Print
ميسون شقير

إبراهيم نصر الله: كل رواية تاريخية بشكل ما

29 أكتوبر 2017
حوارات

بين "الخيول على مشارف المدينة" عام 1980 و"خيط نور.. هنا بين ليلين" عام 2012، ربّى إبراهيم نصر الله شعره الشقي في خمس عشرة مجموعة شعرية، كما كان يحاول أن يربّي الحياة لفلسطين وللإنسان في كل مكان، وبين "براري الحمى" عام 1985 التي ترجمت إلى الإنكليزية، والإيطالية، والدنماركية، و"زمن الخيول البيضاء" عام 2014، ترك نصر الله التفاصيل في ما يزيد على خمس عشرة رواية، تركها حرة في اختيار تفاصيلها، وسمح لها أن تتحرّك في الروايات بكامل فتنتها، وبكامل طعمها ورائحتها، لتشكل عالماً كاملاً يحوّط القارئ الذي يتحوّل لأحد هذه التفاصيل، والذي تشده الروايات من شعر روحه وتأخذه إلى تاريخ لم تذكره يوماً كتب التاريخ.

على هامش احتفاء الجالية العربية في مدريد بهذا الكاتب الطاعن في صدقه وقربه للآخر، كان لـ"ضفة ثالثة" هذا الحوار/ الفسحة التي نطل منها على روحه، وعلى أرواحنا التي سنتعرف عليها في إجاباته أكثر.

حماية الذائقة العربية

(*) سؤال: هل تعتقد أن الأدب الفلسطيني استطاع أن يواجه حالة ضياع الهوية التي يراهن عليها الفكر الصهيوني، ولماذا برأيك كان الشعر الفلسطيني ولم تكن الرواية الفلسطينية في المقدمة؟

- لا أعتقد أن هناك أدبًا استطاع أن يحمي هوية شعب مستباحة مثلما فعل الأدب الفلسطيني، بل إني أقول وبكل ثقة ومصداقية إن المنجز الإبداعي الأدبي الفلسطيني حمى الذائقة العربية كلها والفكر العربي كله وجدده وأغناه على الرغم من كل ما يعيشه الكاتب الفلسطيني من شتات، فأسماء مثل محمود درويش وغسان كنفاني وناجي العلي ويحيى يخلف هي من دعائم الهوية العربية.

أما عن الشعر كجنس أدبي فلسطيني فرض نفسه أكثر من الرواية، فأنا أعتقد أن الإنسان العربي بطبيعته وجيناته هو شاعر أكثر مما هو روائي، بالإضافة إلى تفرد تجربة درويش التابعة لتفرد قامته الشعرية على المستويين العربي والعالمي، ولكني أرى أن الرواية الفلسطينية والعربية ستكمل معنا حمل هذا الحمل الثقيل، خاصة بعد كل هذه الآلام التي تعيشها الشعوب التي ثارت على طغاتها، والتي ستكون أكبر من أن يحملها أي جنس أدبي بمفرده.

(*) سؤال: "ملهاتك الفلسطينية" تعتبر أضخم عمل سردي عربي لحد اليوم، لماذا لم تحدد عدداً لأجزائها؟ أم أن أجزاء الجرح الفلسطيني لا تنتهي؟

- لماذا أختزلها وأحدّد لها رقماً. القضية الفلسطينية بالنسبة للفلسطيني هي قضية مفتوحة على المستقبل كما هي مفتوحة على الحاضر والماضي، لأنه عاشها ويعيشها وسيعيشها طويلاً ولن تنتهي حتى بانتهاء حياته. وما دمت أنا أعيشها كإنسان فلسطيني أولاً ثم ككاتب فلسطيني ثانياً، وما دمت أواجه كل تفاصيل نتائجها يومياً، فإن تفاصيل وزوايا وأحداثاً وأفكاراً وشخصيات وخيبات جديدة ستخلق في حياتي أسئلة جديدة كل يوم، أسئلة تختلف عن تلك التي حاولت الإجابة عنها في أجزاء قديمة، أو حاولت تقديمها بأجوبة تحمل كثيراً من الأسئلة. الأسئلة الجديدة التي على الفلسطيني أن يواجهها يومياً كثيرة ولا يمكن تفريغها في عمل روائي واحد، وقد جاءتني فكرة كتابة روايات متعددة، مستقلة، ومختلفة في بنائها الفني وفي شخصياتها عن أخواتها من هنا، من هذه الأسئلة التي لن تنتهي لأنها تتوالد من السؤال الفلسطيني الأول، لماذا فلسطين؟ لماذا هذا القدر الذي يعيشه الفلسطيني بقلبه، وعيونه، وبجثث قتلاه الذين يحملهم معه أينما رحل؟ حقيقة، لقد بدأت بهذا المشروع السردي منذ عام 1985 وكل عام جديد أجد نفسي أمام أسئلة جديدة، فالقضية الفلسطينية ليست مجرد قضية سياسة، إنها اختصار مفتوح لكل الأسئلة التي شغلت البشر منذ وجودهم على هذا الكوكب، إنها أسئلة الحرية، العدالة، الحق، الموت، المصير، الحب، الاغتراب، الهوية، الأمل، اليأس، الخذلان، الضياع، وهذا ما جعلني أجد نفسي في مهب تلك الأسئلة حين بدأت أكتب عنها، وأصبح هذا التحدي بالنسبة لي أكبر، وأيقنت أن دوري ككاتب يتجاوز كثيراً حدود الكارثة الكبرى لسلب الوطن الفلسطيني، ليصل جوهر ما يحدث في الفلسطيني من الداخل، وما يحدث للفلسطيني من كل ما يحيطه كإنسان أولاً، وكصاحب قضية ثانياً. ولقد كان عليّ البدء في الكتابة من الحاضر ثم الانتقال إلى الماضي، لقد بدأت الكتابة عما عشته، لأنه كان حياً وطازجاً، وكانت الدماء لم تزل حارة فلا يمكن تجاوزها. لقد حاولت أن أقدّم تجربتي التي عشتها بكل خلية في تجربتي كلاجئ، تلك التجربة التي كان عليّ تعريتها، فضحها، مقاومة الهروب منها، واعتقدت دائماً أنني كلما كنت صادقاً في تقديم نفسي استطعت أن أكتب أكثر عن الآخرين، أي أنه ككاتب عليك دائماً أن تحاول أن تفهم نفسك قبل أن تحاول فهم الآخرين. أعتقد أن هذا المسار المعاكس أفاد هذا المشروع كثيراً. وأظن أن مشروعاً كهذا سيظل مفتوحاً على اكتشافات وتجارب جديدة، ولذا لن يتوقف ما دمت قادراً على الكتابة.

الرواية تاريخ

من لحم ودم

(*) سؤال: إلى أي مدى يمكن للرواية التاريخية التي تكتبها أن تتماسك وأن تكون موضوعية، وهي مقسمة بين الواقع والتخيل، وكيف تبقى الرواية طازجة ورشيقة على الرغم من جفاف التاريخ؟

- أنا أعتقد أن كل رواية هي رواية تاريخية بشكل ما، لأنها حتى وإن لم تمتلك حدثاً محدداً باليوم، لكنها تعيش في زمن يؤثر بكل تفاصيله على كل تفاصيلها، على أشخاصها، وعلى طريقة تعاطيهم مع مجرياتها. هناك مسافة كبيرة بين شكل كتابة التاريخ، وبين شكل الرواية ولغتها، فالرواية تاريخ من لحم ودم، وهي أخطر، لأنها الوحيدة التي تجعلك داخل كتاب التاريخ، ولست خارجه، فهي تحولك من مجرد قارئ، أو متصفح يمر بدون أي شغف ويقلب الصفحات وينفر من الحوادث، إلى مشارك في حياة هؤلاء البشر الذين عاشوا هذه الحوادث. الرواية التاريخية تسحبك إلى الزمن الذي ترويه، وتجعل هذا الزمن يبقى حياً في داخلك، فلا يمكن أن ننسى تفاصيل الثورة الفرنسية لأننا لا يمكن أن ننسى "البؤساء" ولا "قصة مدينتين"، ولا الكثير من الروايات الرائعة، وكذلك بالنسبة للحربين العالميتين الأولى والثانية، ولثورات أميركا اللاتينية، وحروبها، وأوجاعها. نعم حين أكتب عن زمن معيّن عليّ الذهاب للمكتبة والبحث والتنقيب عن حقيقة ما حصل في ذلك الزمن، ولن يكون البحث سهلاً أو سطحياً، وهذا ما حصل معي حين كتبت عن زمن لم يذكره التاريخ جيداً، أو حتى حاول إخفاءه. حين كتبت روايتي حول شخصية ظاهر العمر كان كل ما أسعى إليه هو ألا يقتل الجفاف الحياة، أي أن لا يبتلع التاريخ النص الروائي الذي أنتجه باعتباره نصاً أدبياً إنسانياً، وحتى لو كان الأمر متعلقاً بشخصية مثل شخصية ظاهر العمر ورحلته لتأسيس دولة عربية مستقلة في فلسطين في القرن السابع عشر، لأن الأساس الذي أبني عليه نصي بالنسبة لي دائماً هو جوهر الذات الإنسانية، وعلاقات هذه الذوات مع واقعها الإنساني، الوجودي، الجمالي، والتراثي. الرواية هنا لا تخون التاريخ الفعلي للأحداث، ولكنها قراءتي أنا كإنسان وككاتب الخاصة لتلك الأحداث.

أما مسألة الموضوعية فهي مسألة شائكة بحد ذاتها، إذ إننا في الأصل دائماً منحازون، ولكن سحر الرواية يكمن في أنها تتيح لنا هذا الحيز الجميل من المكر كي نبدو محايدين، وكي تبدو الوقائع والشخصيات تسير على هواها وبمنتهى الحرية. فاختيار الموضوع هو انحياز بحد ذاته. اختياري أنا شخصياً أن أعمل طوال حياتي الأدبية على مشروع كالملهاة الفلسطينية هو انحياز، لكن التحدي الحقيقي في دوري ككاتب، هو أن أحرر نصي من كل انحياز مفضوح، طبعاً قدر ما أستطيع، وذلك كي أضمن أن يكون نصي هذا نصاً فاعلاً في القرّاء في مكان على هذه الأرض، كل ما أتمنّاه وأحاول الوصول إليه هو أن يواصل نصي اكتشاف ما لم أستطع قوله، وذلك مع قرّاء متجددين وذلك لأن الرواية الجيدة تخلق لنفسها دائماً قرّاء متجددين بتغيّر الزمن وبهذا فهي لا تموت.

(*) سؤال: كتبت الرواية والشعر والنقد والنقد السينمائي، كما أنك شغوف بالتصوير الضوئي، ألا ترى أن هذا يشتت الكاتب قليلاً ويحرمه من المضي الحقيقي في جنس إبداعي واحد؟

 - دائماً أجيب على هذا السؤال المتكرر بجملة: "ليس هناك إصرار على أن أكون كل هذا، لكن يوجد إصرار على ألا أجعل كل هذا يفوتني"، وذلك لأنني شغوف بها جميعها، ولا أحب أن أكون مجرد عابر كسول لهذه الفنون فقط، بل أريد أن أكون في داخلها. إن الكاتب حين يتقن هذه الروافد هو مثل العازف الذي يدرب أصابعه كي يعزف، والمغني الذي يدرب أوتار صوته كي يغني، والعداء الذي ينمّي عضلاته كي يركض، فأنا أعتقد أن كل الفنون هي روافد لعملية الكتابة الإبداعية، مع أن تجربتي في الأساس مكثفة في الشعر والسرد، لكن ليس هناك أدب بدون تخيل للصورة، أو بدون زاوية مختلفة لالتقاطها، وليس هناك رواية بدون أن تشعر بها كفيلم سينمائي يعرض أمامك، وبدون أن يكون الشعر حاضراً في لغتها، وفي روح السرد نفسه، فالشعر حالة اكتشاف مختلفة تضيف للسرد طعم الدهشة والعمق. في ظني من الصعب أن أكتب السرد الذي أريد والشعر الذي أريد بعيداً عن كل ما يمكن أن يُغنِيْهما. وأعتقد أنه لا يمكن لكاتب يعيش في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين أن يرفض أن يرى كل هذه الإنجازات المتحققة وهذا السبق المذهل، وبشكل خاص في مجال السينما. في روايتي "شرفة الهذيان" (2005) حاولت أن أجمع فنون المسرح، الشعر، الفوتوغراف، التشكيل، السيناريو، الخبر الصحافي، الصورة الصحافية، الكاريكاتير، وبالطبع السرد الروائي. وهذا الجمع أغنى الرواية نفسها، وجعلها تتمكن أكثر من أدواتها.

(*) سؤال: ما الذي منع روايتك من أن تتحول إلى أعمال درامية حقيقية تحاكي الواقع الفلسطيني، وتحاكي هذا الجرح الحي الطازج، بطريقة قابلة جداً لتحويلها إلى الحالة السينمائية؟

- لقد وجدت بالفعل محاولات كثيرة منذ البداية لتحويل روايات لي إلى أفلام، لكن كل تلك المحاولات توقفت عند نقطة ما. وقد كان المشروع الأهم في هذا المجال مسلسلاً عن رواية "زمن الخيول البيضاء" الذي كتبت أنا شخصياً السيناريو المأخوذ عن الرواية، وذلك طبعاً منذ سنوات عدة، وكان سيخرجه المخرج المتميّز حاتم علي، ثم بعد ذلك تمت محاولة أخرى من المخرج نجدت أنزور، ولكن الحقيقة المؤلمة جداً وباختصار شديد هي أن كل الدول العربية التي تمتلك المال لا تريد لفلسطين كقضية وكتاريخ أن تحيا، أو أن يعاد إحياؤها، فلم تكن هناك أي فضائية كبيرة ممن التقى المنتج بمن فيها مستعدة لعرض مسلسل عن فلسطين. وهذا أربك الوضع؛ وتخيلي أن هناك فضائية طلبت أن نغيّر المكان الذي تدور فيه الأحداث! قالوا بالحرف الواحد: "إن أيّ مكان يمكن أن يكون مقبولاً إلا فلسطين!"، والأفظع في هذه التجربة أن هناك فضائية عربية تجرأت وعرضت علينا أن يتم تحويل القسم الأول منها، بتصرّف، إلى مسلسل بدوي!. هذه هي المشكلة، وأعتقد أنها تشكّل عمق المشكلة العربية وتشكّل عمق الخراب الذي أوصلتنا إليه حين حاولت شعوبنا الثورة على نظم تكذب عليها، تلك النظم التي مثلها مثل الأقنية الفضائية تتغنّى بفلسطين في نشرة الأخبار والخطاب، وتسحقها على المستوى الإنساني، والفكري، والوجودي الحقيقي.

النص الجيد صالح

لكل زمان ومكان

(*) سؤال: برأيك هل يختلف تقييم القارئ للعمل الروائي باختلاف الزمان والمكان؟

- ربما تختلف طريقة تناول القارئ للعمل قليلاً، لكن النص الجيد صالح لكل زمان ومكان، وسيثير نفس الأسئلة حوله في أي زمان أعيد فيه إحياؤه من خلال إعادة قراءته. فمثلاً في عام 1985، أصدرت روايتي الأولى "براري الحُمّى"، واختارتها صحيفة "الغارديان" ضمن أفضل عشر روايات كتبت عن العالم العربي، لكن الرواية حينها جعلت الوسط النقدي يتعامل معها بمزيج غريب من الحذر والتهجم والدفاع، وخلقت جدلاً حقيقياً في نقدها، فهناك من رأى أنها رواية تمكنت من التوثيق لفترة عصيبة، وهناك من صنفها ضمن الرواية المضادة، ومن النقاد من رأى أنها رواية قدمت أهم تجارب الحداثة في الكتابة العربية، وهناك من صنفها ضمن تيار ما بعد الحداثة، وهناك من اعتبر الرواية كلها مجرد هلوسات. والحقيقة هي أننا ككتاب جل ما نتمناه هو أن يعيش نصنا الذي نكتب من خلال قراء متجددين كما قلت سابقاً، لا أن يموت بموت قرائه في الزمن الأول. إن الحكم الحقيقي على أي عمل إبداعي هو الزمن، وحين صدرت هذه الرواية بالدنماركية قبل خمسة أعوام وصلت إلى لائحة أفضل خمس روايات تترجم إلى هذه اللغة في ذلك العام، مع أنها نافست روايات كتبت حديثاً جداً بل قبل عام من هذا التصنيف.
 بذا جعلتني أعيش إحساساً رائعاً بأن هذا النص سيبقى حياً ولن يموت، ولذا فأنا الآن أستطيع أن أقول إن هذه الرواية تحديداً قد عاشت، واستطاعت أن تواصل حياتها بقوة على الرغم من مرور ما يزيد على ثلاثين عاماً على كتابتها.