Print
إيهاب محمود

أحمد الفخراني: كل كتابة في الأساس هي رفض للواقع

11 أكتوبر 2018
حوارات

بخطوات ثابتة، يسير الروائي المصري أحمد الفخراني في رحلته مع الرواية، وبعد روايته الأولى "ماندرولا" الفائزة بجائزة ساويرس الثقافية، ثم رواية "سيرة سيد الباشا" التي ربما لم تأخذ حقها نقديًا ولا جماهيريًا، يصدر الفخراني روايته الثالثة "عائلة جادو"، والتي يستدعي فيها كارل ماركس، ولكن دون إحاطته بهالة مقدسة، بل ينزله للواقع كشخص عادي، يحتمل الخير والشر، الصواب والخطأ. جنبًا إلى جنب مع فريد الدين العطار، صاحب منطق الطير، في محاولة ربما من الفخراني في منح روايته بعض التوازن بين مادية ماركس وروحانية العطار.

وعلى الرغم مما قد يتبادر للذهن، عبر قراءة أولية أو مطالعة للرواية أنها بيان سياسي، أو رواية مؤدلجة، إن جاز التعبير، فإن الفخراني نجح تمامًا في تحييد السياسي والإيديولوجي لصالح الفني، لينتج في النهاية نصًا مدهشًا وممتعًا على الرغم من حجم الرواية الكبير (440 صفحة).

هنا حوار معه:

*ألهمتك واقعة مقتل الشاب الإيطالي ريجيني لكتابة روايتك "عائلة جادو".. لماذا اتخذت من الماركسية محورًا للرواية؟

لأنها العقيدة الأكثر إنسانية، التي لها كل صفات الديانة، لكن دون وحي إلهي، أو معجزات سماوية خارقة، تتدخل تقريبا في نسيج حياة ورؤية كل المؤمنين بها، تتغلل إلى العظم، النسخة العلمانية للعقيدة. وهي كالمعتقدات الكبرى، طموحها العدل، وأزمتها إنها لم تحققه، كان ذلك واحدًا من أسئلة الرواية المحورية في رأيي. لماذا لا يتحول ضوء الطريق الذي يوفره الإيمان إلى عائق في الطريق، وكيف تصبح فكرة نبيلة هدفها سعادة الإنسان سببا رئيسيا لشقائه واستعباده، وكيف يتحول نورها إلى عمى الدوجما.

 

*هناك حديث عن عودة الماركسية كإيديولوجية في الفترة الراهنة.. هل يمكن ذلك؟

إن كنت تقصد كإيدولوجية حاكمة للدول، فلا أعلم، لكن إن كانت الماركسية قد هزمت على هذا المستوى، فقد نجحت على مستوى آخر أكثر عمقا، فقد أثرت حتى على الرؤى الرأسمالية للاقتصاد، كل حديث عن حقوق العاملين، عن الأجور، عن عدد ساعات العمل، هو انتصار لها، كذلك على مستوى الفنون، لا يوجد أدب عظيم في رأيي، غير متأثر بأفكار يسارية على أقل تقدير. لقد نفذت في أغلب الرؤى الإنسانية.

نجيب محفوظ، الذي لم تأسره إيديولوجيا، كانت رسالته النهائية في الثلاثية، هو الشعار التروتسكي "الثورة الأبدية"، الذي وضعه على لسان شخصية أحمد الشيوعي، وإن كان قد أعاد تفسيرها بما يلائم أفكاره، على لسان كمال عبد الجواد، المعادل الأقرب لمحفوظ نفسه.

*الرواية ليست بيانًا سياسيًا، وأنت نجحت على نحو لافت في توظيف المعرفة لخدمة الفن.. كيف نجوت من فخ الوقوع في المباشرة، خاصة أن نخبوية الموضوع قد تجرك لمناطق إيديولوجية تؤثر على فنية النص؟

أتمنى أن أكون تجنبت فخ الوقوع في المباشرة، أرى نفسي كفنان لا كمنظر سياسي، أعتقد أن حيرة رزق بطل الرواية أمام المعرفة/ الحقيقة، كانت أشبه بهم شخصي، عدم الانحياز لفكرة على حساب أخرى، بل على العكس كل فكرة تضرب نقيضها، وتتجاوزها. واجهت هذا الفخ، في الجزء المتعلق بظهور ماركس، ولم أكتب إلا عندما وجدت الحل في إظهاره لا بشخصه المعروف في كتب التاريخ، بل تقديم نسختي الخاصة عنه، أن يظهر كبشر يحمل في تركيبته الخير والشر، مرشد للطريق، لا كرجل مقدس.

*تجمع الرواية بين ماركس وفريد الدين العطار.. هل استدعيت العطار لتمنح الرواية بعض الخفة في الروح، في مواجهة مادية ماركس؟

كان هناك طموح في بداية كتابة الرواية، لا أدعي أني حققته، بالبحث عما يشبه الخيط الناظم لكل المعارف وفي نفس الوقت وضعها في مواجهة بعضها البعض، من خلال استدعاء "النصوص المؤسسة" للوعي الإنساني، لهذا تحمل الرواية عنوانا فرعيا "نص النصوص"، في أغلب المعتقدات الكبرى، كالتصوف والماركسية، هناك مشترك، يدعى الإنسان وتحقق إنسانيته على الأرض، العدل، الحرية، كلها أسئلة شغلت رسلها. الزهد مثلا قد يكون شيئا مشتركا بين العطار وماركس، لكن من ناحية أخرى هو استدعاء لحبكة رحلة الطيور في عمل فريد الدين العطار، منطق الطير، التي تبدأ بمجموعة من الطيور، بحثا عن "السيمورغ" أو الله، تكتشف الطيور الناجية التي صمدت طيلة الطريق، أنها نفسها هي السيمورغ، أو الكائن الأسمى والمطلق. فأبطال الرحلة في عائلة جادو، يبحثون عن الخلود، بينما يكتشفون أنفسهم في نهاية الطريق.

*بطل الرواية بلطجي اسمه "رزق نخنوخ"، وهو اسم لا يمكن أن يأتي مصادفة دون التلميح للبلطجي الشهير صبري نخنوخ الذي وجه كلامه لرجال الشرطة حين قبضوا عليه في 2013 قائلًا: "انتوا بتجاملوا بيا؟" في إشارة إلى أنه تم تقديمه ككبش فداء لإسكات الإخوان المسلمين بينما يجلسون في الاتحادية.. هنا سؤالان: لماذا اخترت اسم نخنوخ لتشير لعوالم البلطجة وتزاوجها مع السلطة رغم أنك كنت يمكن أن تختار اسمًا آخر؟ والسؤال الثاني: هل ارتباط البلطجة بالسلطة مرتبط بعقليتنا وطريقة تفكير السلطة بمعنى أنها علاقة مستمرة؟ أم يمكن للظروف أن تبدل هذه العلاقة؟ أم أنها باتت جزءًا لتوطيد دعائم سلطة قائمة؟

تقنية الإحالة إلى الواقع في عالم مصنوع بالكامل من الخيال، ليست جديدة علي، أستخدم ما يثيره الاسم من مشاعر كإحالة مشتركة بيني وبين القارئ، لكني أقدم شخصية أخرى بتاريخ آخر وحكاية مختلفة تخص عالمي أكثر مما تخص مصدرها، محتفظا فقط بالايحاء الذي يمثله الاسم، فشخصية نخنوخ في الرواية لا علاقة لها بصبري نخنوخ، الأصلي.

السلطة الغاشمة، هي في أساسها نوع من البلطجة التي تحمل رتبة ونفوذا ودوواين وخطبا رسمية، استعانتها ببلطجية وشبيحة، في مصر أو سورية، هو امتداد طبيعي، يكشف خستها، لم أخترع الأمر إذن، فقد قدمته في شكله العاري من أي زينة.

*هل يمكن القول إن الرواية نخبوية أو ربما "مثقفة" بدرجة كبيرة، وإنها موجهة لقارئ لن يخرج عن دوائر المثقفين والكتاب والصحافيين الثقافيين.. ألا تنشغل بالقارئ؟ أم أن الرواية هي التي تختار قارئها؟

أنشغل بالقارئ بالطبع، لكن ليس كقيد يكبل حريتي في الكتابة، هل يعني هذا أن المعلم ومارغريتا لميخائيل بولغاكوف. غير صالحة للقراءة لاتكائها على المعرفي، أو روايتي ظل الريح ولعبة الملاك لكارلوس زافون لاتكائها على المعرفي والخيال الجامح. اختياري في الأساس لأحد أشكال القص الأولية، كالمغامرة، والبناء الدون كيشوتي، هو نية لأن تكون القصة ممتعة لقارئها. راهنت في جادو على الانشغال بالحكاية الممتعة دون أن تكون الإشارات المعرفية معوقة عن سير الحكاية.

*أنت تكتب بخيال جامح لا محدود، في ماندرولا وهنا أيضًا.. هل يعتبر ذلك رفضًا لواقع بائس؟ أم حبًا في ذلك النوع من الكتابة؟

كل كتابة في الأساس هي رفض للواقع، حتى ولو اكتفت برصده ومحاكاته، فهي تسعى عبر هذا الرصد إلى تفخيخه إن جاز التعبير بالمتناقضات التي تكتنف زواياه المظلمة، الخيال بمعناه المقصود في رواياتي، هو وسيلة أرى بها العالم، أو أعمل بها على توسيع إمكانياته، أو إشارة إلى أن عطبه تجاوز الإصلاح، ولا ينتظر سوى تفجيره من الداخل. عندما أنظر إلى تاريخ مصر المعاصر، منذ بداية دولة الحداثة على يد محمد علي، لا أرى إلا سعيا مريرا عبر الحلم بواقع مغاير، ينتهي بالهزيمة، لكن لا يتوقف حلم اليقظة بعالم بديل، أفضل، هذا ينطبق بشكل كبير على ما حرك ثورة يناير، وما نعيشه بعدها. واقع كابوسي لا تغيير له سوى بالحلم، حلوله التي تتوسل التحايل، صارت عبئا أكثر منها طريقة تمكننا من العيش.

تبدأ كل رواياتي من مشهد واقعي، يخلخله الحلم عبر عمليات مد وجذر، ثم ينتهي مد الحلم بالاستيلاء عليه، لكن تعود التناقضات التي تكتنف الزوايا المظلمة، لتفجره من جديد، وتنهي المحاولة بالهزيمة، هكذا أرى العالم، من تلك الزاوية، هكذا أرى جوهر ما منيت به مصر من محاولات للانتصار لأبنائها، والهزيمة عبر تاريخها.

*لماذا تغيب النوفيلا عن الأدب العربي؟ وهل للمسألة علاقة بالجوائز الأدبية أم بالناشر أم بالقارئ؟

ربما، فهذا يحدث مع الشعر والقصة القصيرة، لكن ربما تغيب النوفيلا كنوع أدبي، لقلة كاتبيها والوعي بتقنياتها ومتطلباتها، أو لغياب الأفكار المرتبطة بها، اعتقد أن الكاتب الذي يحترم نفسه وأدبه، لا يكتب رواية فكرتها لا تصلح إلا لقصة قصيرة، الطبيعي أن الفكرة هي التي تفرض شكلها وصوتها. الشكل في النهاية، أو الحجم، ليس غاية، بل وسيلة.

*"الرعب" يسيطر على الجو العام للرواية.. هل للأحداث السياسية المضطربة سبب في ذلك؟

بالطبع، الكابوس، هو ما كان يحيط بتفكيري، أثناء الكتابة، مذبحة رابعة، انهيار أحلام يناير، حبس الكتاب، قرارات الإعدام والحبس العشوائي بالجملة، كتم أصوات المعارضين، من الطبيعي أن ينعكس ذلك على عالم الرواية، فهي في النهاية مشغولة بالواقع، حتى وإن كانت تلتمس ذلك عبر الخيال.

*ككاتب وكصحافي.. كيف تنظر لقانون الصحافة والإعلام الجديد؟ وما تفسير هذه النظرة للفيسبوك والتعامل مع الحسابات الشخصية كمواقع إلكترونية وصحافية حال تجاوزها 5000 متابع أو صديق؟ هل الرعب من 25 يناير أخرى لا يزال مسيطرًا إلى هذه الدرجة؟

ما يحدث في الإعلام المصري، هو تأميم مقنع، الهاجس الرئيسي هو السيطرة على كل منافذ التعبير، ليس فقط المواقع الإلكترونية، بل حتى حسابات "التنفيس" الاجتماعي، كالفيسبوك وتويتر. لكن على عكس تأميم الصحافة في الستينيات، ورغم امتلاك الإعلام الحكومي الآن إمكانيات أكثر ضخامة، ممثلة في صحف وقنوات خاصة من الباطن، وتمويل بلا حدود، إلا أنها لم تنجح إلى الآن في توجيه الرأي العام، أو تقديم سردية مضادة للحقيقة، ربما نجحت في البداية، لكن مع ضعف كوادرها ظهر عجزها. الرعب هو توصيف جيد، لما يحرك أجهزة الأمن في مصر، أو تصور السلطة عن أنها أضعف من الكلام.

*وهل الصحافة الورقية إلى زوال؟

لا أعرف. لكن في رأيي أن طريقة التفكير القديمة في الصحافة هي التي إلى زوال. ما زال للصحافة الورقية ما تستطيع تقديمه، إن استطاعت فهم وجود وسيط آخر سلب منها إمكانيتها الرئيسية، الخبر والانفراد.

*هل كان "ربيعًا عربيًا" فعلًا أم خريفًا بالأحرى؟

ربيع عربي، لكن كشأن أي حلم، طاردته مسوخ وأشباح الظلمة. الحلم أبدي، كالثورة والهزيمة.

*ما الجديد لديك؟

رواية قصيرة، بعنوان بياصة الشوام، أتوقع صدورها قريبا عن دار العين.