Print
عماد فؤاد

سوق الأدب العربيّ بالغرب.. رؤية للمشهد الألماني (7)

31 أغسطس 2019
هنا/الآن
منذ اللحظة الأولى التي تواصلت فيها مع المترجمة الألمانية ساندرا هتزل (مواليد 1980)، لاحظت حماسها الشديد للردّ على أسئلتي، ولفتني امتلاكها حسّاً ذكيّاً من المداعبة والسخرية الحادة في كثير من ردودها، هي التي قالت فور قراءتها للأسئلة: "واو! قرأتُ مباشرة الحلقات السابقة لملفّك حول "سوق الأدب العربي بالغرب"، ومع أني عرفت من أول سطر أنني طبعاً من "المتّهمين" (أعقبتها بغمزة عين) رأيت أيضاً أن بها الكثير من التساؤلات والأفكار المهمّة التي تدور برأسي".
كانت نبرة إجابات هتزل (التي وصلتني بعد ثلاثة أسابيع من إرسالي الأسئلة، والتي صيغت كما أوضحت لي بمساعدة من صديقيها عمار عيروطة ويامن حسين في التدقيق والتصحيح اللغوي) تحتدّ أحياناً مدافعة عن الكُتب التي ترجمتها إلى الألمانية، وتارة أخرى هادئة وطارحة بنفسها بعض التساؤلات التي تشغلها. باختصار كان الحوار مع هتزل ضرورياً لأهمّيته ضمن ملفّنا الموسّع حول "سوق الأدب العربي بالغرب"، وذلك بفضل حركتها الدؤوبة مؤخراً في الترجمة، وأيضاً لإطلاقها مؤسسة ودار نشر 10/11، شعارها "ملتزمون بنشر أدب جريء على القيود والقوالب ويتناول مواضيع معاصرة الأهمية بالعربية، ومنها إلى لغات أخرى، عن طريق وكالة أدبية ومقابلات ومنشورات وأشياء جميلة أخرى".
أصدرت هتزل حتى اليوم عدداً من الترجمات عن الأدب السوري الجديد، من بينها أعمالٌ لعارف حمزة ورشا عباس وعبّود سعيد وعسّاف العسّاف وغيرهم، كما تستعد لإصدار عدد آخر من ترجماتها الجديدة.
حاولتُ قدر الإمكان، في حواري الذي طال قليلاً مع ساندرا هتزل، أن أنصت إليها أكثر من أن أتكلم، فشهادتها الهامة تقدم لنا هنا صورة وافية عن جانب مستقل في الوسط الثقافي العربي النّشط والفعّال اليوم في العاصمة الألمانية برلين، بدا لي من اللحظة الأولى أنها قرأت بالفعل حلقات الملف بتأنٍّ شديد، وأن بعض نقاطه قد أثارت انفعالها، فبدأت تردّ على أسئلة لم أفكر أصلاً في طرحها. دافعت هتزل عن مشروعها في الترجمة وعن اختياراتها لمن تترجمهم عن إيمان حقيقي بما تفعل، لذا أرجو أن تكون أهمية ما جاء على لسانها في شهادتها التالية، شفيعاً لي لدى القارئ عن هذا الحوار الطويل، الذي ننشر اليوم الجزء الثاني والأخير منه:


الكتابات الرقمية الجديدة
(*) ألا ترين أننا نتحدث عن مستويين مختلفين من التلقي الأدبي، أنت تتحدثين عن ما يشبه صرعة جديدة في كتابة ما بعد الإنترنت، وأنا أتحدث عن مفهوم الكتابة الإبداعية ما قبل الإنترنت، ألا يأتي خلافنا في بعض النقاط من هذه النقطة تحديداً؟
تبقى النقلة نقلة كبيرة. وعلينا أن نسأل أيضاً: إلى أي حد كان عسّاف وعبّود مدركين للقراءة ما بعد الحداثية التي ستقرأ نصوصهما في ألمانيا؟ أظنّ أنه يمكنني القول بأنهما لم يكتبا ما كتبا تأثّراً بمفهوم أدبي "ما بعد حداثي" ما. لكنّهما بكلّ ممارساتهما ومرجعياتهما (سينما وموسيقى و.. و..) هما أبناء زمن ما بعد الحداثة ويجيدان لغته بشكل عفوي. فهل كان فعل النقل هذا مشروعاً؟ من الساذج التفكير أن قطعة أدب عربية مترجمة، ستبقى أدباً عربياً بعد ترجمتها. أقصد أن المتلقّي الألماني ينظر إلى نص مترجَم عن العربية أو عن أي لغة أخرى بالدرجة الأولى باعتباره نصاً مكتوباً بالألمانية. وسوق الأدب العربي أو غيره في ألمانيا، تعمل ضمن شبكة مرجعيات ألمانية. سيرون كل نص من منظور ألماني، إن كان مترجماً عن اليابانية أو عن الإنكليزية أو عن العربية.

وأعلم جيداً أن البعض انزعج نوعاً ما، مما اعتبر أنه تجاوز مني لدوري كمترجمة بهاتين الحالتين تحديداً. وقيل كلام عن تشويه صورة الأدب العربي في الخارج، وأن هذا التشويه يفترض أنه مبنيّ على سوء تقدير منّي أساسه عنصري، وقيل بأن هذين العملين ليسا بأدب أصلاً، وأنني "نفختُ" أسماء في الخارج، لا يعرفها أحد في الوطن العربي، وأن هذه الأسماء لا تستحق "كل هذا المجد والمال"، طبعاً بدلاً عن آخرين كانوا سيستحقونه أكثر. لكن، أليس هذا من المثير للاهتمام: حقيقة لستُ أنا من كبّرت عبّود سعيد وعسّاف العسّاف. كيف كان ممكناً أن أعلم بوجودهما أصلاً، لو لم يقم بالاهتمام بهما آلاف القراء العرب والكثيرون منهم من الوسط الثقافي على الفيسبوك، للدرجة التي وصلت أصواتهم حتّى عندي؟ حسناً، المشكلة تبدأ عندما تصير هذه النصوص ذات الشعبية الكبيرة كتاباً، وبالتالي تدخل فضاء التلقّي الثقافي، وما بالك إذا كان هذا الكتاب ترجم ونشر في الخارج! ما فعلته هو أني رميت هذه النصوص من محليّتِها إلى ساحة المُلاكمة الخاصة بالأدب، بل أكثر، بالأدب الألماني، بغرفة الصدى الألمانية، كوني كنت وما زلت معجبة بها وظننت أن آخرين قد يعجبون بها أيضاً، وكنت على حقّ. هناك تيار كامل في الأدب في ألمانيا وأوروبا والعالم لهذا النوع من النصوص، اسمه "الكتابات الرقمية الجديدة"، ليس طبعاً بمعنى أن الكاتب يستخدم الكمبيوتر، بل كتابات يكون مكانها وفي كثير من المرّات مضمونها أيضاً هو الإنترنت، وتعكس عالم الإنترنت بشكل واع. لم يكن عبّود سعيد وعسّاف العساف بحاجة إلى سوريّتهما كي تتم قراءتهما ضمن هذا السياق في التلقّي الألماني، الذي تمثله كتابات تلعب في كثير من الأحيان مع حالةٍ عابرةٍ ما، بشكلها ومضمونها (أليس الشّعر دائماً محاولة القبض على "العابر" بشكل أو بآخر؟) مثلاً، لدينا الكاتبة النمساوية الشهيرة شتيفاني زارغناغل، التي بالمناسبة كتبت حين تعرّفت على نصوص عبود سعيد: "واو! هذا الشاب عمليّاً أنا، فقط إنه ذكر!". لم تقل "آه، انظروا هذا اللاجئ المسكين، إنه يجيد الكتابة أيضاً!"، بل تماهت مع نصوص شاب يعيش في ظل الحرب السورية بشكل مباشر، لدرجة أنها رأت نفسها فيه، دون شفقة، وهذا ما كنت أريده. القواسم المشتركة بينهما واضحة: زارغناغل نشرتْ أربعة كتب مؤلّفة فقط من منشورات فيسبوكية ذاتية جداً. ومثل عبّود سعيد تكتب بتهكّم وذكاء وسخرية حادة وفكاهة سوداء عن مواقف يومية، غير أنها تلعب كثيراً باللغة "الرديئة"، ويتشابهان في الجدل الجاري حول جودة كتاباتهما: تستفز زارغناغل المتلقّين المحافظين في النمسا وألمانيا، وهناك فجوة بين من يرى كتابتها أدباً وبين من لا يراها كذلك. وبالطبع، الرجل الأبيض اليميني يكره شتيفاني زارغناغل كالطاعون. صدر لها كتاب آخر بعنوان "في المستقبل كلّنا ميّتون" أيضاً عن دار ميكروتيكست، وليس بالصدفة: ناشرة الدار نيكولا ريشتر تهتمّ بشكل خاص كما تقول "بالموقف الذاتي في السرد على الإنترنت". وآخر إصداراتها كتابان بعنوان "خيال علمي مصغّر" لبريطاني يدعى أو. ويستن، اشتهر بقصص من الخيال العلمي يكتبها بشكل تغريدات على تويتر. والكتابات الميتا- أدبية على تويتر للغواتيمالي آلان ميلز، التي صدرت تحت عنوان "ثقافة فرعية للأحلام"، حيث يلعب مع الميراث الأدبي العالمي من كافكا إلى بورخس، ومن جويس إلى أوسكار وايلد.

هنا ترتفع سخرية ساندرا هتزل قليلاً وتحتد فتقول: "أمّا العرب! أعوذ بالله! يبدو وكأن عليهم كشرط لنيل شرف الاعتراف بأدبهم أن يبقوا تحت عباءة المؤسسات الثقافية العربية الكبرى ووزارات الثقافة. بالنسبة للبعض يجب ألا يكون هناك إلا صحراء إسمنتية خارج المؤسسات وذوقها، ويتطوعون بالدعس على الزهور البرّية التي تكسر غطاء الإسمنت من الأسفل فوراً. وأنا آسفة على السخرية، فأنا من الأشخاص المؤمنين بأنه، في أي مكان في العالم، هنالك حركات ثقافية "بالأسفل"، بعيداً عن المؤسسات الكبرى. حركات تجعل الثقافة تأخذ اتّجاهات جديدة وتسبق المفهوم الثقافي لدى المؤسسات بعقود. والإنترنت باتساعه وبانعدام الرقابة عليه يمنح مساحات ومنابر لهذه التجارب. كانت تأتيني اتهامات وإهانات أسوأ أيضاً، وصل حدّ أن "المنافحين عن الثقافة العربية الراقية" اتّهموني بالتعهّر وبأنني ألبّي طلبات السّوق وأن الجودة لا تعني لي شيئاً، وأنني ألهث وراء المال فقط. على الأقل هذا الاتّهام الأخير قادر أن يضحكني قليلاً، ضحكة قصيرة جداً بصوت حاد وهستيري، تليها فوراً نوبة مغص. لقد ترجمتُ كتاب عبّود سعيد الأول دون أي مقابل مادي، بل حتّى مرّتين: مرّة إلى الألمانية ومرّة إلى الانكليزية (بمساعدة صديقي الفنّان الأميركي نيك كوزماز). "أهااا!" هنا ينهض شيرلوك هولمز الثقافة العربية الراقية، فيقول "معنى ذلك أنّه كان عملاً خيرياً!" لأ! "لا أعمال خيريّة في الأدب"، هنا أوافق مع النص بنفس العنوان لجمانة مصطفى الذي اقتبستَ منه في الجزء الثاني لسلسة مقالاتك هذه، والذي برأيي ضعفه الكبير هو التكبّر والتعميم غير القابل للتحمّل في كل سطر. صدّق أو لا تصدّق: كان فقط إيماني وحماسي بما أرى في هذه النصوص من جودة هو ما دفعني إلى ترجمتها. أيضاً، لم تدفعني مؤسسات كبيرة بأجنداتها المخفية أو المعلنة، أجندات أنفذها أنا بشكل واع أو غير واع. إذاً لا عوائد مادية ضخمة، ولا أعمال خيرية، ولا مؤسسات كبيرة، لا يبقى إلا ذوقنا الرديء كدافع لنا. ربما ذوق الكثير من المثقفين الألمان رديء أيضاً. يمكن! بصراحة أتخيّل أنكم لو تجيدون قراءة كلاسيكيات الأدب الألماني ذات الشعبية بالعالم العربي كبرتولد بريشت بلغتها الأصلية، لكنتم تكرهونه لأن بريشت أيضاً كان يتمرّد ضد الثقافة الراقية وتصوّراتها في زمانه، وكان يكتب بعض نصوصه بلغة العاهرات وعمّال الميناء".

لم أشأ أن أرد على انفعال هتزل بطرح مزيد من الأسئلة، كانت كلماتها المتدافعة تشرح الكثير: "وعن الاتهام العبثي باللهاث وراء المال: أتفهّم طبعاً أن كلّ شعب وكل لغة ترى نفسها مركز الكون، لكن لا بد من التذكير أن نشر أدب عربي في ألمانيا ما يزال مغامرة مادية بالنسبة للناشر، خاصّة إذا كان أدباً عربياً "بديلاً"، كما أحبه أنا، وخاصة إذا كان شكل الكتاب غير كلاسيكي، أي لا يندرج تحت صنفي الرواية أو السيرة الذاتية، بل يلعب بالمستويات وبالتصنيفات، مثل الأعمال التي ترجمتها. ودعني أوّضح: دار ميكروتيكست هي دار صغيرة جدّا ضمن مشهد ألماني يسمى بـ"دور النشر المستقلة"، وهي دور نشر صغيرة وغالباً جديدة، تتابع بإصداراتها جمالية خاصّة، وترفض طموح الدور الكبرى بالنجاحات الحاشدة وتحقيق أقصى قدر من الربح، وليست ممتَلكة لدور نشر كبرى أو شركات. بالمقابل، لميكروتيكست وأمثالها حريّة أكبر وقدرة على التجريب مع أشكال جديدة من الأدب لا تجرؤ عليه الدور الكبرى. في النهاية، هناك سلسلة اتهامات لعبّود سعيد وعسّاف العساف: بأنّهما باعا نفسيهما للغرب، وأنّهما كتبا أشياء تلعب على وتر تأثّر المتلقي الغربي البليد (والذي يموّلهم بالضرائب التي يدفعها، يا للويل!)، لأنّهما يريدان الحصول على اللجوء وعلى مال المؤسسات الأوروبية. بغض النظر عن جودة نصوص هذين الكاتبين، من الصعب القول بأنهما حاولا إثارة شفقة أحد. ذوقي، مهما يكن رديئاً، لا يسمح بذلك، لا يميل لمنطق الشفقة أبداً، ونصوص عبّود سعيد وعسّاف العّساف مليئة بالسخرية القارصة، وهما لم يكتبا لجمهور غربي أصلاً، ولا ترقّبا أن تترجم كتاباتهما على الفيسبوك أصلاً. برأيي الاتّهام الضمني بأنني أنظر إلى هذه الأعمال الأدبية وإلى كتّابها نظرة استشراقية، والاتّهام الموجه ضد الكتّاب بأنهم استسلموا لهذه النظرة، هراء كبير".



ثمرة اللحظة الفريدة
(*) إذاً ما هي أنواع الكتابات العربية الجديدة التي يُقبل عليها القارئ الألماني اليوم؟ ولماذا في رأيك؟
صحيح أن الاهتمام الألماني بالكتابات العربية زاد في السّنين الأخيرة وما يزال، الأمر الذي لا أراه بالسلبية نفسها التي تصفها بها. في السنوات الأخيرة القليلة أصبح هناك، وخاصة في برلين، عدد هائل من الشبكات والتّكتّلات والصداقات بين مبدعي الثقافة من عرب وألمان، خاصة من الجيل الجديد. أظن أنّها المرّة الأولى في التاريخ التي يحدث فيها مثل هذا الاهتمام الحقيقي والمُتساوي وواسع النطاق نوعاً ما. وللمرّة الأولى أرى هذا العدد الكبير من الشباب

العرب من مبدعي الثقافة يُعتبرون جزءاً فاعلاً في المشهد الثقافي البرليني بمبادراتهم، على الأقل في أجواء معينة. هذا الأمر حتماً سينعكس بشكل إيجابي على الاهتمام الألماني بالأدب العربي. لكن أظنّ أن علينا الانتظار قليلاً حتى تظهر كامل ثمرة هذه اللحظة الفريدة، على أمل ألا يخذلنا المشهد السياسي الأوروبي المائل إلى اليمين! لكن خارج هذه الأجواء، فانطباعي أنه لا تزال هناك فكرة مسبقة عن الأدب العربي طاغية إلى حدّ الآن عند الناشرين الألمان، وهي أن هذا الأدب هو أدب "الآخر"، وبالتالي غير قابل للتسويق، هامشي وغير معاصر. كلّما أخبرت أحداً بأنّني أترجم أدباً عربياً، الكلّ، من الناشر إلى جارتي بائعة الألبسة، يفكّر فوراً بنصوص قديمة جداً مزخرفة ومائلة للكيتش، وطبعاً يفكرون بالقرآن الكريم. يرفعون حواجبهم كإشارة احترام، لأن ما أعمله "صعب جدّاً"، لكنّه، من ناحية أخرى، غير ممتع أيضاً، لأن نوع النصوص الذي يتخيلونه لا يهمّ إلا بعض المختصّين والمهتمين بالآثار واللاهوت ولا علاقة له بسوق الأدب الدولي اليوم.


صورة "المندمج الشطور"
تواصل ساندرا هتزل حديثها فتقول: "ثم هناك أيضاً الحالات "البيّاعة" بشكل أكبر، والتي تشكّل الأغلبية أو على الأقل هي الأبرز، لكنها عادة مع الأسف لا تتقاطع مع ذوقي. هي الكتب التي تؤكّد بطريقة شعبوية على النّقاشات المَرَضِيّة أحياناً في أوروبا حول كلّ شيء عربي وتغذّيها. أحياناً ما يشارك الكاتب العربي النظرة الدونية ذاتها للمنطقة التي جاء منها، كما هي الحال مع المصري حامد عبد الصمد، الذي أصبح مشهوراً في ألمانيا بكتبه الشعبوية المهاجمة للدين الإسلامي وأتباعه بشكل تعميمي، من خلال نشر نظرياته اللاعلمية، مثلاً بأن الإسلام هو الأصل التاريخي للفاشية العالمية، تلك النظريات المحبوبة جداً لدى اليمينيين الذين يرون في عبد الصمد "وشهد شاهدٌ من أهله" مؤكِّداً لنظرياتهم بأن هؤلاء المهاجرين المكروهين غير قابلين للاندماج بطبعهم. لاحظ: ناقدون جادّون للدين الاسلاميّ، مثل صادق جلال العظم، لا يعرفهم أحد في ألمانيا إلا بعض المختصين، لأنهم لا يقدّمون أجوبة بسيطة. وأحياناً هناك كتب تُقرأ فقط بسياق يميني أوروبي، لأنها تضرب بنصوصها، حتى لو مصادفةً، على عصب أوروبي مريض. ومن التجارب القريبة لي، نشرت دار أولشتاين الألمانية الضخمة سنة 2015 مقالات المدوِّن السعودي رائف بدوي المعتقل في السعودية، مجمَّعة في كتيّب صغير

بعنوان "ألف جلدة لأني أقول ما أفكّر"، وكلّفوني بترجمته. ثم تُرجم الكتاب من الألمانية إلى الكثير من اللغات، وفي ألمانيا حقق مبيعات عالية جداً، آخر رقم أتذكره كان 50 ألف نسخة، وكان على قائمة الـ"بيست سيلر" التابعة لجريدة "دير شبيغل"، وهي أداة ومؤشر بنفس الوقت لنجاح كُتُب في ألمانيا. لنكن واضحين: أنا طبعاً مع كل الكتابات التحرّرية والثائرة ضد سلطات تضطهد الإنسان، إن كانت دينية أو جندرية أو اقتصادية وأدعم نشرها وبشدّة، لكن بما أن موضوعنا هنا هو سوق الأدب، أردت أن أسلط الضوء على آليات عمل هذه السوق وديناميكيات التلقّي. يا عماد: ليت المبيعات كانت عالية من باب التضامن والإنسانية مع مدوّن عربي معتقل! ليت نشر "أدب الطوارئ" مشروع ناجح و"بيّاع"، كما تقول! السبب الحقيقي لنجاح كتاب رائف بدوي بالذات كان، من وجهة نظري، أنّ موضوع أغلب مقالاته، أي العلمانية والليبرالية، وكيفية تقديم هذا الكتاب في ألمانيا، تَناسبا بشكل ممتاز مع النّقاش الجاري حول الإسلام. مَنْ سجن رائف بدوي بعد أن استفزّته مقالاته بالنسبة للقارئ الألماني يمثّل الإسلام، ورائف بدوي، الذي هو واحد من عدد هائل من المدوّنين العلمانيين العرب على صفحات مثل الحوار المتمدِّن، قُدِّم كحالة فريدة تماماً في المنطقة العربية، كأنّه الشجاع العربي الوحيد الذي تجرأ أن يكتب نقداً ضد الإسلام الوهّابي. رغم أن لها أن تكون معلومة أهم وأجدد بالنسبة للألمان، أنه على العكس، هو واحد ضمن موجة كبيرة! لكن يبدو أن البشر يفضّلون الصور البسيطة، وفي النهاية، فهو أكيد أفضل للمبيعات، إذا بالغنا في وصف التباين بين رائف ومحيطه الثقافي "المتخَلِّف" بعض الشيء.
ونهاية، هناك نوع آخر من الكتب، في أغلب الأحيان لم يكن لمن كتبوها فعلاً أي علاقة بالكتابة قبل وصولهم إلى ألمانيا (الأمر الذي برأيي ليس جريمة أبداً، فكلّ كاتب بدأ بالكتابة يوماً ما) لكنّهم يجسّدون كلّ ما يريد أن يراه الألماني فيهم، مهما كان مهيناً، من صورة اللاجئ المفضّل، إلى صورة ’المندمج الشطور’. فهذه السوق موجودة أيضاً. هناك عدة أسواق وتقريباً لا تتقاطع. وبالمناسبة، فقط لفهم الفرق بين هذه السوق وسوقي: مبيعات نسخ كتاب عبّود سعيد "أفهم واحد على الفيسبوك"، الذي أعتبره كما وصفته "قصة نجاح"، وصلت إلى 1500 نسخة".


(*) أنشأتِ مؤسّسة ووكالة أدبيّة ودار نشر باسم 10/11 لترجمة الأدب الذي ظهر بعد الرّبيع العربي، ولديك كُتّاب عرب من بلدان مختلفة مثل سورية ومصر والعراق على قوائم هذه الوكالة الأدبية، ما هي الاختلافات التي تجدينها بين أدب هذه البلدان اليوم: سورية ومصر والعراق مثلاً؟
هذا السؤال من نوع "أسئلة للخبراء"، التي عادة أحبّ التهرّب منها، لكن دعني أولاً أصحّح بعض الأشياء: لم أؤسس مؤسسة بل جمعية ثقافية لم تدخل حيّز التنفيذ بعد. أما عن الدار، فالفكرة الأساسية كانت دار نشر عربية بين بيروت وبرلين تطبع كتبها في بيروت، وتوزعها في مكتبات مختارة في العواصم الأوروبية والعربية، وتركّز على الأدب العربي الجديد، وتنجز أيضاً ترجمات لكتابات عالمية إلى العربية، وتوكّل كتّاباً مختارين بكتابة كتب عن مواضيع ذات أهمية. كل هذا حالياً - ما عدا كتابَي رشا عبّاس وعسّاف العسّاف - ليس إلا كلام. لكن فيما يخصّ الوكالة، فهي بصحّة جيدة نسبياً. أولاً، حقيقة ليس لدينا أحد من العراق إلى حد الآن، ورغم أن اسم 10/11 (أو عشرة/حدعش) فيه إشارة مقصودة إلى سنوات بداية الربيع العربي، لكن اختياراتنا لا تقتصر على الكتابات التي ظهرت بعده، بل الفكرة أكثر عن الاحتمالات التي كانت هذه الفترة التاريخية تبدو أنها تتضمنها: إمكانية إسقاط الواقع الراكد القاتل. في العامين 2010 و2011 كلّ شيء كان يبدو ممكناً، وأرى من الجميل ومن المهمّ أن نحافظ على هذه الفكرة عندما نفكّر بالعالم العربي. الآن، ما يخصّ سؤالك عن الفروقات: لم أزر مصر بعد، لكن هكذا من بعيد يبدو لي المشهد المصري الثقافي بالعموم أغنى وأكثر تنوّعاً وثقة بالنفس من المشهد السوري (عذراً يا سوريين!)، الأمر الذي برأيي له علاقة بحجم البلد وزيادة منسوب الحرّية القليل الذي كان موجوداً في مصر مقارنةً بسورية، أو هذا انطباعي، كما يلعب الإنتاج الثقافي الحيوي جدّا في مصر بالقرنين العشرين والواحد والعشرين دوراً في ذلك، من الثقافة الشعبية إلى الثقافة الراقية.



كُتَّاب مكتفون بوظيفتهم كلاجئين!
(*) لكن هناك حالة من التّساؤل حول القيمة الأدبية التي على أساسها تدعم المؤسّسات الألمانية هؤلاء الكُتّاب العرب الجدد.

أتابع تلقّي الوسط الثقافي العربي لعملي وأعلم جيّداً أنّ "البعض" دعنا نقول، ليسوا راضين. مع ذلك أرفض معظم اتهاماتهم كما شرحت سابقاً، عدا اتهام الذائقة "الرديئة" ربما. لا مشكلة لدي في اختلاف الذوق، غالباً كنت سأشعر تجاه اختياراتهم بالشيء نفسه. مع أن بإمكاني الكلام بشكل ملموس أكثر عن الكتّاب الذين ترجمت أعمالهم: طبعاً عثرت على عددٍ لا بأس به من النصوص المنشورة مؤخّراً في ألمانيا، لكتّاب عرب وسوريين ترجمت أعمالهم، ورغم افتراضي أنها ترجمات تجميلية بعض الشيء، إلا أنها ما تزال رديئة المضمون ومملّة، كما جاءتني الكثير من الطلبات من طرف مؤسسات، أزعجتني كثيراً. مرّة مثلاً في معرض الكتاب بفرانكفورت ركضت باتّجاهي سيدة ألمانية خمسينية أعرفها معرفة عابرة، ولم أفهم إلى اليوم ما دورها تماماً، حيث أني فقط أرى اسمها دائماً على قوائم أعضاء هيئات ولجان تخصّ الأدب، كان ذلك في 2015، وعندما لمحتْني السيدة، قفزت أمامي وصاحت بعينين لامعتين: "آه، أنتِ أيضاً هنا؟ أنت تعملين مع هؤلاء "الريفيوجيز"، أليس كذلك؟ هل من الممكن أن تعطيني بعض الأسماء؟" فعلاً، قالت كلمة "لاجئين" بالإنكليزية. طبعاً كانت قد قرأت أنني ترجمت أعمال بعض الكتّاب السوريين الذين كانوا قد لجأوا إلى ألمانيا، وهي ترجمت هذه المعلومة في رأسها على أنني نوع من "السوشل وركر"، أي عاملة اجتماعية. شعرت ببعض الغثيان وقلت لها مسرعة: "لا، لا أعرف أحداً بهذه المواصفات". أنا متأكدة بأنّها في النهاية وجدت الـ"ريفيوجيز" الذين كانت تبحث عنهم، أي كُتَّاب يكتفون بوظيفتهم كـ"لاجئين"! بهذا المعنى: نعم. مثل جميع المترجمين عن العربية في ألمانيا، كنت شاهدة على الظاهرة التي تشير إليها بسؤالك: فجأة كانت هناك مبالغ هائلة لكلّ المشاريع بكلّ المجالات التي تتعلّق باللاجئين، ونعم: كما هي الحال بالكثير من المشاريع المموّلة، كان على المال أن يُصْرَف بسرعة خيالية لمراعاة الإطار الزمني من طرف المموّل. أو مثلاً، عندما دعتني مديرة مؤسسة كبيرة ومحترمة جداً لدعم الترجمات الأدبية، دعتني أنا ومترجمة أخرى إلى اجتماع، لأنهم فجأة حصلوا على مبلغ هائل لمشروع اجتماعي مع لاجئين، ولم يعرفوا أبداً ماذا عليهم بحق الجحيم أن يفعلوا بهذا المال، لأن العمل الاجتماعي ليس مجالهم! وبأحسن الأحوال نُسأل نحن المترجمين لترشيح أسماء، وبأسوأ الأحوال يتمّ اختيار المضامين بشكل عشوائي، ثم يريدون منّا أن نصلح ونصنع شيئاً مقبولاً من شيء يكون بالأساس رديئاً إلى حدّ الرعب. نعم، أنا أوافق. الاهتمام المؤسساتي بهذا الشكل يخلق تشويهاً. وفعلاً كان هناك اهتمام مفاجئ ومتضخّم بمبدعي الثقافة العرب وخاصة السوريين في ألمانيا. كنت تشعر أن كلّ مؤسسة تريد "السوري الخاص بها"، الآن، وبسرعة! حدثت الأخطاء. وبالتأكيد وجود هكذا مبالغ مالية لا يجذب فقط الفن الجيّد، بل ويغري الانتهازيين أيضا. وسبب هذا التضخّم بديهي نوعاً ما: فموجة اللاجئين الهائلة هي أهم ملف سياسي لهذا العقد في ألمانيا. كانت هناك حالة فوضى، الكل كان يصرخ: اندماج! الكل كان يريد أن يثبت أن كل شيء سيكون على ما يرام، على الأقل داخل فقاعتي اليسارية، والكل يريد معرفة من هؤلاء القادمون. بالمقابل لا أرى أنه ستكون لهذه الهستيريا تداعيات سلبية على الثقافة العربية، لأن الـ"مستحقّين" في النهاية سيحصلون على الدعم، لأن هذا موضوعنا هنا، أليس كذلك؟ بالتأكيد هناك بعض الأسماء ظهرت فجأة وحتى لو بذلنا جهداً كبيراً لن نستكشف أين هي الجودة الفنية فيما يعملون. لكن في المقابل، كلّ النخبة الثقافية السورية الناشطة ثقافياً بكل شِلَلها تقريباً تُقيم اليوم في برلين. اليوم هنالك جالية عربية شابة هائلة من الناشطين ثقافياً، ودفعات كاملة لكليّة الفنون وللمعهد العالي بدمشق وجدوا أنفسهم في برلين. وليسوا سوريين فقط، بل كثير من الفلسطينيين والمصريين وغيرهم من العرب أيضاً. يستقرّون في العاصمة برلين ويتوظّفون بمسارح ودور الثقافة الألمانية. الاهتمام الهستيري من طرف الألمان ساعد بأن يصل الكثير من المبدعين العرب المعروفين و"المندمجين" الآن بشكل ممتاز إلى الشبكات المؤسساتية الألمانية، ما عمل على تكاثر المبادرات والأماكن الثقافية والمؤسسات العربية هنا. حتى أن البعض يهمس أن برلين أصبحت العاصمة الجديدة للثقافة العربية، ما قد يخلق طبعاً تساؤلات كثيرة، لكن بالنسبة لموضوعنا يعني أن الضوابط والتوازنات الـ"طبيعية"، التي كانت ستمنع توزيع المال والاهتمام بأماكن خاطئة، أصبحت موجودة الآن. وبهذا المعنى لا أرى أي داعٍ لأن نصرف طاقتنا ونغضب بسبب كتاب أو آخر تُرجِم على الرغم من أنه "رديء" حسب رأي البعض:

كل كِتَاب عربي مترجَم يدعم سوق الأدب العربي ولا يصغّرها. فهذه السوق مشكلتها الأساسية أنها صغيرة جداً. وبالمناسبة: أنا أيضاً أستغرب أحياناً اختيارات الكتب الألمانية المترجمة إلى العربية. هذه القناة أيضاً تحتلّها كلاب حراسة قليلة العدد: أولاً معهد غوته، الذي يرشّح الكتب التي يمول ترجمتها إلى العربية، وثانياً عدد صغير من المترجمين المجتهدين معتمدين على ذوقهم الشخصي. أما نحن في ألمانيا فليس لدينا مؤسسة عربية تموّل ترجمات من العربية إلى لغات أوروبية، إلا جائزة واحدة على ما أظن. الأموال - وبالتالي سلطة الاختيار - تأتي بما يخص النقل للألمانية حصراً من مؤسسات ألمانية، وهي المؤسسات المعدودة نفسها، التي يفترض بالمترجمين من كل اللغات تقديم طلباتهم إليها من أجل الحصول على منح الترجمة. وفي النهاية لا يقدر الأدب المترجم دائماً إلا على تسليط الضوء بشكل انتقائي على بعض الأعمال لمنطقة أو أخرى. هكذا تتبلور الأولويات حسب كل بلد، وغالباً ما يكون أساسها معايير غير أدبية، مثلما هي الحال بتلقّي العربي الخاص لكافكا مثلاً، أو تلقّي بريشت في سورية الاشتراكية الشقيقة.



(*) وماذا عنك أنت، ما هي القيم الأدبيّة التي تحاولين تقديمها للقارئ الألماني من خلال ترجماتك للأدب العربي الجديد؟
حلمي أن أساهم من خلال عملي في إخراج الأدب العربي أمام المتلقّي الألماني من زاويته الأكاديمية النخبوية المغبرّة، مع أنني صرت على شبه اعتقاد بأن هذا الشيء سيحدث في أي حال من دوني، بسبب التطوّرات الجديدة في ألمانيا التي ذكرتها أعلاه. أبحث عن نصوص ومشاريع كتب عربية، تقنعني بجماليتها وتصلح بأن يتلقّاها القارئ الألماني بمرجعياته كنصوص مثيرة وحديثة وذكية، ولأنني أيضاً قارئة ألمانية، لا يمكنني أن أميّز جيداً بين هذين المعيارين. أحلم بكتب عربية جميلة مترجمة تصبح لها فعلاً شعبية في ألمانيا. أنا منفتحة على أشكال أقل تقليدية للكتابة. أحياناً أحبّ نصوصاً تلاعب مستويات مختلفة للغة، أحب نصوصاً تفاجئني حتى بالتأمّلات الأقرب لليوميّات وتشعرني بأنها تسبقني بقدرتها على قول ما لا أستطيع قوله أو حتى التفكير به.

*****

 في أكثر من موضع من هذا الحوار، أردت التدخّل وتصحيح بعض الأمور أمام ساندرا هتزل، لكنني وجدت أيضاً أن دفاعها المستميت عن اختياراتها في الترجمة حق مشروع، ورؤيتها الخاصة لبعض الاتجاهات الجديدة في الكتابة السورية أو العربية اليوم أيضاً حق مشروع، لكن تظل آراؤها هنا محرّضة أيضاً على الاشتباك معها رفضاً أو اتفاقاً، وهو ما ندعو إليه قراءنا من الفاعلين في الوسط الثقافي السوري والعربي والألماني، في محاولة لإثراء ملفنا هذا بآرائهم ووجهات نظرهم فيما يخص سوق الأدب العربي في ألمانيا اليوم.