Print
حسين بن حمزة

صالح دياب: الأنطولوجيا محاولة لتقديم الوجه الأجمل للسوريين

20 مارس 2018
حوارات

منذ بداياته، انشغل الشاعر السوري صالح دياب بالشعر. ليس بكتابته فقط بل أيضاً بقراءته ومتابعته، وبالبحث في تاريخ الشعرية العربية وتطوراتها الحداثية التي ظهرت في تيارات وتجارب ونبرات عديدة. نشر صالح المقيم في فرنسا عدة مجموعات شعرية، وكانت الأولى "قمر يابس يعتني بحياتي" (1998)، ثم "صيف يوناني" (2006)، و"ترسلين سكيناً أرسل خنجراً" (2009)، و"زرتُ حياتي" (2013) جائزة جمعية أهل الأدب ـ باريس. إلى جانب الكتابة، قدم صالح عدة ترجمات ودراسات شعرية، كما قدم أطروحة دكتوراه موضعها الشعر العربي الحديث، فضلاً عن شهادة دراسات عليا معمقة موضوعها: شعر المرأة العربية بعد نازك الملائكة، إضافة إلى ماجستير موضوعه: الجسد في شعر المرأة العربية.

 كتابه الأخير " الشعر السوري المعاصر" الصادر بالفرنسية عن دار “لو كاستور أسترال الفرنسية” (بغلاف جميل ومعبر للفنان يوسف عبدلكي) هو أنطولوجيا للشعر السوري الحديث، ومثل كل أنطولوجيا، بدأ الكتاب يثير ردود فعل وقراءات مختلفة. 
 هنا حوار مع صالح دياب حول هذه الأنطولوجيا واقتراحاتها لقراءة الشعر السوري اليوم:

*ما هي أهمية صدور أنطولوجيا للشعر السوري اليوم؟ 

 

لئن أخذ الكتاب عنواناً هو "الشعر السوري المعاصر" فإن هذه الأنطولوجيا، تتجاوز بلداً اسمه سورية، لتنفتح على العالم العربي كله. فأفقها عربي بامتياز. أهميتها تكمن في كونها تملأ فراغاً، وتشق طريقاً لم يعهده القارئ والباحث الفرنسي، يقود إلى الشعر العربي الحديث. الشعراء السوريون فتحوا وشقوا طرائق وصاغوا أساليب، واكتشفوا أراضي شعرية بكراً، في الشعرية العربية. لو حذفنا مثلاً ثلاثة منهم: أدونيس ومحمد الماغوط ونزار قباني، لربما أخذ الشعر العربي الحديث مساراً آخر. لقد فككوا الذائقة التقليدية، وشكلوا حساسيات شعرية جديدة، وصنعوا انزياحات وانقلابات جمالية وفنية. مع ذلك، برأيي، ليس هناك شعر سوري له خصوصية جمالية تجعله يتميز عن الشعر المكتوب في البلدان المجاورة. لا توجد شعريات عربية متعددة. توجد شعرية عربية واحدة. وشعراء أفراد، بلغات شعرية متعددة، داخل هذه الشعرية. الشعر السوري كان دائماً وثيق الصلة بالشعر في لبنان والعراق ومصر، إنه جزء من اللوحة الشاملة التي هي لوحة الشعر العربي. صدور أنطولوجيا عن الشعر المكتوب في سورية هو حدث شعري عربي، وليس شأناً سورياً فحسب. لكنه يقدم صورة أخرى عن السوريين، صورة تعبّر عن أجمل ما أعطوه عربياً وعالمياً.

  

*هل تجد أنها مقترح شعري وجمالي في مقابل ما يحدث في سورية منذ سبع سنوات؟ هل كان هذا هدفاً بالنسبة لك وكيف؟

عندما بدأت بالعمل على الأنطولوجيا لم يكن في بالي أي هدف سياسي. اشتغالي عليها يعود إلى زمن ما قبل الحرب. بداية، بدأت أنقل قصائد شعراء عرب إلى الفرنسية، كي أرى مقدار ثبات شعريتها، حين توجد في لغة أخرى. كذلك قضيت أكثر من عشر سنوات وأنا أترجم الشعراء العرب إلى الفرنسية وبالعكس، لأحد الملتقيات الشعرية في فرنسا. حدث أن أشار عليّ أساتذتي، أثناء مناقشة أطروحتي عن الشعر العربي الحديث، بضرورة سد النقص في المكتبة الفرنسية، عبر عمل أنطولوجيا عن الشعر العربي الحديث، وهذا ما عملت عليه لسنوات.

 ككل أنطولوجيا، مختاراتي تسعى إلى حفظ وتثبيت شعرية ما، وإبرازها، والتوقف عندها، واختيارها، وتجنب ما عداها. ما كان يشغلني هو تقديم النماذج الأكثر فاعلية في حركة الشعر المكتوب في سورية طيلة قرن. فأنا لم أختر الشعراء فحسب، ولم أنتقِ قصائد لكل واحد منهم كيفما اتفق، بل اخترت القصائد التي خاطبتني وأقمت علاقة صداقة معها، ولصقت كثيراً منها على جدران الغرف التي أقمت فيها، وبقيت في ذاكرتي. كنت أحرص على أن أقدم للقارئ الفرنسي النماذج الأكثر طليعية في المختبر الشعري السوري. جاء الاختيار بعد قراءتي الأعمال الكاملة لكل شاعر، بدقة، وحساسية، وبدعة من ينسق باقة زهور، ويعود عند المساء بعد النزهة ليضعها على الطاولة. وهذا ما تعنيه المفردة الإغريقية.

لكن، أمام توحش الإنسان وانهدام القيم، وتبادل الأدوار كل يوم بين الضحية والجلاد، بين المرتزق والشهيد، وشيوع البربرية المنظمة، واستعمال الفقراء كحطب في هذه المحرقة، أردتُ  تقديم الجماليات الشعرية العربية، عبر نموذجها السوري ذي العمق الإنساني، من خارج جشع البروباغندا السياسية، وتجار الدم  الذين عوّموا إعلامياً كتابات مبتذلة وضحلة، بوصفها أدباً سورياً عظيماً. أردت أن أوصل إلى القارئ الفرنسي صوتاً آخر غير الصوت المزيف، الذي يُروَّج له من قبل سياسيين وجمعيات وأحزاب سياسية معينة. الصوت الآخر، الذي يتم طمسه قصداً، والذي أحتفل به، هو الصوت الشعري السوري الحقيقي وهو وجه السوريين واسمهم.

*هل القارئ الفرنسي مستهدف في هذه الرؤية أيضاً، خصوصاً أن الكتاب صدر لدى دار فرنسية مختصة بالشعر؟

بالطبع، فالترجمات ليست موجهة الى القارئ الذي لا يعرف اللغة العربية فحسب، لكنها أيضاً موجهة إلى القارئ المختص بالشعر العربي، الذي يتحول بدوره إلى مترجم أثناء القراءة لأن الكتاب مطبوع باللغتين.

 كون الكتاب مطبوعاً لدى دار نشر مختصة بالشعر، توزع في فرنسا والبلدان الفرانكوفونية، وليست تابعة لحزب أو جمعية نسائية، وتشكل منذ أربعين عاماً إحدى أهم دور النشر الوفية للشعر، بالطبع فإن ذلك يعطي الكتاب سمعة جيدة، واعترافاً من قبل المختصين بالشعر وأهل الأدب، من خارج الأيديولوجيا والاستخدام المنفعي الارتزاقي للمأساة السورية، كذلك كونه مسنوداً من قبل المركز الوطني للكتاب، الذي يتشكل من قرّاء أساتذة مختصين، سمحوا للعمل بأن يرى النور. لقد أعدت للقارئ الفرنسي القصائد التي تأثر بها الشعراء العرب بترجمات الشعر الأوروبي. فهو سيستقبل النصوص الغريبة، لتبدأ حياة جديدة في لغته. وسيرى الآخر، الغريب عن قرب، من خلال الدخول عميقاً في ثقافته، عبر الشعر. قد نقع في تلافيف هذه القصائد على جماليات الشعر الأوروبي، لكن الشاعر العربي امتصها وأدخلها في شعريته. وإعادتها للقارئ الفرنسي بشكلها العربي، تحيلنا على عملية تبادل للأدوار بين الأنا والآخر. وهذه من سمات الترجمة. هنا تتساوى اللغتان، ولا تعود هناك لغة مسيطرة ولغة مسيطر عليها.

 

* كما في كل مختارات أو أنطولوجيا يجري تبنّي تجارب واستبعاد تجارب أخرى.. ماذا حدث في هذه الأنطولوجيا وحسب أية معايير؟

بالطبع، كانت هناك معايير جمالية وفنية سابقة على الخيارات. هذه المعايير هي ثمرة قراءتي الذاتية ونظرتي إلى الشعر. لم أقِسْ الشعر على الايديولوجي. هذه أنطولوجيا، لكنها كتاب مؤلف، وتجب قراءته كاملاً. اخترت الأسماء حسب التسلسل الكرونولوجي، لكن، متوقفاً عند  الموضعية الشعرية التي تحتلها تجربة كل شاعر. ككل أنطولوجيا، هي تطرح خيارات مقتصدة، معدودة للقارئ. إنها أنطولوجيا لا أنسكلوبيديا، ليست معجماً، أو مسحاً شاملا للشعراء. باقة قصائد مختارة. الاختيار وليد الذائقة. اخترت الشعراء الذين شكل لهم الشعر هاجساً وجودياً. وطرحوا أسئلة حول معناه وأدواته، كما تناولوا علاقة الشاعر بذاته، وبالعالم، واللغة، والتراث، وهضموا المنجز الشعري لسابقيهم ومجايليهم، وحولوا إنجازاتهم الجمالية إلى إنجازات شخصية، وسعوا إلى تجاوزها كل بحسب طريقته. أعطوا التجربة الشخصية موقعاً مركزياً في شعريتهم.  لغتهم خلت مما هو تحريضي شعاراتي مباشر، سواء أكان أيديولوجياً أو جنسياً أو دينياً أو أخلاقياً. إنهم شعراء أعطوا الغالي والنفيس، من حياتهم، من أجل تجربتهم الشعرية، كما نظروا إلى الشعر كفعل ايماني، وكهوية متحركة تنفتح على المستقبل. وذهبوا إلى ابتكار أشكال تعبيرية جديدة. استبعدت الكتابات التي تُعنى بالإنشاء البلاغي العاطفي، واللغة التقريرية الإخبارية أو بالوصف.

 لم أفكر في "الجندر" أيضاً. فالشعر نوع أدبي وليس حالة اجتماعية. فليس من الشعرية بشيء، أن نعمل كوتا للرجال وكوتا للنساء، كما في البرلمانات والمجالس الوطنية. كانت هناك كوتا واحدة هي للشعر. الشعر العربي مدين بفضاءاته وأشكاله لكثير من الترجمات التي تحولت أصولاً. الشعر الحقيقي كوني بطبيعته. أفكر في أنني اخترت القصائد التي تتقاطع في رؤيتها الإنسانية وبنيتها اللغوية مع قراءاتي للشعر العالمي، فثمة قصائد تحاور ترجمات لريلكه  وريتسوس وفابتزاروف، وسان جون بيرس، وأتيلا. لقد ترجمت ما أحببته. فالمترجم هو ممرر وناقل أفكار، وقيم شعرية وثقافية. من "هناك" إلى "هنا". لكن يجب أن يجد شيئاً ثميناً كي يترجمه، شيئاً له قيمة شعرية، كي يُدخل الآخر في الثقافة الذاتية، ويفتح الـ "هنا" على "الهناك"، الآخر على الأنا وبالعكس، في عملية ذهاب ـ إياب، بين لغتين وثقافتين. أستغرب تأفف بعضهم، غير الأخلاقي من الاختيارات أو امتعاضهم من عدم وجود أقربائهم ورفاقهم وأحبابهم، وعدم اختيار قصائد كثيرة لهم، أو الطلب مني أن أحذف ربع الأنطولوجيا بسبب اختلافهم السياسي مع مواطنيهم. لا يمكن لأحد أن يأخذ مكاني، ويقرأ هذا الشعر. سنكون في هذه الحالة في حالة استلاب، وستأخذ المختارات عنواناً آخر. فهم يطلبون منك أن يساهموا في تأليف كتابٍ يحمل توقيعك، واختيار أنطولوجيا زهورك التي تريد أن تقدمها لحبيبتك. القصائد هي التي نادتني كي أترجمها، بما تحتويه من قيمة شعرية وجمالية عالية. والترجمة تحتاج إلى متواضعين يحتضنون قصائد الآخرين، بمحبة، ويحتفلون بها كما لو أنها قصائدهم.

 

*يُلاحظ أنك لم تشمل كل شعر الستينيات تقريباً.. لماذا؟

لم أبْنِ الكتاب جيليّاً، والشعر ـ برأيي ـ ليس زمنياً إطلاقاً. لكن أرى أن ما اصطلح على تسميته بـ "شعر الستينيات" الذي كتبه سوريون يقسم إلى ثلاثة أقسام؛ الفئة الأولى هي فئة الشعراء الذين يمتحون من القصيدة الأدونيسية وجمالياتها ويعيدون نسخها، وهؤلاء لم يطرحوا أسئلة على هذه اللغة الشعرية كي يتجاوزوها، وإنما قلدوها ـ أحياناً ـ بسذاجة فائقة. الفئة الثانية هي الفئة التي تكتب قصيدة تتقاطع مع شعر المقاومة ذي البنية الفنية النزارية. هؤلاء ذهبوا نحو كتابة تاريخية اجتماعية تحمل رسالة ما. هاتان الفئتان ـ برأيي ـ تقليديتان، سعتا إلى الاجترار لا الخلق والابتكار. فقد أعادتا إنتاج ما هو منتج، مع تنويعات شكلية عليه. وتقمصتا أشكال تعبير مستمدة من سابقين أو مجايلين. أما الفئة الثالثة فهي فئة الشعراء الذين أظهروا وعياً شعرياً، وذهبوا إلى كتابة تتجاوز الفئتين ونظروا إلى الكتابة بوصفها امتداداً لأجسادهم ولأرواحهم. وهي فئة الشعراء السوريين الذين نمت وترعرعت تجربتهم في فضاء الحرية في بيروت. اكتشف هؤلاء أشكالاً، واخترعوا طرائق كتابة، وانفتحوا على العالم. وإذ أقرأ قصائد هذه الفئة حتى الآن، أشعر بوفائهم للشعر، الذي رأوه ضرباً من سيرورة إبداعية داخلية يتم فيها تحويل الرؤية إلى رؤيا، يقيم صلة بالحياة الداخلية، ويعيد تركيب العالم وخلقه من جديد. طرحت هذه الفئة أسئلة جذرية حول هوية الشعر العربي، وعلاقة الشاعر بذاته وباللغة والعالم وبالتراث وارتبطت بالموت والحياة. محتضنة الكوني. فالشاعر لديها يتجلّى بوصفه مسؤولاً ليس عن قصيدته فحسب بل عن العالم كله. شعرهم يخاطبني حتى الآن.

 

* وفي الثمانينيات والتسعينيات اكتفيت بالتجارب التي ظهرت في ملتقى جامعة حلب.. بينما لم تضم أحداً من تجارب الألفية الثالثة؟

 لا أنظر إلى الشعر من خلال الأجيال. قصائد بدوي الجبل تخاطبني أكثر من كل تجارب "الألفية الثالثة". الأنطولوجيا ليست مبنية جيلياً. شكلت مدينة حلب في الثمانينيات ورشة أدبية ساهمت في رفد الأدب السوري، فملتقى جامعة حلب الأدبي ـ برأيي ـ هو آخر مختبر أدبي وشعري سوري. فقد أظهر شعراؤه وعياً شعرياً حاداً، ورغم قلة نتاجهم الأدبي إلا أنهم كتبوا قصائد ثبتت زمنياً. ذهب شعراؤه إلى شعرية ساءلت قصيدة مجلة شعر، وقصيدة السبعينيات أو القصيدة الشفوية، كما استفادوا من الاقتراحات الجمالية لبعض التجارب اللبنانية في نهاية السبعينيات، وانفتحوا على الشعر المترجم، واتصلوا بالتراث الشعري العربي. كما طرحوا مشكلة النثر والشعر والتراث، وعلاقة الشعر بالواقع، ووظيفة الشاعر وعلاقة الشعري بالسياسي بالجمالي. قصيدتهم غير زمنية، تنتمي إلى الزمن والمكان الإنسانيين. لم يكن همهم الطباعة، والشهرة، فقد اعتقدوا أن على الشاعر أن يكتب كتاباً واحداً طيلة حياته، أو حتى قصيدة واحدة تحمل لغته وبصمته الجمالية الخاصة.

مشكلة تجارب "الألفية الثالثة" كما تسميها ـ برأيي ـ هي القراءة أولاً وأخيراً. هؤلاء لم يقرأوا حركة الشعر العربي الحديث بشكل جيد، لا جبران ولا الريحاني، مروراً بمجلة شعر، والرواد العراقيين، وجماعة كركوك والشعراء اللبنانيين والسوريين. كتاباتهم تفصح عن وعيهم  الشعري. الأمر الذي أوجد مشكلة في خطابهم تتجلّى في طريقة استخدامهم للغة أو للكلام. إنهم يكتبون نصوصاً بجماليات متعارف عليها وغير مبتكرة. يكتبون ضمن النسق السائد بمعنى ما، هم يعيدون إنتاج تعابير وصياغات وجمل وطرائق أصبحت سائدة ومتعارف عليها، واستُنفد استعمالها.

*تبدو ترجمتك للقصائد المنتقاة وكأنها تمنح الأنطولوجيا نكهة تأليفية في نسختها الفرنسية. تبنّي تجارب بعينها هو نوع من الانحياز لذائقة شخصية، والترجمة قد ترفع الذائقة إلى مستوى التدخّل في التأليف أو لنقل الصياغة على أقل تقدير. هل متعة إصدار الكتاب تكمن هنا في النهاية؟

المترجم هو قرين الشاعر وظله، يقوم بعمل ظلال للأصل، ومرايا. يتبع الشاعر، بحيث يقع الحافر على الحافر، وهو يقرأ ويكتب، أثناء بالترجمة، أو بمعنى أدق يعمل على امتلاك صورة عن القصيدة الأصلية. فالقراءة والكتابة تلتقيان أثناء الترجمة. النص المترجم هو ملك الكاتب، لكن صورة الأصل هي ملك المترجم. لذلك وجد قانون لحماية حقوق الترجمة، لأنها تعود إلى المترجم وليس للمؤلف. الترجمة كتابة. سمحت الترجمة لي بالدخول إلى محراب الشعراء الحميم، ورؤية مشاغلهم ومتابعتهم في أدق تفاصيل خلقهم الشعري. جعلتني أقرأ نصوصهم قراءة عميقة وأفهمها، لم أكن لأستطيع القيام بذلك من خلال قراءة عادية. ربما كان عندي نوع من الرغبة في تملك القصائد التي أحببتها، عبر الترجمة، والحلم بأن أكون كل الشعراء الذين أترجمهم. ففي الترجمة تتقاطع القراءة والكتابة معاً، ويكتنفها شيء من الحب. عملت نسخاً عن القصائد وحاولت أن أكون أقرب إلى النص الأصلي، وجاهدت بأن أضع روح القصائد في أجساد لغوية أخرى. جعلتها تتناسخ وتحيا في أجساد أخرى.

 في النهاية، أجد أن أفق هذه الأنطولوجيا إنساني بامتياز. فالقصائد التي اخترتها لا تحيل على زمان ومكان معينين بل تحيل على الزمن والمكان الإنساني. عندما أقرأها لا أفكر في شكلها أو بمعناها بل تنتابني لذة وجودية هائلة. لا تعود القصائد مجرد قصائد تبنيها اللغة بل تعويذات تُفهمني العالم الغامض، الذي لا أجد له تفسيراً.