Print
بهاء إيعالي

فوزي يمّين:الكتابة الشعرية إعادة طرح السؤال على الشعر

14 أكتوبر 2019
حوارات
لا يمكن الحديث عن تجربة فوزي يمّين (1967) الشعرية دون أن نستحضر فكرته بأن "الكتابة تبدأ من العين وتنتهي بوقت مبدّد"، فصاحب "تمارين على تبديد الوقت" و"كلاب العزلة" يبدأ من اصطياد الجملة التي تكرجُ في الطريق وينهيها مكتوبة، وما مجموعته "في الوقت بين سيجارتين" الصادرة مؤخراً إلا واحدةً من هذه الإرهاصات التي يبتدعها من عوالم يوميّة تكاد، رغم لغتها الشخصية البحتة، تقتربُ من كلّ فردٍ من هذا المجتمع، أيّ أنها "جمعٌ بين المتعة والحقيقة بفنٍ اسمه الشعر" كما يقول الشاعر الإنكليزي صامويل جونسون.

يعدّ فوزي يمّين من الأسماء الشعرية التي برزت منذ تسعينات القرن الماضي، فأستاذ الشعر الحديث في قسم اللغة العربية وآدابها كان واحداً من الذين عملوا لفترةٍ طويلةٍ في الملاحق الثقافية للجرائد اللبنانية والعربية، وقد اهتمّ بالشعر الحديث وكانت أطروحة الدكتوراه لديه عن "التحولات في شعر أنسي الحاج"، وقد ترجمت بعض قصائده إلى الفرنسية والإسبانية.
هنا حوارٌ معه:



(*) بعد سبع مجموعاتٍ شعريّة على مدى 25 عاماً منذ "المستلقي على طابقه الأرضي" (1994) وصولاً لـ "تمارين على تبديد الوقت" (2013)، ها أنت تعود اليوم بـ "في الوقت بين سيجارتين". ما المراد من هذا الوقت؟ وكيف يمكن الحديث عنه؟
الوقت في الحقيقة يتكرّر بشكلٍ دائمٍ ولو على مدى 25 عاماً، أمورٌ وأشياءُ كثيرة تتكرّر مع الشخص، العناصر التي يعمل عليها تبقى نفسها لكن بأساليب مختلفة مرةً عن مرّة، و"الوقت بين سيجارتين" هو في الحقيقة إيهامٌ للقارئ بوجوده، بينما فعلياً هو نوع من الانخطاف والسرعة للتدليل على عجلة الوقت، فهناكَ شعورٌ بالوقت لكن نبقى نخفّفه ليطول استحمالنا له في هذا المجتمع، وأيضاً هو كلام عن شيءٍ صعب التحديد، فنحن هنا نتساءل ماذا يمكن للمرء أن يفعل بين سيجارتين، لنكتشفَ أنّه في النهاية لا يفعل شيئاً سوى أنّه يدخّن، أي أنّه يمارس ما يمارسه عادةً. فالعنوان إذاً يحمل إيهاماً للقارئ هو أن بين هاتين السيجارتين هناك أمر ما، بينما في الحقيقة لا شيء بينهما سوى هذه الحياة اليوميّة التي تعبر، ودائماً أنا في عناويني أحاول اللعب على المحسوس لخلق ضرب من التوهّم، وهو جزءٌ من لعبتي الشعريّة.

(*) في هذه المجموعة ميلٌ لثيمة المعيشية اليومية واقتناص الوقت الدائر وكيفية التقاط حالة نفسية بعينك، خلافاً لأجوائك السابقة الحالمة الرومانسية كما في "تمارين على تبديد الوقت" أو العنيفة الفجّة كما في "كلاب العزلة". هذا التحول هو نتيجة تراكماتٍ حياتية ثقافية خاصةٍ أو ولوجٌ لممراتٍ شعرية جديدة؟

التوصيف الذي تقوله فيه شيء كبير من الصحة، هو فعليّاً مجموعة تراكمات، ففي هذا الكتاب شعرتُ بنوعٍ من النضوج، أي بدقّةٍ أكبر الجملة جلّست على نفسها واتخذت مساراً ثابتاً ولم تعد كالسابق تروح وتجيء، تنزل وتطلع بحالات تارةً رومانسيّة وتارة قاسية كذي قبل، لكن ومع ثباتها فقد حاولت بشكلٍ أو بآخر تمويجها وإعطاءها حركة، حتى أنها في بعض الأحيان قد تحمل حالاتي السابقة وفي أخرى قد تكون مقطوفةً بعينٍ يوميّةٍ ثاقبة، أي نوع من رقّة القسوة ومن قسوة الرقّة.
إجمالاً الكتاب يحملُ ألواناً مختلفة، لغاية الآن لم أنجح بالكتابة بلونٍ واحد أو عن ثيمةٍ معيّنةٍ. وبعد هذا الكتاب شعرت بأنّ عليّ التوقّف لفترةٍ والذهاب نحو عملٍ جديدٍ سردي نوعاً ما، الآن مثلاً أحضّر لكتابةِ شيءٍ عن كرة القدم.


إيقاعي متقطّع
(*) لم تقم بتقسيم مجموعتك إلى أقسامٍ على غرار ما يقوم به الشعراء اليوم، بل تركت كلّ نصّ فيها يأخذ أريحيته التامة ويتبوّأ المكان الذي يريده. أتحاولُ إيصال رسالةٍ للآخر مفادها ترك الحرّية التامة للنص أم أن ثمة شيئاً آخر؟
أبداً، لم أفكّر لمرّة واحدةٍ أن أقوم بإيصال رسالة بفحوى معيّن للقارئ، أكتب هذه المقاطع خلال سنواتٍ متقطّعةٍ جدّاً، وإذا أردت الحديث عن وقتٍ محدّدٍ للكتابة عندي، فإجمالاً أنا لا أكتبُ في الصباح الباكر لأنّي أكون لا زلت نيئاً كما يمكن القول، يمرّ النهار ويرنّ شيء برأسي، وينضجُ عند المساء. إجمالاً هذا هو إيقاعي في الكتابة لكن هذا الإيقاع ليس رتيباً يحدث معي يومياً بقدر ما هو متقطّعٌ، هذه المقاطع تتجمّع وكأنّها تشكّل مناخاً متلوناً بالوقت، كما أنّي لا أقوم بمحاولةٍ لتقسيمها لشعوري بعدم إمكانية تطبيق هذا الأمر عليها، ولو أنّ هناك مقطعاً يشبه الآخر إلا أنّي أترك هذا للقارئ، كما أنّ لديّ دائماً مشكلة تحدث معي بعد الطباعة وهي فيما يتعلّق بال Mise en point، فدائماً ما أقول إن بالإمكان ترتيب النصوص بطريقة غير التي ترتبت بها، لكن أقول بيني وبين نفسي إن النص أخذ المكان الذي يريحه وهذا كافٍ.


(*) تحضر السيجارة وأجواؤها في عدّة مواضع من الكتاب، بدءاً من العنوان حتى تقول "بالتبغ الرطب أزيل الشك". وقد سبقك عدّة شعراء بالكتابة عن السيجارة أشار إليهم عبده وازن في مقاله عن كتاب بول شاوول "دفتر سيجارة" عام 2009. هل الآن هو زمن الشعرية القائمة على عناصر اليوم والأشياء المستخدمة خلاله؟ كيف تفسّر ذلك؟

يمكن القول إن الشعرية اليوم هي التركيز على شيء يوميّ حسّي، أنا بمعظم كتبي ألعب هذه اللعبة وإن بنسبٍ متفاوتة. السيجارة بالنسبة لي شيء يرافقني طيلة اليوم، حين أتكلم، قبل الأكل وبعده، حين أقرأ، حين أكتب... مرافقة يوميّة مستمرة، حسيّة وعنصر ملتزمٌ معي بقضايا القراءة والكتابة، ودائماً ما يحصلُ إسقاطٌ لشخصيّة الشاعر في النص وهو أمرٌ ليس دائماً جيداً، فالشاعر يبالغُ في استخدام عنصرٍ محبّبٍ له، مثلاً يعتقد البعض أنّي ومع كلّ سطرٍ أشعلُ سيجارة فيما أنا في الكثير من الأوقات أكتب وأنا لا أدخن، فالسيجارة وفية لي وترافقني أينما ذهبت، وهي إن أخذت الدور الحسي في الكتاب غير أنّها تلعب دور الاستعارة الأساسية للوقت العابر بسرعة، فهي تشتعل بسرعة، دخانها يتبعثر ويختفي بسرعة دون أي شكل، وهو يحملُ إلى حدّ ما دورة الحياة ودورها. كذلك تقتربُ السيجارة من توصيف جزءٍ كبير من عمري الذي احترق بسرعةٍ دون أن أنتبه له. فهي من ناحية تحمل قدر الإمكان من المعنى الحسي وبنفس الوقت هي عنصر للقفز بين قصبات الوقت وسرعته.


(*) هناك حضورٌ لافتٌ لشخصيّة الشاعر في الكتاب، ففي قصيدة "الشعراء" تبدو وكأنّك تقوم بوضع تعريفات معيّنة للشاعر أو تحاول الكلام عن رؤيتك له. هل حاولت هنا أن تتماهى وهذه الشخصية كما تخيّلتها أم أنّها تعاريفٌ قد يتشاركك بتبنّيها شخص آخر؟
ما فعلته في هذه القصيدة هو أنّني حاولت تخيل من يكونون هؤلاء الذين يسمّون بالشعراء، ولكن هذه التعريفات هي في النهاية أنا، كجزءٍ من تصوّري للشعر، ومن الممكن أن يتشاركني أحد تبنيها (من الممكن أن يتشاركني الكتاب كلّه)، فأنا لم أكن أقصدُ وضع تعريفاتٍ عامة لهم بل إنّي حاولت أن أذهب في هذه القصيدة وقصائد أخرى غيرها نحو "الأنا الكبرى"، دائماً ما أكون متهماً بالكتابة في "الأنا الصغرى"، أي أنّني لا أستخدم سوى الأنا دون الذهاب نحو الآخر، هذا الخروج من الخاص إلى العام لا يزال خاصاً بالنسبة لهذه التعاريف.
أما فيما يخصّ هذه التعاريف فهي ليست تعاريف أكاديميّة، بل حسّية مناخية متعلقة بالشعراء من نواحي شخصياتهم، أين يسكنون، أين يجلسون، دورهم في الباحة الخلفية للمشاعر... أي أنّهم ليسوا في الخطوط الأماميّة بل هم يصنعون جزءاً من اللاوعي للمجموعة وخلطاتٌ سحريّة في الباحة الخلفية لمشاعر الناس.



الفنون بجميع أشكالها مفتوحة 
على بعضها وتترابط
(*) قصيدة "محاولاتٌ لكتابة سيرة ذاتية غير مكتملة" أشبهُ بنصّ بصري سينمائي، ففيها ضروب من الاسترداد للذاكرة والشطح بالمخيّلة لمرحلة ما بعد اللحظة القائمة فيما يخص حياتك الشخصية، وأيضاً تبرز الأماكن والأشياء التي رافقتك خلال مراحل حياتك: الحارة، المقهى، الحرب، السيارة، الكرة، الأولاد... ترى ما الذي يدفعك مثلاً للحديث عن سيرتك شعراً؟ وما هو مستقبل الشعر بعلاقته مع الفنون البصرية المختلفة، السينما مثلاً؟
بدايةً هذا النص الذي تحدّثت عنه كان بإمكانه أن يكون كتاباً بحد ذاته، وللآن لا زلت أكتب بهذا الجو وكان بإمكاني المتابعة به لولا أنّي طبعت الكتاب. هذا النص من الممكن أن يشكّل بدايةً لكتابة سيرة ذاتية كاملة، فما ورد فيه أغلبه صحيح مبني على وقائع حدثت معي خلال مراحل عمري كاملة.

أما ما يخصّ اللعب بالزمن فأنا أعتبر هذا الأمر بمثابة خيط شعريّ مهم، خصوصاً حين ترنّح رؤيتك في النص للزمن بماضيه وحاضره ومستقبله، فالشاعر لا يقوم بعملٍ سرديّ متسلسل متعاقبٌ يرغب من خلاله أن يصل لنتيجة ما، أنا حاولت استخدام هذا الخيط الزمني بأن أكرّه تارّة للأمام وطوراً أشدّه للوراء، وكأنّ المرء حين يكبر في العمر يرى نتف حياته مخربطةٌ لكنّها تشكّل لوحة متكاملة.
وعن مستقبل العلاقة القائمة بين الشعر والفنون البصرية فمنذ زمن بعيد كان لهذه العلاقة مستقبل، ودائماً ما هناك ترابطٌ بينهما، فكثرٌ من كتبوا شعراً ذا نزعةٍ بصريّةٍ واشتغلوا على النحت في القصيدة، أنا مرّة ذهبت إلى الجامعة الأميركية في بيروت وحضرت لقاء حول قصيدة النثر بعد مرور حوالي 40 سنةً على ظهورها، يومها افتتح اللقاء أنسي الحاج بكلمة منه، ومن بعدها عملوا حلقاتٍ لعدة أيّامٍ بين النقادٍ عن تجارب شعرية من الخمسينات والستينات حتى تلك الأيام، أنا كنتُ من الذين حضروا الحلقات كمتابعٍ فقط، فكانت المفاجأة ان أحد النقاد قرأ نصاً لي وتحدث عنه بأنه نصّ سينمائي أقرب للرسوم المتحرّكة بما يحوي ذلك من تحولات للعناصر في الفن، مثلاً في المسرح نستخدم قداحة لإشعال سيجارة ومن ثمّ نرفعها في الفضاء ونحركها كأنّها طائرة. أنا لا أعرف إن كنت حاولت تحويل فصول من سيرتي الذاتية إلى نصّ شعري سينمائي لكن الفنون بجميع أشكالها مفتوحة على بعضها وتترابط بوثاقٍ شديد دائماً، وأنا نصف ذاكرتي أفلام سينمائية منذ طفولتي حين كان أبي يصطحبني إلى السينما مرةً في الأسبوع حتى هذا اليوم، كلّ هذا أثر بتجربتي وكان بادياً فيها.

(*) يلاحظ أنّك لم تضع تصنيفاً أدبياً على كتابك هذا، شأنه شأن كافة كتبك السابقة، هل هناك سبب محدّد لهذا التصرف؟
قد يكون ذلك للتخفّف من قوالب التصنيفات القديمة التي توضع على أغلفة الكتب، وهو أمرٌ سحب معي كتاباً تلو كتابٍ، لا أفكّر كثيراً بهذا الأمر ولو أخبرني الناشر أنّه سيُصَنّف شعراً أو نثراً أو غير ذلك لما اعترضت، فلست من المؤمنين بالشكل الذي أعتبره وهماً والإحساس هو الأساس.


(*) تنتمي إلى ثلّة من شعراء أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، وهو الجيل الذي عايش الحرب وحضر وضعها لأوزارها، برأيك كيف كان للحرب أثرها على تجارب هؤلاء انطلاقاً من تجربتك؟
لن أقول إنّي متميّزٌ عن هؤلاء لكنّي مختلفٌ قليلاً عنهم، أنا لم أعش ببيروت بل بقيت ببلدتي التي طالتها الحرب حين كنت صغيراً، طالتها مرّتين، أولهما خلال ثورة شمعون 1958 وقتها لم أكن ولدت بعد، لكن على أثرها قتل عمّي الذي أحمل اسمه دون أن أعرفه، وخلال حرب السنتين بين 1975 و1977 ووقتها كنت صغيراً ولا أذكرها سوى كأصوات تتردّد (هذا أمرٌ ذكرته بكتابي)، فأنا لم أر بحياتي قتيلاً ولم أذهب إلى جبهة، لكنّي أذكر أصوات القذائف التي كانت تتساقط هنا وهناك، أتذكّر أبي الذي كان يقاتل على الجبهات، أتذكّر السواد الذي كانت تتشح به زغرتا خلالها، لكن لا أتذكر سوى أصوات دون أيّ مشهدٍ يطلع على بالي. بينما الشعراء الذين عاشوا في بيروت وجدوا أنفسهم يشاركون في الحرب كمقاتلين ومنظرين، بإرادتهم أم رغماً عنهم، فيما أنا لم أحمل بندقية ولم أقاتل، حتى اليوم لو حصل هجوم على ضيعتي فلن أكون بعداد الذين سيهبون للقتال إلا إن هاجموا منزلي وأولادي، لا أؤمن بالعنف ولا أستسيغه لأنّه يورّث نفسه. كما أنّني بقيت في بلدةٍ ملتمّة على بعضها في الأفراح والأتراح.

(*) من المعروف عنك أنّك وقبل دخولك عالم التدريس كنت لاعب كرة قدم محترف، وفي حديث لك قلت إنّك تكتب بعينك قبل يديك بل وأكثر منها. من خلال تجربتك في الشعر كيف يمكن الربط بينه وبين كرة القدم؟
سأحاول هنا وضع نقاطٍ مشتركةٍ بين الشعر وكرة القدم ولو أنّ هذا الأمر يستبعده البعض، فليس بالضرورة أن يكون الشاعر لاعب كرةٍ مثلما ليس بالضرورة أن يصبح اللاعب مدرّباً.

أولاً، في الكتابة والكرة هناك لعب شئنا أم أبينا، فمهما كانت الكتابة جديّة سيكون فيها نوع من اللعب والتلاعب بالكلمات والعبارات، كما أنّ اللعبتين خطيرتان، ففي كرة القدم قد ترتكب خطأً يؤدي لتلقّي فريقك هدفاً، وخطورة الكتابة تكمنُ في إجادتك للعب بالعبارات وأي خطأ منك قد يفسد النص.
ثانياً، إيقاع اللعب المشترك بين اللعبتين، والذي يصنع البنية الجملية (كيف تروح كيف تجيء وكيف تترابط ببعضها)، أمرٌ خدمني بحكم كوني لاعب كرة قدمٍ سابقٍ وكان عليّ أن أمارسَ إيقاعَ لعبٍ ما، هاهنا أنا في الكتابة أجد أنّي أملك هذا الإيقاع فيها نوعاً ما.
ثالثاً، المباغتة في اللعبتين، ففي كرة القدم المباغتة هي شرطٌ أساسيّ للعبة، مثلاً أن يكون الهجوم من الجهة اليمنى وفجأة انتقل لليسرى بسحر قدمٍ ساحرة؛ أمّا في الكتابة الشعرية تحديداً فالمباغتة أساسيّة بحكم أنّها غير منتظمة، وهنا يحدث أن يكون القارئ يحاول أن يمسكَ شيئاً ما في زاويةٍ محدّدةٍ فيباغته الكاتب ويذهبُ لمكانٍ آخر، غير أنّ هذه المباغتة لا تنجحُ دائماً. باختصار المباغتة هي التسديدات غير المتوقعة.
قد يكون الفرق بين كرة القدم والكتابة الشعرية هي أنّ الأولى لعبة جماعيّة صرفة بينما الأخيرة هي لعبة فردية، لكن من الممكن أن يستحضر ذاكرته الجماعيّة من أصدقاء وأحبة وأعداء... قد أكون حاولتُ الربط بين اللعبتين لكن وبوجهة نظري أجد أن كرة القدم ممتعة أكثر لأن الجسم يلبي أفكارنا مباشرة، بينما الكتابة تحتاج لتفكير وجلوس واسترخاء، كما أن كرة القدم مفتوحة للارتجال أكثر.

(*) منذ فترة كتبت على صفحتك الفيسبوكية مجموعة من المقالات تحت عنوان "في شؤون الشعر وشجونه" ومن خلالها وضعت تعريفاتٍ للشعرية والكتابة قائلاً إنّها تعريفاتٌ تخصّك. لأيّ مدى يمكن تعميم هذه التعريفات؟
نعمّم هذه التعريفات بأن نجدها داخل كتاب مثلاً، هي كما قلت تدلّ ليس فقط على تجربتي في الكتابة بل ثقافتي فيها أيضاً، من أين أتيت وكيف وما هي أفكاري وماذا أقرأ... هي خلاصة مكثّفة لذاكرتي وثقافتي وتجربتي الشعرية الشخصيّة. قد يتبنّاها أحد ما ويشاركها على صفحته في فيسبوك، غير أنّي لا أحمل منطق الدعاة لتبنّي وجهة شعريّة خاصة، بل كلّ ما في الأمر أنّي قمت بوضع ذلك من خلفية شخصية، من الممكن أن تصبح يوماً تنظيراتٌ في الشعر وهذا أمرٌ يفرحني، بيد أنّي لم أضعها لهذا الهدف تحديداً. أضيف على ذلك أنّ هذه المقالات هي نوعٌ من الردّ المبطّن على كثر، من يحملون الذهنيّة التقليدية القديمة بنظرة العالم للشعر، فبوجهة نظري الكتابة الشعرية هي إعادة طرح السؤال على الشعر نفسه، بينما السرد هو إعادة طرح السؤال على الحياة.


أثر المكان وبيروت
(*) لم تغادر بلدتك زغرتا نحو بيروت شأنك شأن معظم شعراء جيلك الذين غادروا بلداتهم نحو العاصمة، ما الذي جعلك تحجم عن الإقامة في بيروت، وما أثر المكان على شخصيّتك بشكلٍ عام؟

علاقتي ببيروت علاقة حميمة في الحقيقة، فأنا سكنت قريباً منها (تحديداً في أنطلياس) لمدّة عامين حين كنت ألعب مع نادي الحكمة، كذلك تردّدت كثيراً إليها، غير أن استقراري بها لم يتمّ لعدة أسباب أولها مقدرتي المادية، فأنا لم أكن قادراً من هذه الناحية على السكن فيها. ثانياً، لعبت سبعة عشر عاماً مع نادي البلدة (السلام زغرتا) فبالتالي لم يكن بالإمكان أن أسكن بمكانٍ آخر، كما أنّي كنت سعيداً هنا وكلّ ما أحتاجه من بيروت كنت أذهب وأقتنيه وأمرّ على الجرائد وأضعُ مقالاتي فيها. ثالثاً، وبالرغم من أني لا زلت أسافر دائماً هنا وهناك غير أنّي أطمئن فقط لإيقاعي الرتيب الدائم بأن آتي يومياً لنفس المكان، ربما لأمر في لاوعيي ألا وهو خوفي من أن يأكلني العالم وأنا حي، هذا الاطمئنان يعطيني نوعاً من الراحة الذي يريحني نسبياً ويعطيني دافعاً للكتابة، طبعاً لا يمنع ذلك من خوض المغامرات وارتياد الأماكن، كما أنّني اكتشفت أن الشعر ليس بحاجة لمكان لأنّه قد يكتب في كلّ مكان، فجوهر الشعر في النهاية هو حالات الشاعر الشخصية وكيف ينظرُ إلى الأشياء والعناصر.


(*) خلال فترة عملك في الصحافة ترجمت للعديد من الشعراء والمغنين العالميين أمثال: ليونارد كوهين، بوب ديلان وتشارلز بوكوفسكي... كيف من الممكن أن نقرأ تجربتك تلك اليوم؟
من المؤكّد أنّ الشاعر هو أقرب الناس لترجمة الشعر تحديداً، غير أنّ علاقتي بالترجمة هي أنّي لستُ مترجماً وحتى لم أشتغل يوماً على أن أصبح ذلك، وكلّ ما نقلته للغة العربية كنت أنقله من منطلقٍ شخصي، مثلاً أغنية أحببتها كثيراً وأثّرت بي، أقول في سرّي يجب أن تنقل إلى العربية، مثلاً أنا مرّة سافرت إلى سلوفاكيا في بعثةٍ لمنتخب لبنان لكرة القدم، حيث أنّي استدعيت للعب بالمنتخب لعدة مباريات، دخلت مكتبةً وسألتهم إن كان لديهم أنطولوجيا صغيرة عن الشعر السلوفاكي المعاصر، فأعطوني كتاباً باللغة الإنكليزية، تناولته وأخذت منه وترجمت، هكذا فقط من باب المصادفة والحشرية، وفي آخر مرّة سافرت إلى أستراليا أيضاً سألت عن أنطولوجيا للشعر الأسترالي، أيضاً جلبتها وقلت إني سأترجم منها يوماً ما. الخلاصة أنّني لست مترجماً حرفياً ولا مترجماً يومياً، ترجمتُ بعض ما مسّني بسنّ معيّنة وانتهى ذلك، واليوم لا مشروع لي في الترجمة.