Print
عماد الدين موسى

الصحافة الثقافيّة.. بين مطرقة السلطة وسندان التمويل؟ (2)

11 سبتمبر 2019
هنا/الآن
الثقافة فعل تجديد للحياة، تقوّي الشعور بالأمل، تدمجنا في إنسانيتنا فلا تتفكَّك عرى المودة والصداقة. وهي لمَّا صارت ثقافة صارت كنزاً للأفكار الإنسانية العقلانية.
وقد انتبهت الصحافة في العالم العربي إلى دور الثقافة هذا، فأفردت لها صفحات بدت خجولة في شكلها ومضمونها، ومن ثم خصَّصت لها مجلات دورية أسبوعية وشهرية، وتحولت هذه الصفحات إلى ميادين تتصارع فيها الأفكار والمعتقدات بين الموالاة والمعارضة، بين القديم والجديد، أو لنقل بين اليمين واليسار. وتحوَّل القلم إلى سيف، وصار السيف يجزُّ أفكاراً وأفكاراً، ونسي المتصارعون أنَّهم بذلك يقضون على الجمالي الفلسفي الذي في الثقافة. وتدخلت السياسة في الثقافة، وصارت تتسلبط عليها، فأنتجت موظفي ثقافة يجيرون كل أفعالهم لصالح الاستعمال الاجتماعي للسلطة. وهذا أفرز مبدعين ومنتجين للثقافة مقابل مستهلكين صارت تجتذبهم هذه الصحافة، وصارت هناك مناطق حرام وأخرى حلال للأفكار. وهذا خلق حالة من الذعر والخوف بين المثقفين الحقيقيين الغيورين على عقل الأمة، وبين بلطجية الثقافة؛ بين المتن والهامش.
هل استطاعت الصحافة الثقافية أن تصنع حالة أفرزت إبداعاً متميزاً، فجعلتنا نستمتع كبشر بجمال المعرفة والثقافة ونشعر بأنَّ عقلنا ما يزال مُلكنا؟
سنحاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال استطلاع آراء عدد من المبدعين العرب في هذا الملف الخاص الذي ننشر هنا الجزء الثاني منه.
وينبغي أن نؤكد أن ما يعبّر عنه هؤلاء المبدعون من آراء ومواقف لا تعبّر بالضرورة عن رأينا حيال موضوع هذا الملف، واخترنا أن نبقي ما قالوه على ما هو عليه عملاً بحرية النشر:


صلاح بوسريف (المغرب): ثقافة الواجهة
لعبت الصحافة عموماً دوراً كبيراً في دعم الثقافة وترويجها، بل كانت الثقافة، في كل الجرائد التي صدرت في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ليس في المشرق العربي فقط، بل وفي بلاد الشام والمغرب العربي، حاضرة بقوة، عبر كتاب ومفكرين ومبدعين، وكانت الجرائد تتسابق لاستقطاب الكتاب، بل كان بعض الكتاب والشعراء إما أصحاب جرائد أو مسؤولين عن إدارتها، ما يعني أن المثقف لم يكن ثانوياً في الصحافة والصحف، بل كان ضرورة، لأنه كان، بعكس السياسي، هو من يطرح الأفكار والقضايا الراهنة لزمنه، ويستشرف أفق المستقبل، بنوع من الجرأة والمباغتة، وكان العديد من الكتاب المعروفين يكتبون أعمدة ثابتة في الجرائد، ويخوضون في النقاش العام، يمسون كل قضايا الثقافة والمجتمع، لأن منهم من كانت الصحافة بالنسبة له هي وسيلة التخاطب مع القراء والتحاور معهم، قبل الكتاب. فطه حسين، كمثال فقط، كان بين أهم الكتاب والمفكرين الذين نشرت أهم أعماله في الصحافة، مثل "حديث الأربعاء"، وأيضا مقالاته حول الديمقراطية، التي جمعت في كتاب في ما بعد، وفي السياسة، وكذلك في النقاشات الأدبية التي كانت تجري بين المثقفين، وتترك خلفها الكثير من

الجدال والنقاش. ويمكن، هنا، الحديث عن العقاد أيضا، وعن نجيب محفوظ لاحقا، باعتباره روائيا، فعدد من رواياته نشرت في الصحافة عبر أسابيع، وكان القراء يقبلون عليها باهتمام. ويمكن أن أذهب إلى لبنان وسورية والعراق، وأتوقف عند الجواهري الذي عمل بالصحافة، وكان مسؤولا عن بعض الصحف، وقد عمل السياب معه أيضا محررا، ونشر مقالاته في نقد رفاقه القدامى من المثقفين الشيوعيين، وقد جمعت مؤخرا في كتاب.
الأمثلة كثيرة، وحتى في الغرب كانت الصحف وما تزال تلعب نفس الدور، رغم أن المادة الثقافية في الجرائد اليوم تقلصت، وأصبحت تحسب بعدد الكلمات، بعكس ما كانت عليه من قبل، فهي كانت تسع المقالات والدراسات والنصوص الإبداعية دون حساب الحيز. اليوم يتحدث البعض عن الصحافة لايت، التي تكتفي بالأخبار، وبنشر الدراسات والمقالات ذات النفس القصير والخفيف والعابر، وهذا أدى إلى غياب العمق فيها، وباتت المجلات، هي، نسبيا، ما يستوعب الدراسات الطويلة، بما تطرحه من أفكار وقضايا ومشكلات.
ربما ظهور المواقع الإلكترونية، ومزاحمتها للجرائد، بهذا النوع من الكتابات، وتقلص سوق القراءة الورقية، كان أحد أسباب تكيف الجرائد مع هذه المتغيرات الجديدة. فالأمر مس الجانب الثقافي في الجرائد، وباتت الملاحق الثقافية الأسبوعية بدورها تعاني هذا المشكل، في موادها، وطبيعة وأهمية المواد. ثمة ملاحق توقفت، أو تقلص عدد صفحاتها، أو أنها تختفي، دون اعتذار، إما بسبب حدث سياسي ما، أو بسبب الإشهار الذي تعمل به أغلب هذه الصحف على سد ما تعانيه من عجز مادي.
جرت مياه كثيرة تحت جسر الثقافة في الصحافة، والجرائد بدورها، في تتابع صدورها، فهي تقاوم واقعاً ثقافياً تدنت فيه القراءة، والمدرسة استقالت وباتت بدون جدوى، وكذلك الجامعة، والإعلام يروج لمجتمع الفرجة والاستهلاك، ولتسطيح الفكر والنظر، في مقابل مجتمع العلم والفن والمعرفة، هذا الذي هو الحل للخروج مما نحن فيه من معضلات واقعنا العربي البئيس، لأن في تقليص مساحة الثقافة في الجرائد وفي الإعلام، تقليص لدور الإنسان في تغيير المجتمع، والتأثير فيه، والجريدة هي وسيلة لهذا التأثير، عبر الثقافة طبعا، لأن ما يأتي من السياسة، يكون عابرا وزائلا، لأنه لا يتجاوز عمل الإطفائي، أما المثقف فهو يعمل في أفق بعيد، وهو صاحب رؤية وموقف، ويعيد صياغة المفاهيم والإشكالات والأفكار. وبدون صحافة وإعلام ومدرسة وجامعة وكتاب، لن يحدث هذا.


سامي داوود (سورية): الثقافي والسلطة
تمرير الثقافة عبر الصحافة أمر إشكالي بحد ذاته، إذ تتعارض أدوارهما وظيفيا. تشترط الثقافة استقلالية فكرية، وترتبط الصحافة بسلطة رأس المال. كان المفكر النمساوي كارل كراوس يعتقد أن الإعلام يعمم الخبل بين الناس، ولو قُيّضَ له رؤية الإعلام المعاصر، لوجد لاعتقاده ذاك، بنية منتظمة على شكل قانون في الخُبل. لذلك أعتقد أن السؤال ههنا يحيل إلى مفهوم

المؤسسة التي تسمح للثقافة أن تجري عبرها إلى المجال العام. وهذا يحيلني إلى مقاربتين وجدتهما في علاقة نعوم تشومسكي بمعهد ماساتشوستس، وعلاقة بيير بورديو بالكوليج دو فرانس. فالأول كان يكتب ضد الحرب داخل مؤسسة كانت تمول أيضا الأبحاث العسكرية، دون أن تصادر حريته في انتقاد المعهد الذي يمول دراساته ونقيضها. وهو الأمر ذاته الذي اعترف به بورديو، في اعتباره لمؤسسة الكوليج دو فرانس، مؤسسة لا تحرمك من معاشك حتى وأنت تنتقدها.
في مقابل ذلك، نجد فئة من مدراء التحرير في مؤسسات ثقافية كثيرة تحول المثقفين إلى موظفين. وبالتالي تجردهم من دورهم الثقافي. نوع من الإخصاء النقدي بمؤثرات مالية. إلا إن كان المحرر في بعض الصفحات الثقافية مُتصعلك الهوا، ومجازفا بوظيفته المسلكية على حساب مكانته النقدية داخل المجتمع.
في عُجالة هذا الاستئناس، أتذكر شرطا أساسيا في قراءة كانط لمفهوم التنوير، ذلك المتعلق بتنزيه الحق في الإعاشة من الأيديولوجيا. هذا الشرط الذي لا يستعيده ميشيل فوكو في قراءته لقراءة كانط ولسبل خروجنا من القصور ـ عدم الأهلية ـ إلى الرُشد. هو ما يشكل في الحقيقة الدارة الأساسية لتشغيل الحقل الثقافي داخل المؤسسات وخارجها أيضا.
بناء عليه، هل ثمة معوقات لأثر الثقافة في الحياة؟. قطعا توجد سلطة تمنع تسرب الثقافي إلى السياسي والمجتمعي في آن. لذلك ثمة سياسة ثقافية لإنتاج فاعلين مطيعين ومستلبين، يظهرون على المنصة التي تجرد الثقافة من فردانيتها، وتجعلها سلعة عامة، شيء في متناول الجميع القيام به. هذا التسطيح المنتظم لتحويل الثقافي إلى صناعة جماهيرية، وجعله مناهضا للعقل، هو الذي يضخُ اليوم اللغة التي تحرك تواصل الناس المنفلت، في الفضاء الأزرق، المقتضب، الخاطف، الفارغ، الناسخ.
إن حذفنا الصفحات الثقافية من المنصات التي ما زالت إلى اليوم تقدم الحاجة الأعلى للإنسان، ما الذي سيتبقى للناس من أجل متابعته؟ فضائح المشاهير وأجساد السيلكون، فساد السلطة الدينية والسياسية؟. باختصار، خرابُ الكائن بتعبير لوتريامون في أناشيده، هو ما سيتبقى للناس متابعته دون القدرة على عدم الرضوخ له.
ليست حالة اللهو عرضا للعنف الذي أفرزته حالة ما بعد الحداثة، بل هو مؤشر على ضعف الثقافة في ردم الفجوات المتقيحة في الروح الإنسانية. علينا أن نعترف ونحن متسلحين بتلك الصرخة التي لا أملُّ من استعادتها، تلك التي وضعها يوجين يونسكو في آخر سطر من مسرحيته "وحيد القرن"، والتي تأتي من ذاك الذي يصفه والتر بنيامين بالأشخاص الذين يمنحوننا الأمل وهم دون أمل. لذلك آمالي بتسرب الثقافي إلى الوجه المعاصر ما زالت قائمة، رغم قساوة العصا التي يرفعها "شيخُ الجبل" ضد إنسانيتنا.


محمد عيد إبراهيم (مصر):
حال متردية إلى أقصى مدى
في ما نحن نعيش فيه من حال متردية إلى أقصى مدى ربما في تاريخنا الطويل البائد، لم يعد للثقافة من معنى أو جدوى أو ثمار قد يفيد بها امرؤٌ مطالع لنتاج الثقافة أو حتى مشارك في هذا المنتج. فقد سوّدت الأنظمة العربية، في مجملها تقريباً، حياة الناس، سواء كان غذاءً مادياً أو غذاءً روحياً. تعمل هذه الأنظمة حالياً على شحذ الهمم لا لتصل إلى مراتب عليا في الوجود، بل لمجرد أن تأكل وتشرب وإن بالكاد طبعاً.
وصارت هناك طبقة عليا لا تزيد عن 10% من عدد السكان، هي التي تتنعم بما قد تجود به

الحياة من مطعم وملبس ومأكل ومشرب، بينما يسعى الباقي وهم حوالي 90% في تسقّط ما قد تصل إليه أيديهم من بقايا الحياة، فهم لا يجدون غير القشور وأرجل الدجاج وشرائط الأدوية المستعملة والملابس البالية إلخ. بعضهم يصرخ، لكن لا فائدة، وقد يُسجنون من جراء هذا الصراخ الأجوف. فلا مستجيب ولا أحد يهتمّ بأحوالهم، وصارت حتى الإعلانات تريد من هذه الطبقة المسحوقة، إن كان لنا أن نسميها طبقة، إعالة الآخرين، وهم عاجزون حتى عن إعالة أنفسهم، لأن الطبقات العليا لا تراهم ولا تريد أن تشمّ رائحتهم.
وانعكس هذا على الحال الثقافية، فصار معظم الناشرين مجرد قطاع طرق ينهبون المؤلفين، في الأغلب الأعم، حيث صار في مصر الآن ما يزيد عن ألف ومائتي دار، معظمها لا يفقه في صناعة النشر شيئاً، بل هي مجرد (أسباب) لنشر الإبداع بفلوس المبدعين، أو بوعدهم أن ينالوا من التوزيع نسبة، وأنّى لك أن تعرف كم يطبع وكم يوزع، ومنهم أيضاً من يطبع خمسين نسخة أو مئة على الأكثر بطريقة (الطبع الرقمي) ليعطي المؤلف عشر نسخ والباقي للزمن، ويضيع حق المؤلف في ذيوع منتجه الثقافي.
من هنا صارت الحروب طاحنةً بين المبدعين، فثمة سباق بينهم على تملّك النقاد ليكتبوا عنهم، وإن في صحف ميتة أو مجلات منوعة لا رابط بين موضوعاتها أو حاكم لملفاتها. وتكونت شلل أو ما يشبه العصابات، تأسياً بما يحدث في السياسة البائسة، فلو لم تستطع أن تنضم إلى جماعة منهم، فلن تنال نصيبك من رؤية منتجك الثقافي، فالشرط الوحيد لم يعد جودة الإبداع أو تألق الفكر، بل الالتحاق بإحدى هذه العصابات التي توفر لك ناقداً يعمل على نشر منتجك ونقده والتعريف به وبصاحبه، وإلا فسيذهب هذا المنتج إلى الظلام لا أحد يحس به أو يسعى إلى قراءته. وصار "الفيسبوك" هو أضعف الإيمان للجميع.



عبد اللطيف الوراري (المغرب):
تاريخ مشرق
للثقافة في الصحافة العربية في العصر الحديث تاريخ مشرق؛ بحيث ساهمت، في فترات متقطعة، في النهوض بأوضاع الفكر النقدي والإبداع الأدبي داخل أوساط المجتمع التي كانت تتنامى باستمرار رغم ما كانت تعرفه من حالات الحصار والمضايقة وتكميم الأفواه لغياب مناخ الحرية المنشودة، وأخذت تشكل حالة وعي حديث ناشئ كان له دور فاعل ومختلف في مجمل القضايا السياسية والسوسيوثقافية الطارئة، وتقريب جمهور القراء منها. وقد أفرزت الصحافة الثقافية، منذ ذلك العهد من بدايات عصر النهضة فصاعداً، رموزاً فكرية وإبداعية من خلال ما

كان يجري على صفحاتها من معارك أدبية ونقاشات فكرية وفلسفية غير مسبوقة، ولا سيما في بلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا وبعض المهاجر الأوروبية (فرنسا، إنكلترا).
بيد أن هذه الصفحات بدأت تتقلص، وتتوارى ثم تحلّ محلها ضروب من زيف الوعي وأشكال الموضة وممالأة السلطة، وذلك أثناء تغوّل نظم الحكم الجبري، أو مع صعود وسائط الميديا التي نقلت جاذبيّتها ذلك الجمهور النوعي إلى فضاء الاستهلاك والفرجة دون القدرة على الفعل والمبادرة ومواجهة حجب السلطة بشتّى أنواعها، على نحو ما كرس طبقة هلامية وغير مسؤولة.
وإذا كان سياق (الربيع العربي) قد أعاد الاعتبار للصحافة الثقافية بعدما انتعشت آراء المثقفين وتدخّلاتهم في ما يجري، بل ازدادت أمانيهم بضرورة التغيير والإصلاح والانخراط في التاريخ وصنعه، وبعدما شدّت إليها الجمهور المهتمّ والطامح حتى ممن لهم قدر لا بأس من التعليم، لكن سرعان ما دخلت في بيات شتوي بسبب الحوادث المدمّرة التي أنتجها ذلك السياق، وبسبب حالات اليأس والإحباط التي أفرزتها وعاودت الظهور من جديد، وسادت كالهشيم في مواقع التواصل الاجتماعي بين أوساط الشباب.
ولهذا لم أستغرب من توقّف أو انحسار بعض المنابر الثقافية العربية (مجلات، صحف، مواقع..)، إما لغياب دعم الدولة، أو عزوف القراء، أو صعوبة مواكبة الحدث لما تتطلبه من تكلفة مادية ورمزية، أو حتى بفقدان البوصلة وسط مدار التيه والضياع الذي وجدت نفسها فيه.
وقد أنتج هذا الوضع صحافة ثقافية بديلة تعتمد الكمّ بدل الكيف، والشكل بدل المحتوى، وتستورد الموادّ من الخارج بدل أن تفكر في الواقع وتبتكر أطروحات جديدة، وتعطي مساحات للموضة والألوان والبهرجة على حساب الفكر النقدي.
لكن مع ذلك، ما زالت ثمة مساحات مشرقة ومنشودة تقاوم من أجلها صحافة ثقافية حرة ونقدية، تحترم وعي القارئ وتوسع أفقه وذائقته، وتُبقي الأمل بيننا يقظاً، والأوراق لا تخذل الوعد بالإزهار.


عبد الزهرة زكي (العراق):
تزييف الحرية وتشويه قيمتها
إلى حد ما يمكننا القول إن جانباً أساسياً من الإنتاج الثقافي العربي، خلال القرن العشرين، قد جرت ولادته من خلال رحم هذه الصحافة الثقافية، من مجلات وصحف.
جدل الحياة الثقافية واختلافاتها وتوافقاتها هي الأخرى كانت تجري عبر هذه الصحافة. وهذا جدل لم يكن قائماً حصراً على الاختلافات والصراعات السياسية والأيديولوجية، برغم أهميتها، فهو أيضاً كان جدلاً ما بين النزوع للحداثة وما بين التمسك الأصولي بالقدامة، وهو كذلك جدل

ومعارك في الداخل من إطار حركة التحديث منظوراً إليها من زوايا فكرية وفنية مختلفة، كما حصل لسنوات ما بين مجلة شعر من جانب ومجلة الآداب من جانب آخر.
بالتأكيد لا يمكن فصل أداء واهتمامات أي مطبوع عن إرادة وتوجهات الجهة المالكة للمطبوع، أو الداعمة له، وعن دواعي حاجتها له. أكاد أشك في أن يكون لدينا في عالمنا العربي مطبوع واحد ليس مملوكاً لجهة حكومية أو سياسية، أو في الأقل غير مدعوم بمالٍ لا يعطى إلا من أجل دافع سياسي. هذه الطبيعة تلقي بظلالها، ثقيلةً أو خفيفةً، على نوع الأداء للنشريات الثقافية.
في بعض الصحافة، العامة أو الثقافية تحديداً، أُريد ويراد إيهامنا أحياناً بالاستقلالية وعدم التابعية، وهذا أتعس أنواع الأدوار الصحافية. النشر، بضمان تفهم مسؤوليات الكتابة، في مطبوع دولة حتى وإن تملكه حكومة الدولة هو أقل ضرراً من نشر بمطبوع قائم على وهم الحرية كلما أراد الوهمُ تزييفَ الحرية وتشويه قيمتها.
في مثل هذه الظروف، في حال صحافة مملوكة لما سياسي حكومي أو غير حكومي، لا يمكن للكتاب والأدباء أن يتوقفوا عن العمل أو الكتابة في هذه المجلات والصحف، خصوصاً في بعض بلداننا التي تحتكر الحكومة فيها ملكية وسائل النشر. سيكون معيار نجاح أي كاتب أو محرر هو في قدرته على حفظ توازن صعب يضمن ما يمكن إتاحته من حرية للرأي ولا يضعه تحت سطوة تعسف المالك السياسي.
عملياً يمكن القول إن الثقافة تتقدم وتتطور بموجب إرادة المثقفين، من كتاب ومؤلفين بمختلف الحقول وأكاديميين وفنانين، وليس بما تسمح به أو تمنعه صحافة. الصحافة، بموجب تابعيتها وملكيتها، قد تعيق أو تساعد في تكثير فرص التقدم لكنها ليست حاسمة في ذلك. ما هو حاسم هنا هو قدرة المثقفين على التمنع أو المطاوعة.


عبدالفتاح بن حمودة (تونس):
المبادرات الثقافيّة الفرديّة
لولا ثقتي ببعض المبادرات الثقافيّة الفرديّة لبعض الأصدقاء العرب من المقاتلين في المجال الثقافيّ، ما كنت أسهم بشيء لإيماني المطلق بأنّ الثقافة فعل حرّ. والثقافة الحرّة لا تكون إلاّ لدى الشعوب الحرّة، وهذا ما لم يتوفّر في هذه الدول.
هل لدينا مجلّة واحدة مثل le monde diplomatique حتى في نسختها العربية "لوموند ديبلوماتيك"؟ وهل لدينا مجلّة واحدة مثل magazine littéraire؟
عن أي إعلام ثقافيّ عربيّ نتحدّث؟
وكي لا أكون متشائما، أقرّ بحفاوة وسعادة بأن لنا تجارب عربيّة رائعة قامت بمشروعها التنويريّ طيلة عقود مثل مجلاّت الطليعة والأقلام (العراق) الهلال وإبداع وفصول (مصر) والناقد والآداب ومواقف وكتابات معاصرة والعرب والفكر العالمي والفكر العربية المعاصر والوحدة (لبنان)، والمدى (سورية) والكرمل (قبرص/ رام الله) والثقافة المغربيّة (المغرب). سأذكر الصحف العربيّة التي كنت أتابع أعدادها بشغف رغم أنها كانت محاصرة في تونس وكانت تصل بصعوبة وتُمنع بعض أعدادها أو تنام في الرفوف بتعمّد التأخير، مثل القدس العربي والزمان وبريد الجنوب (لندن)، والفينيق (الأردن)، والعَلم والاتحاد الاشتراكي (المغرب)، وأخبار الأدب (مصر)، والسفير والنهار والشرق الأوسط (لبنان)، والعرب (تونس/ لندن). ثم ظهرت مجلات أخرى بعضها ما زال يقاوم وبعضها توقف مثل ضفاف في النمسا وواحد في هولندا وألواح في مدريد ومجلات مرافئ ومواسم ومجلة (المغرب) والكتابة

الأخرى (مصر) ومجلات ثقافية أخرى مثل مشارف ونقد وتافوكت وعيون والحركة الشعريّة التبيين والجاحظيّة وأبابيل وتكست ونصوص من خارج اللغة (المغرب) والجديد والشاعر والجسرة ومجلات أخرى كعالم الفكر وعالم المعرفة والعربي (الكويت) وقصص والحياة الثقافيّة (تونس) ونزوى (سلطنة عمان) وشعريّات (ليبيا) والفيصل (السعوديّة) إلخ من المجلاّت أو الصحف. ويعود ذلك أساسا إلى مقاومة الكتّاب والمفكرين إميل حبيبي ومحمود المسعدي والبشير بن سلامة وقيصر عفيف ومحسن الرملي وعبد الهادي سعدون وصلاح عبد اللطيف وبول شاوول وسيف الرحبي وحسن بن عثمان وأحمد حاذق العرف ووديع العبيدي وادريس علوش وأحمد الطريبق أحمد وهشام قشطة وأحمد الفلاحي وواثق غازي وعماد الدين موسى ونوري الجراح ونصر سامي وجوان تتّر وسعيد الباز وعزمي عبد الوهاب وغيرهم.
سترون أن صحفا كثيرة اندثرت أو تغيّر حالها وستلاحظون أن مجلاّت اندثرت أو توقّفت ثم عادت وستلاحظون أن أغلبها قام "على ظهور أفراد" من المبدعين والمفكرين: مطاع صفدي، رياض نجيب الريس، سهيل إدريس، أدونيس، سعدي يوسف، محمود درويش، عبد الباري عطوان، أمجد ناصر، عباس بيضون، حاتم الصكر، أنسي الحاج، الطاهر وطار، صلاح بوسريف، عبد المعطي حجازي، إبراهيم داوود، مهدي التمامي، جمال الغيطاني، عبلة الرويني وغيرهم من الإخوة الذين رحلوا أو ما زالوا يقاومون من أجل إعلام ثقافيّ.
المجد الأعظم للمخترع الألماني يوهان غوتنبرغ مخترع الآلة الكاتبة لأنه نقلنا إلى عالم الرقن كما يرى ذلك الشاعر صلاح فائق. والمجد للثورة الاتصاليّة ولبيل غيتس ولمارك زوكربيرغ.
بعض المشاريع العربيّة التنويريّة تموت بموت أصحابها. ويمكنكم العودة إلى تاريخ الصحف والمجلاّت العربيّة. ورغم الموت الذي غدر بمبدعين كثيرين، ما زلت مؤمنا بأن المبدعين العرب قادرون على مواصلة فعل التنوير من خلال المجلات والملاحق الثقافيّة. ورغم بروز الشلليّة والانتهازيّة والادّعاء والدّولار الثّقافي ورغم النظرة الدّونية للثقافة في الصحف العربيّة سيظلّ الإعلام الثقافيّ يواصل مسيرته من أجل التّنوير.