Print
عمار أحمد الشقيري

هاشم غرايبة: الروائيّ أصدق من المؤرخ

28 يونيو 2017
حوارات

كانت الدعوة من أجل إشهار مجموعة قصصيّة بعنوان "جدّاتي الحكيمات"، للروائي والقاص الأردني هاشم غرايبة، في شمال الأردن، وتحديدًا في بلدة الروائيّ حوّارة الواقعة وسط سهول حوران، وفوجئ الحاضرون بثلاثة أعمال جديدة لا بعمل واحد؛ "أسامينا" وهو حوارات وكتابات عن أشخاص عايشهم الروائيّ وأحبهم، وآخر بعنوان "جنّة الشهبندر" هو رواية تطرح الأسئلة "في الجنة والبرزخ فقط"، بالإضافة إلى مجموعة "جدّاتي الحكيمات". 

عن الرواية يقول غرايبة خلال حوار مع "ضفة ثالثة": "هي أسئلة ما بعد الموت. بكل صراحة العمل يعترف بوجود برزخ وجنة فقط". أما مصدر هذه الفكرة فيقول: "أنظر حولك، كلّ هذا الخطاب الذي يتبنى الفردوس، ذبح وتشريد من أجل الوصول إلى الفردوس".

الوطن العربيّ 

يأخذ الحوار منعطفًا آخر مع هذا المستجد، ويبدأ السؤال من الراهن العربيّ: تسلّل الذبح للقصة والرواية إذًا؟

- ما يحدث في الوطن العربيّ ما هو إلّا انفجار دمّل، هو عملية فصدٍ وحجامة لما ظل يعتمر منذ 2000 سنة من المسكوت عنه، ظلَّ المسكوت عنه خطابًا في الأفواه، ثم مرّةً واحدة خرج من حيز القول إلى حيز الفعل، فجرى الذبح والتشريد، لا أقصد جانبًا دون سواه، إنما الديكتاتوريّة أيضًا ظلّت كذلك منذ بداية تشكل الدولة العربيّة. والذبح أيضًا، كلّه خرج، وهو شيء في مآله النهائيّ سيكون إيجابيًا.

نعود إلى المجموعة القصصيّة؛ "جدّاتي الحكيمات". لا يترك غرايبة أي شاردة تفلت من آلة القصّ، القصة الأولى؛ غجرية تعبر الشارع، قملٌ، شيخ أبيض، رأسان أصلعان في مقهى، هذيانات من كان يقيم بين النوم واليقظة، يتركها غرايبة في القصة الأولى حيث تظهر فجأة ما أراده طوال الوقت "أصداء هامسة عن حكاية سأكتبها لكنّها بعيدة المنال".

يقرأ غرايبة في كتاب للأكاديمية الأردنيّة هند أبو الشعر، بعنوان "سندات الطابو في العهد العثمانيّ" عن امرأة تدعى "فلوة الإبراهيم" كانت تمتلك 672 دونمًا من أراضي بلدته حوّارة شمال الأردنّ سنة 1879. 

"فلوة" تلك كانت إحدى جدّات غرايبة. سيكمل غرايبة ما ينتهى عنده العمل الأكاديمي والبحثي، ويأتي بالحكاية كاملة، حيث "فلوة" الجرّاحة، والطبيبة، ومجبّرة الكسور، وقاضية في المجتمع. ليست الجدّة الحكيمة "فلوة" وحدها، إنمّا ابنتها التي سارت على دربها، والتي تدعى شمس، أول من خلعت زوجها في ذاك الزمان، وسامحته بأثاث المنزل. تكمل حكاية غرايبة القصّة: "فلوة" همست لابنتها بسرّ المهنة، مهنة الطب:

- "الموجوع يبحث عن الملاذ، فكوني ملاذه.. الدواء هو الأمل، والشفاء من عند الله". فصارت شمس أشهر مداوية في الناحية، إلى أن تقاعدت وأورثت المهنة لابنة اختها آمنة: الطبّ بلا حكمة رمحٌ بنخالة، همست لها بالسرّ، فصارت طبيبة وحكيمة، وتجير مطاردًا على دمّ، وتحميه من القتل. 

الحياة مادة القصص الأساسيّة

عن العمل القصصي يقول غرايبة لـ"ضفة ثالثة": "هي حكايات سمعتها وما زلت في بلدة وادعة، أخذتها من على ألسنة العامة لأرتقي بها في الأدبّ. القصصّ تختزل الحياة ونمط العيش، فالحياة المُحرض والمشجع الأول، وهي مادة القصص الأساسيّة، أنظر إلى ما فعله إدواردو غاليانو".

هنا يظهر اقتباس من غاليانو في بداية المجموعة "ظلي يرفع كأسي للقمر، أنا والكأس وظلي للقمر، القمر لا ينصت للحكايات، وظلي لا يعرف إلّا محاكاتي"، ويظهر عقب الاقتباس الإهداء: "إلى غاليانو الذي أعادني إلى حكايات قريتي".

يختار غرايبة على الأغلب أن يوقع أعماله فيما يُظنُّ أنَّه الهامش، مرّة أمام "كشك بيع الكتب أبو علي في عمّان، مرّة في قرية، أخرى في سجن إربد القديم السرايا، وأخرى في المدينة الأثريّة البترا". يقول حول ذلك: "لكل عمل خصوصية، أنا أنسجم أكثر في هذه الأماكن، تحديدًا في المناطق العامّة". 

سؤال: منذ مصطفى وهبي التلّ "عرار" وحتى اليوم، يُتهم كثير من أدباء الأردن بأنهم إما يميلون إلى القاهرة (نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، أحمد شوقي وغيرهم) أو إلى دمشق ( أدونيس، زكريا تامر، حنّا مينة). ولعلّ اتهام شاعر الأردن عرار بأنه "تدمشق"، وردّه ببيت شعره "قالوا تدمشق، قولوا: ما يزال على علاته إربديّ اللون حوراني" أبلغ دليل. من هنا نطرح السؤال، إلى أين ينتمي غرايبة؟ 

- أنا أنتمي إلى مدرسة الكتب، أنا من مدرسة كتب التراث؛ ألف ليلة وليلة، سيف بن ذي يزن، تغريبة بني هلال، والزير سالم.

هنا نستحضر إحدى قصص المجموعة التي أفلتت من كتب التراث واستقرت في المجموعة تحت عنوان "المنذور" التي تروي على لسان القاضي التنوخي محنة راكبي سفينة وكيف اشتد بهم البلاء وكيف نجا واحد منهم بنذرٍ لا يأكل بموجبه لحم فيل. قصة يستحضرها غرايبة، فيها من الدهشة والعجائبيّ ما لا يقدر عليه جمع من القصاصين. 

سؤال: يُنظر للذاكرة بشيء من الازدراء كونها "لا تنتج عن موضوعيةٍ"، أو بوصفها خاضعة للتأريخ في العلاقة بين التاريخ والرواية التاريخيّة، في حين أن آخرين يرون - ومنهم الباحثة والناقدة البريطانية كيت ميتشل-  بأنَّ للذاكرة دورًا محوريًا في هذه العلاقة؛ التاريخ والرواية التاريخية، ما رأيك؟ خاصة إذا ما نظرنا إلى أعمال لك يُمكن وضعها في سياق الرواية التاريخيّة؛ بترا، أوراق معبد الكتبا، المقامة الرمليّة، وحتى التاريخ القريب مثل الشهبندر؟ 

- بداية للتنويه، الشهبندر تتحدث عن صراع الطبقات في المجتمع ولو أنها صيغت في مساحة تاريخ قريب، ثانيًا في المفاضلة، الرواية أصدق من المؤرخ؛ الروائيّ يخبر القارئ أن العمل كذبٌ متخيّلٌ سلفًا، أما التاريخ فهو ما يتخيّله المؤرخ، وما يمثل وجهة نظر المؤرخ نفسه.

القصّة لحظة برق

سؤال: لنتحدث عن القصّة القصيرة. أيضًا مثل غاليانو وعلى طريقته لا يبدو أن غرايبة يعبأ بمسألة التجنيس، إذ تبدو في بداية المجموعة قصة "أبي" مكوّنة من سطرين وكلمة: يوم الحصاد، قال الرجل العجوز لأولاده: هذا القمح لكم، هذه الأرض للأحفاد. ومضى. وتحت عنوان قصص لم تكتمل نقرأ: شاهدة القبر حُفر عليها تاريخ الولادة والموت، تفصل بينهما شرطة وجيزة كاستعارة الحياة.

- الرواية تجبرك على قراءة الكتب للبحث، بخلاف القصّة القصيرة، القصّة لحظة برق، وفطنة، تقف عندها، وتدوّن، هي لحظة تنوير.

سؤال: لنتحدث عن اللغة، استخدمت العاميّة في بعض القصص، تقول في قصّة أمي: بعدكِ من سيهتف لطلتي: "هلا يا بعد أمك".

- يبتسم غرايبة: أجد في العاميّة حليب الأمّ، ورائحة التراب أوّل الشتاء، العاميّة رائحة التين.

الترجمة

صدرت لغرايبة بالألمانية ترجمة لأحد أعماله بعنوان "قلب المدينة"، وبالإنكليزية صدر مؤخرًا "القط الذي علمني الطيران"، وفي هذا الشأن يعترف غرايبة: "الترجمة لم تكن بناء على الشهرة، أو اختيارات أكاديميّة، إنما أتت من علاقات شخصيّة، لا أعوّل على الترجمة بما هو سائد الآن". 

في بيته، قريبًا من الطريق السريع الذي يربط إربد ببغداد، يقضي غرايبة شيخوخة هادئة؛ فلاحًا في حديقة البيت، وميكانيكي أسنان (فني أسنان)، ومشروع رواية جديدة. 

سؤال: هل تحدثنا عن تفاصيلها؟

- رواية تستحضر أنكيدو، وأسئلة أنكيدو لا جلجامش، عن امتلاك القوى الخارقة، المسافة، الزمن والشباب الدائم. ويصمت.

سؤال: ما رأيك بالرواية الأردنيّة؟

- هناك أعمال روائيّة مهمّة، لكن لا وجود لماكنة ثقافية تعمل كرافعة، ولا حركة نقديّة تساهم في رفع المستوى.