوري المُضيَّع، لكنكَ واسيتهُ بشمال آخر: "الشمال القبرصي"، برواية "الريش"، والثلاثية الرائعة: "عبور البشروش"، و"الكون"، و"كبد ميلاؤس". مع ذلك، لم يهدأ لك بال لفقدك "شمالك الأول"، فأتيت على الشمال الأسوجي بأعمال روائية أخرى: "السلالم الرملية"، و"هياج الأوز"، و"موتى مبتدئون". أخطَرَ على بالك، يوماً، أن مستقرك النهائي في هذا العالم سيكون في آخر شمالات العالم ـ الشمال الإسكندنافي؟ هل تشعر أنك أنْصفْتَ الشمال الأول ـ شمال الألم ـ أم استعدته، بنجوى اليأس، مُقايضةً، بإقامتك الأخيرة في الشمال السويدي الفاحش؟
إن أغمضتُ عينيَّ، أو فتحتهما، يكُنِ الشمالُ ـ الجهةُ صورتين: السهول من حول مدينتي قامشلو في الشمال السوري، والبياض المترامي في شمال العالم بآثارٍ من قدَميْ إنسان الجليد عليه.
ظننتُ أنني "أروِّض" الشمالَ استحواذاً عليه في مكان واحد، حيث ولدتُ. خصَّصتُه بالكثير من

العودة إليه بشبحي: شمالٌ فوضى أرتِّبه. شمالٌ منتظم أبعثره. لا قانونَ إلاَّ الخيال حاصداً ما يقْدِر على حصاده. لكنني فوجئتُ بما يجاوز تقديري: أنا متَّجه إلى الشمال كإبرة البوصلة في الفخر الفيزيائيِّ بالجاذبية.
قبرص الجزيرة لم تكن شمالاً على التحديد، بل خابيةً ملأتُها بنبيذٍ من شمال قلبي السوريِّ، قبل الهجرة من جزيرة النحاس، منذ إحدى وعشرين سنة، إلى شمالٍ آخر على قُرْبِ أشبارٍ من نهاية الأرض، التي إن ظلَّلتُ عينيَّ بيديَّ من الشمس المتقشِّفةِ ضياءً، أو الركيكةِ ضياءً، لاستطعت رؤيةَ الدِّببة البِيْض متزلجةً تلهو على الجليد، بعد شبعٍ من التهامها فراخَ حيوان الفقمة.
الإيمانُ بالأمكنة معضلةٌ. الحنينُ معضلةٌ. نحن بَشَرُ المُعضلات.

 

(*)تلك العربة بعِجالها الصغيرة، التي تسحبها، مرتين في الأسبوع، من البيت إلى سوق النِعمة، لتتبضَّعَ ما يحلو لك من مغانم البشر وكراماتهم، لتملأها بما تشتهيه أنفاسك. هل حسبتَ الأميال التي ولولت تحت صرير العِجال سحباً طيلة الأعوام، منذ اخترت "سكوغوس" ـ حذاء الوزَّة ـ  مقاماً في بيتك القرميدي؟ هل أنصفتَ هذه العربة، في كتاباتك؟
كل سبعة أشهر تلزمني عربة جديدة. لا تصمد واحدة أكثر من ذلك جيئةً وذهاباً من البيت إلى مَتْجَر الضاحية، أربع عشرة دقيقة ذهاباً، ومثلها إياباً. قرب بيتنا الجبليِّ، الواقف على نهدٍ كبير من الصخر بين الشجر، منحدرٌ عنيف. النزول عليه سهل في اتجاه مركز الضاحية ـ السوق،

لكن صعوده مرهِقٌ. قماشُ العربة الجاسئُ، وعجلتاها الشاعريتان، لا تحتملان طويلاً ذلك الثقل الذي يُحْدِثُه صعودُ الهضبة، من تراخي الأحمال إلى أسفل.
لن تستطيع المدائحُ اللحاقَ بالعربات، ولا تستطيع المراثي اللحاقَ بها. أحمل واحدة كل بضعة شهور إلى مقبرة الموتى المعدنيين، المرفَّهة بآلات تلفاز مرمية لم تَمُتْ بعد، بل ارتأى أصحابُها شراءَ جُددٍ.
ليتني امتلكت عربة رومانية ـ إغريقية بجوادين، أو حماراً قبرصياً مُمَجَّدَ النَّسل بين حمير البحر المتوسط.

(*)لا تُخالفُ عادتك في عشقك للشواء، حين يأتمنك اعتدال طقس النهار، نهاية كل أسبوع، بشمسه المُخاتلة، فتستدعيك شهواتك إلى جفنة الشواء كي تملأها فحماً طرياً، فتُسلِّم اللحوم لأقدار النار بعد أن تكون قد أعطيتَها حقها من تقطيعٍ وتتبيل مُمرَّغة بكل أفاويه الكون المستطابة ومُنكَّهة بالنبيذ والزيت. ماذا تقولُ للرماد بعد استكمالك الشواء، وهمود سقسقة الفحم؟
أنا مُدْمِنُ شواء. مهووس بالشواء. مؤمن بمذهب الشواء. خرِّيجُ مدرستهِ عِلْماً من مفاخرِ علوم الأطعمة.
لي موعدٌ مع مَوقِدي الطويل السيقان كلَّ جمعةٍ، في حديقة البيت الصغيرة. للجمعة ربما معنى صلاةٍ في الدخان. لا يفوتني هذا الموعدُ صيفاً (كل صيفٍ هنا مُهانٌ، رثٌّ، مُستَلَبٌ ومطعون) وشتاءً. المطرُ وحده يؤجل موعدي مع الموقد. الثلج خفيفاً لا يؤجله. أحمل المظلة عاليةً فوق النار فلا تخذلني النار.
أُتبِّلُ اللحومَ (كفتةً كباباً، وأضلاعاً، ودجاجاً صدوراً وأفخاذاً) أكثر من أربع وعشرين ساعة. دورةُ التوابلِ الشقيقاتِ الزمنيةُ تكتمل في بثِّها اللحومَ غَزَلَ الأفاويه كاكتمالِ دورة الليل والنهار. وأنا أهذي طوال الوقت، بين التَّتبيل وموعد الشواء: مولايَ، أيها اللحم.

 

(*)في روايتك "الكون"، ثمة غزلٌ شفيف بشحم الضأن يُسيلُ لُعابَ القارئ، وينقله إلى خيالٍ تتطاحنُ فيه ولولة الإلية بعد تقطيعها وشكَّها في السَّفود، وشيِّها لتُعانِد النار تقليباً، مُدغدغة فتنة الشَّميم حتى وصولها موهوبة الطعم لا يُخطئها الفمُ. ما هذه الرغبة الجامحة في عشقك للشحم؟ هل ما زلت تؤمن، كما كتبت يوماً، أن "الشحمَ يُليِّن الطبائع، ويجعل المرءَ بَسْطةً في الإلهام"، فيأخذ الشعراء بقسط الصور الأكثر إعجازاً يا مُصارع الكُولسترول تذويباً بالأثقال الحديد؟
لن يُقنعني أحدٌ من نُظَّار الأطعمة، ومفكِّري أقسام اللحم في جسم الحيوان، وموسيقيِّي الطهو في أفران الغاز، أو على النار الكهربائية، ورسَّامِي الأبخرة الصاعدة من القدور ـ لا أحد يقنعني بكرامةِ مَضْغٍ أجَلَّ قدسيَّةً من مضغ الشحم مشوياً بين الأسنان. ذلك الطلاء الزيتيُّ على باطن

الفم، وعلى الأسنان، وعلى الشفاه، لا تشبهه إلاَّ قُبْلةٌ طويلة تُصْرَف عن غُلْمةٍ عنيفة.
تلك الصِّمغيَّةُ غيرُ الدَّبقة (مثل صمغ الرَّاتينج في شجر الصنوبر) هي الجوابُ الأحقُّ على جدوى الخَلْق من شحمٍ، لا من شيء آخر.
النُّطفةُ الشحمُ. الرحمُ الشحم. الفردوس بمقاصيرَ من شحم، وحدائق من شحم، وأنهار من شحم. فردوسُ شواء الشحم بلا توقفٍ على فحم اللذة. فردوس بلا كولسترول.
أسمعتم بشيء من الأطعمة الأطايب، اللذائذ، الفاجرةِ إمتاعاً، لم يُدَسُّ فيه سُمٌّ؟
عافيةُ الجسد أسيرةُ كلِّ ما لا طعمَ له، أو لذة فيه. إنها مُفَارقةُ المصادفات المُنتقِمة.
فلْيملأِ الموقدُ رئتيَّ بقَتار الشواء، ولأكُن ديوانَ الفحم.


(*)تقضي، حسب علْمي، نصف نهارك في المطبخ. ما الشيء الأقرب إلى روحك في محتوياته؟
المكان الذي لا ينازعك أحد عليه، متفرِّداً بامتلاك خزائنه، وأدراجه؛ قديراً في إدارة النار، وقيادة التوابل، مطمئناً إلى ولاء السكاكين، بحاشية من الصحون الجليلة فيه تعاقَبَ عليها المذاقُ المفكِّر من أسرار الطهو المُعْلَنة ـ هذا المكان، مطلَقاً، هو إمبراطوريتك.
البلاط ـ المطبخ هذا صغيرٌ، ليس كبلاط الملوك، لكن قد تدفن على المنضدة فيه ألفَ ملك في مقابر السطور.
أكتب في المطبخ ما سيجري التعديلُ فيه مساءً على توزيع المحاربين الفرسان على خيولٍ، وعلى أفيالٍ؛ وترتيب المدافعين بالأسلحة الكبار على أجناب المعاني. أقرأ في المطبخ، لصق النافذة المطلة على الحديقة، وأبعدَ من الحديقة، حيث تزور الغزلان شجرة التفاح المقابلة لدارنا، وتتخاصم العقاعيقُ على كل شيء، وتتبارى السناجب في تلفيق الجَمالِ قفزاً من غصون شجر العفص إلى السياج الخشبي.
أطهو في المطبخ (بالطبع) أصنافاً، مُذ لكل فرد في العائلة ـ نحن الثلاثة ـ ذوقٌ يخصُّه.
عليَّ أن أختصر هذا الجواب، فأستعجلَ: أسمعُ نداءَ الباذنجانة.

 

(*)تطهو كل يومٍ، تقريباً، لكنك تُمارس سحر طقسٍ لم يتغير يوماً في ما قبل وضعك الطنجرة على عين النار بأن تُلاعب رغوة الجعة مُثلَّجة، مُمرَّغة "بكشتباناتٍ" ملعونة من كحول الأزل الاسكتلندي. ما الذي يوحيه لك هذا الطقس الأزلي؟ وفي المساءِ، أيضاً، بعد قيلولة مباركة تلي وجبة الغداء، تنزل السلم إلى الأسفل لتُبارِكَ المشرحة الخشبية ـ طاولة الكتابة ـ لتبييض ما نسجتَه من كلمات قلقة على برَكة الورق نهاراً. ثمة، بعد الهبوط، "أفُقٌ نبيذٌ في كأسكَ أيها الوجودُ الغاضب". كؤوس الخمرة الحمراء فقط. ما حظوظ الخمرة في إبداعك الأدبي؟
الجِعة ـ إن تكلمتِ الحروفُ في أمرها ـ استنفدتْ ما استنفدتْهُ العرب من الكِهانة على حرف "حتَّى". أُحبها مثلجة جداً، لرغوتها كُسَارةُ الجليد المطحون حين سَكْبها في القدح. لكنها تأتي تاليةً على كأس منتصف النهار من الشراب الإسكتلندي ممزوجاً بقليلٍ من "فيرموث". في الليل. نعم: "أفقٌ نبيذٌ في كأسك، أيها الوجود الغاضب".
حظُّ الخمرة ليس ما يُكتب عنها، بل أثرُها: في كل سطرٍ عندي شهيقُ زجاجةٍ يسمعه القارئ.

(*)ضع وصفاً، أو شرحاً فيه شيء من الغزل الأفروديتي لبعض التصنيفات من التوابل والخُضار التالية:  الكاري ـ إكليل الجبل ـ الفلفل الأسود ـ الحبة السوداء ـ الرند "ورق الغار" ـ نعناع يابس ـ العصفر ـ السمَّاق ـ اليانسون ـ الزعفران ـ القرنفل ـ الملح. الليمون ـ الثوم ـ البصل ـ الجرجير ـ البقدونس ـ الباذنجان ـ البامياء ـ الكوسا ـ الملفوف ـ الكزبرة ـ القريدس ـ الصعتر.
الكاري: غناءٌ هندي. إكليل الجبل: ثغاء معزاة الشاموا. الفلفل الأسود: الميزان. الحبة

السوداء: أسمعُها مترجمةً إلى الكردية: كِشْنِيْشْ. العصفر: خصومة. السماق: طربُ الحُمرة. اليانسون: عَصَبُ المتردِّد. الزعفران: هياجٌ خافت. القرنفل: سُكْرُ الزهر. الملح: الإرادة. الليمون: إغلاق الكتاب. الثوم: السطوة. البصل: مَطْلِعُ العِلْم. الجرجير: دلَّال. البقدونس: عَتَبٌ نباتيٌّ. الباذنجان: قناعُ البياض. الباميا: رحلةٌ ما لم تُكتب. الكوسا: السكون. الملفوف: عناقٌ متلاحق. الكزبرة: وَسَنٌ. القريدس: قيثارة الماء. الصعتر: إشكالٌ ناعم.

 

ليس للنشر
(*)مضى على تأليفك كتاباً عن الطبخ، خمسة عشر عاماً. كتاب ما زلت أحتفظ بمخطوطته التي كتبت على غلافها "سرِّي جداً". كتاب روَّضت فيه "المشتهيات" المنذورة للملح وسياسته ومذاهبه، وحيله أيضاً. تعاليم في كيفية إعداد بعض الوجبات الغذائية المعروفة منذ أمد بعيد. أطعمة لم تجترح لها مُخيَّلة شرهة أو مُخترعة حسب مختبر مطبخك. أكلات لم تجتزْ "سُلطة مطبخك التي تديرها توابل استخبارات تعكف على التجسس على الشغب العَذْب للَّحوم والخُضار". طعامك مُسالم، رغم أنك تنتبه لدقة شفرات سكاكينك التي تجرح الخيال، مع أنك تتميز "ببلاغة خاصة في اختراع الممكنات" مما تشتهيه النفس، وممَّا لا تبخل به الطبيعة. طالما ترى أن "كل شيء قابل لأن يُطبخ: السماءُ ذاتُها، ستؤكل، ذات يوم، مطبوخة أو نيئة، لكن مملحة". كتاب غريب منحتني الحق في دفعه إلى النشر في حال عبرتَ قبلي إلى الأبدية.
كانت تلك فكرةُ ناشري السويدي. أحبَّ طهوي في زياراته لي ـ هو الذي لم يستطع إخراجي من البيت دعوةً تلوَ دعوة. لم أتحمس للأمر، ثم رأيته مثيراً: أردتُه على نسق غير مسبوق في كتب الطهو. لا أعني وصفات الطعام، التي قد تكون عادية، بل تركيبته. ملأتُ الحواشي، والهوامش، من حول الوصفات بمقتبسات من الأدب القديم، والتاريخ، والأشعار، والطرائف النوادر. حين أنجزتُ ما أنجزتُ فترت حماستي للكتاب: كان يلزمه الكثير من التفرُّغ، فاعتذرتُ للناشر: (لا أريد نشره)، بعدما وزَّعه على مترجِميْنِ مناصفةً. أدركتُ أنني قد أندم على نشره بلا تجهيزٍ قويٍّ مُحْكم. هناك ثلاث نسخ مصوَّرة منه. واحدة عندك، واثنتان عند المترجميْنِ السويديين. أتلفتُ مخطوطتي. لا تنشره، يا وليد، إن سبقتك إلى الموت.

 

(*)في السويد، نقتفي، نحن أبناء الشرق، أثر الشمس صيفاً وهي تُخاتل مُحبيها، مثل لاعب الأكروباتيك بين هذيان الغيوم الكثيفة. لا صيفَ بطرانَ في أرخبيل الشمال الأسوجي، فأقول لك: يا سليمو اليوم الطقس مشمسٌ، فتقول لي: أنا حجبتُ شباك المطبخ بستارته كي لا أسمح للشمس أن تغزو مطبخي. أثمة ثأر لديك من شمس السويد نكاية بلجاجة شمس الشرق المعصومة؟
شمس السويد لا تحتاج إلى ثأر. هي مستسلمة. مضطربة عصبياًّ. موهَنة. مسلوبة. في مستطاع أية غيمة نَكِرة أن تنتزع منها إرادتها.
لشمس السويد اسمُ الشمس. لكنَّ الأرجح أنها لا تستفيق من سبات الدِّببة الشتائي: نارُها في سُباتٍ.

 

(*)ماذا يعني لك مفهوم "التملك"؟ ما هي الأشياء المادية التي تعزُّ عليك وتأسف لفقدانها؟ ماذا تعني لك حالة "الفقدان"، بمفهومه الأعم. من تألمت لفقدانه ورحيله عن عالمنا واعتبرته خسارة بحق؟
لا يعنيني من التملك إلاَّ أمران: تحصين الوقت الذي يخصُّني، والعزلة كي لا "أُقتَحَم".
فقدتُ محمود درويش. كان "من حولي" أبداً، لا يكفُّ عن عروض سخائه. كان "منزله" يجاور منزلي أنَّى انتقلتُ. كان ينقله حيث أحلُّ. أرى غُرف بيته، وجدرانه، في صوته على الهاتف اتصالاتٍ لا تنقطع. جُرِحْتُ إذ رحل. لم أستمع إلى الموسيقى، التي تصاحبني عادة في العمل مساءً، طوال سنتين.

 

(*)ما هي الضروريات التي لا تستغني عنها في حياتك، وماهي الأشياء الكمالية التي تعتبرها لا تشكل ضرورة لك؟
شرابي، وورقي، وأقلامي، والوقتُ مرقَّماً كمقياس الحرارة الزئبق. لا ضرورات أُخَر. الوقت من سطورٍ لا من ذهب.


(*)تميل إلى العُزلة بشكل مُفرط. لا تقيم علاقات اجتماعية خارج محيط عائلتك الصغيرة. حتى التواصل عبر الهاتف مع الآخرين مُقنَّن، ومحدود جداً. ترفض المقابلات الصحافية. ترفض إنتاج فيلم وثائقي عن حياتك وعالمك المُعاش. هل تخاف من حالة "تطويق"، مثلاً، من الآخرين وتعتبره فضولا لا لزوم له؟ هل يسلبك هذا التواصل مع الآخرين حريتك الشخصية؟
فلأعترفْ: لا أفهم نفسي أحياناً. لكنني أتقبَّلها هكذا. لستُ سريع البديهة. لستُ بارعاً في

المخاطبات. بعد نصف ساعة من الأحاديث أحسُّ أنني استنفدتُ نفسي؛ أُفْرغتُ. بدل أن يصير كياني خفيفاً بعد أن "يُفرَّغ" يغدو ثقيلاً عليَّ. محاورة في عشر دقائق، مثلاً، ستظلُّ تطن كذبابة في رأسي شهراً.
ربما هو الخوف من الخطأ في ارتجال المخاطبة. لكنَّ الحياة ارتجالٌ من المخاطَبات. ماذا أفعل؟ تقبَّلتُ نفْسي هكذا. فات الأوان على غير ذلك.

 

(*)هل استهوتك، يوماً، آلة موسيقية، وتمنيت لو تعلمت العزف عليها؟
لا. تمنيت أن أعزف على الصِّوَر مُخْرجاً سينمائياًّ، أو أعزف على أوتار التوابل طاهياً.

 

(*)ما الذي يستهويك في عادة تجميع السكاكين؟ هل امتلأ ذاك السطل الخشبي القديم بما تراكم فيه ممَّا جمعته من سكاكين لحد الآن؟
الهوايات تشيخ. عندي سكاكين محتارةٌ لِمَ اقتنيتُها. مُغلقٌ عليها في خزْنة لا أعرف إن كان ظلامُها ظلَّ الحدَّاد الأول معتكفاً على الجمر يشوي الحديد.

 

تمزيقُ المكان
(*)مضت سنوات طويلة على إصدارك لثلاثة أعمال روائية مهمة دارت أحداثها في مدينة "القامشلي" المتنوعة الأعراق، مدينة ولادتك وصِباك، وهي روايات: "الريش"، "معسكرات الأبد"، و"فقهاء الظلام"، لتعود، من جديد، إلى مدينتك "القامشلي" بأحدث عمل روائي ضخم ألا وهو: "ماذا عن السيدة اليهودية راحيل"، عن الترحيل القسري ليهود سورية ارتباطاً بأحداث حرب 1967. أما زالت فكرة الاقتلاع القسري والمصائر التراجيدية لبشر لا علاقة لهم بتلك الأقدار المُنزَّلة عليهم بالإكراه، تشكل لديك هاجساً كابوسياً يدعوك للاقتصاص من التاريخ، ومن ذلك المكان المُضيَّع؟
بلدان عبقرية في الإغراء بالهجرة منها، والكفر بها. بلدان الإهانة أرضاً وسماءً.
ما الأقدارُ التي صَرَفتْها أمكنةً لعيش بَشَرٍ فيها؟ كتبنا مراراً عمَّا لحق بجميعنا من الإهانة الطاحنة. ولتكتمل الصورةُ بحذافير شقائها أحضرتُ إلى الرواية، هذه المرة، يهوداً مواطنين من مدينتي، سلختهم العصبية الدينية بسكينٍ، والعصبيةُ القومية بسكين، فهاجروا مثلنا هاربين.

(غوتنبرغ ـ السويد).