Print
ميسون شقير

صفاء فتحي.. شاعرة الموت والفلسفة

18 أغسطس 2019
هنا/الآن
وضعت نفسها في المسافة ما بين الحلم وظله فينا، وما بين النزوع للهروب من بلاد تأكل فينا قلوبنا، وبين البقاء بقية العمر على حافة الحنين. تركت مصر وهي في الثانية والعشرين قاصدة حلماً يركض أمامها بأن تجد في نفسها ذاتها، وبأن تخرج من إطار المرأة المنكسرة القابلة لكل شروط مجتمع وبلاد يتسابقان في قص أجنحتها. إنها الكاتبة والمخرجة والباحثة الأكاديمية المصرية صفاء فتحي، التي قالت يوماً: "هاجرتُ من مصر لثلاثة أسباب، أولها أني كنت ناشطة في اليسار المصري، وفي ظل نظام قمعي وبوليسي لا يمكن التعايش معه، وثانيها أن أبي كان جنرالاً في الشرطة المصرية، وثالثها وأهمها أني كنت فتاة من الصعيد".
وافتتحت صفاء فتحي، الشاعرة والأكاديمية المصرية المقيمة بباريس، الأمسية التي نظمها "البيت العربي" بمدريد، وذلك لتوقيع ترجمة كتابها الأخير "حشيش"، وحاورها فيها المستعرب الإسباني فرنثيسكو رودريجيث سييرا، أستاذ الثقافة العربية بجامعة أوتونوما دي مدريد.


صفاء فتحي الحاصلة على شهادة الليسانس في اللغة الإنكليزية من جامعة القاهرة في مصر،
جاءت إلى فرنسا وهي لا تعرف اللغة الفرنسية أبداً لكنها تحدّت نفسها، وتحدّت ضعفها وغربتها ووحدتها وقررت استكمال دراستها في ثمانينيات القرن الماضي بجامعة هي من أشهر وأصعب جامعات العالم - جامعة السوربون عام 1981 حيث اتجهت لدراسة المسرح، وأكملت دراساتها في فرنسا وحصلت منها على درجة الدكتوراه عن الأطروحة التي تقدمت بها وموضوعها المسرح الملحمي الجديد في إنكلترا.
وهكذا بدأ هذا المشوار في طريق وعرة لكن بعض الورود كانت تنتظرها على جوانب هذي الطريق، ففي عام 1987 عملت ولأول مرة كمخرجة مساعدة بالمسرح في ألمانيا الشرقية وقتئذ، لتدخل عالما آخر لم تتوقع أن تكون فيه يوما، وأن تحقق فيه جزءاً من بحثها عن ذاتها فيها. بعد سقوط سور برلين عام 1990 عملت صفاء مع المسرحي المعروف هاينر ميلر لتجد الكثير من روحها في هذا العمل ولتتجه للإخراج السينمائي، ولتفتح على ذاتها وعلى العالم نافذة أخرى، وكاميرا، والكثير من الضوء.
عن هذه السنوات في ألمانيا الشرقية تقول صفاء: "عشتُ في ألمانيا الشرقية لمدة عام قبل سقوط السور، كنت أشتري الجريدة اليومية من ألمانيا الغربية وأعبر بها إلى ألمانيا الشرقية وأنا خائفة من القبض عليّ. في تلك الفترة كنت ألتقي بأصدقاء عن طريق التلغراف".
في هذه الفترة من حياتها، وبالإضافة للإخراج السينمائي، كتبت صفاء الشعر والمسرح والدراسات الكثيرة لكن لم تكتب الشعر عبثا بل كتبته بعد التعمق والمعرفة والقرءات الكثيرة وبعد دخولها لعالم شكسبير الذي غير في روحها وأقام فيها زلازل لن تهدأ الا بالكتابة من جديد. تقول صفاء: "منذ بدأت بدراسة شكسبير والأدب الإنكليزي بهرني موضوع كيف تستطيع الكتابة أن تجعل الناس في حالة كلامية من دون كلام، وكان ذلك بداية انبهاري بالمسرح"، وهذا ما جعل صفاء تكتب "ثورة وحائط نعبره"/ مجموعة باللغة العربية، "اسم يسعى في زجاجة"/ مجموعة شعرية صدرت باللغتين، "الحشيش"/ كتاب شعري يرافقه فيلم، "الوادي الخفي"/ جمع باللغتين الإسبانية والألمانية، "حيث لا نولد"/ جمع باللغتين العربية والفرنسية، "عرائس خشبية صغيرة تسبح في سموات المنيا وبرلين" وهو مترجم لثلاث لغات، و"ليلة" المجموعة التي أثارت الكثير من الجدل.
وجاءت كتابتها كبئر ارتوازية كان قد تجمع طول عمر في أعماقها، وعند أول حفر في داخلها انفجر ولم يتوقف، انفجر بماء طازج طالع من طبقات ما تحت القلب، لتأتي قصائدها مختلفة، وشديدة الخصوصية، ولعل أهم ما ميزها هو هاجسها بالموت كما لو كانت كاميرا اقتصرت وظيفتها على رصد وتوثيق طريقة ذهاب أحبّائها إلى موتهم. وقد قالت في عملها "اسم يسعى في زجاجة": "وأقتفي أثرك وأتركك فقط كي أعود، أريد أن أقول (لكم) أنا لا أعرف الطريق إلى الجنة". لكن هذا لا يمنع من تفكيك ذلك "الموت" الذي حدث والعمل على إعادة ترتيبه وتوثيقه في محاولة لفهم وتتبع مسار تلك الخطوات التي وضعها الراحلون وهم في الطريق إلى موتهم. تسجيل كل ذلك يتم عن طريق الصورة التي تأتي مكتوبة كما لو أنها تعبير عن "ما
فاتني، وعن دمي الذي ضاع". ومسألة إخضاع صورة الموت لطائلة التوثيق ستكون ظاهرة عبر مفتتح الديوان والإهداء المدّون عليه: "إلى محمد"، شقيق الشاعرة الذي مات بالفشل الكلوي والذي أنتجت فيلمها الأول عنه.
كان أجمل وأغرب ما قالته صفاء عن نفسها، وما يميزها ويميز طريقة تفكيرها، هو هذا الاعتراف الذي لم نسمعه من كاتب قبلها في حديثها عن الكتابة إلى ما يجب أن يفعله الكاتب: "يجب على الكاتب أن يعتذر عن كتابته، إذ من يكون الكاتب في الحقيقة حتى يكتب كتاباً يوجهه للقارئ؟"، ولعل هذا الانشغال بسؤال من هو الكاتب هو مربط الفرس في جودة أعمال صفاء فتحي، في تعاملها شديد الجدية مع الكتابة باعتبارها فعلاً مقدساً. وهي مخلصة للغة التي تكتب بها بكل تفاصيلها: "أكتب بالعربية والفرنسية، وفي كل لغة تتغير كتابتي"، وتضيف: "بالفرنسية أكتب عن اليوميّ لأني أعايشه، وبالعربية أروح بعيداً لأني لا أعرف اليومي".
ولعل فعل الكتابة هذا لم تستعمله صفاء قبل أن تواجه نفسها بنفسها، وقبل أن يواجه قسوة بلاد طحنتها، فتقول "لكني نضجي الفني لم يحدث إلا بعد أن تخلصت من صراعاتي. صراعات من بينها تعمّد ألا يعيّنونني في الجامعة المصرية وحتى بعد أن حصلت على الدكتوراه من السوربون وحاولت العودة إلى مصر، منعوني من التدريس وأغلقوا أمامي كل أفق".


مفاعيل فرصة اللقاء بدريدا
كل هذه التحولات في حياة صفاء فتحي هي مفارق حقيقية تدير إليها جهة القلب، لكن الفارق الحقيقي الذي غير الكثير من روحها ليس صدفة كما يعتقد أو يقول البعض، بل هو في الحقيقة تلك الفرصة التي يستجيب لك فيها الكون حين تدعوه بكل نقاء وعمق لأنه يدلك على نفسك أكثر،  تلك الفرصة التي تجعل الكون يدبر لك لقاءات مع أشخاص يغيرون كل ما فيك ويكملون فراغاتك بامتلائهم، وتكمل أنت امتلاءهم بلونك المتوهج فيك. تقول صفاء: "الحدث الذي غيّر حياتي جاء بالصدفة، كنت في البيت عقب الانتهاء من الدكتوراة، فجاءني تليفون من صديق يخبرني بأن الفليسوف الفرنسي الحديث جاك دريدا (1930-2004) مؤسس الفلسفة التفكيكية، سيلقي محاضرة في جامعة السوربون. حينئذ دخلت القاعة ولم أخرج منها إلى الآن".
نعم، لم تخرج صفاء من محاضرة جاك دريدا، لم تخرج من فكره، من نظرته العميقة والتحليلية لكل ما حوله، لم تخرج من نظريته في تفكيك النص، وفي تفكيك كل ما عاشت وتعيش، لم تخرج من البحث عن الأشياء في نقيضها، وعن نقيضها فيها، لم ولن تخرج من

تأثيره فيها وفي كل ما ستنتج بعد ذلك. تقول صفاء: "أحياناً لا يعرف الفرد إلى أي مدى يمكن أن يؤثر فيه الآخر. لكن المؤكد أن جاك دريدا أثر حتى في اهتمامي باللغة والمفردة وتراكيب الجمل، خاصة بعد أن تعاملت مع لغته التي تبحث في العلاقة بين الكلمات وتشكيلها لمعنى جديد وانفتاحها على معانٍ أخرى".
وحين سئلت مرة عن كيفية دخولها عالم دريدا المدهش قالت: "ذات مرة أعطيته مخطوط مسرحية ليقرأه، ثم، ودون أن أسأله، اقترب مني وعبر عن إعجابه بالمخطوط، وهكذا وفوراً أصبحنا صديقين، دريدا رجل شديد التواضع والدماثة، ومع تطور التقرب العائلي بيننا، صار كل منا صديقاً لعائلة الآخر".
صداقة غريبة بدأت تنمو بين صفاء وجاك دريدا، صداقة عميقة مدهشة، كأنما كل منهما وجد ظلا لطريقة تفكيره في الآخر، وقد أزهرت الصداقة هذه ثقة مباغتة جعلت دريدا يعطيها حق ترجمة كتابه "ما الذي حدث في 11 سبتمبر/ أيلول 2011" إلى اللغة العربية وذلك حتى قبل أن يصدر بأية لغة أوروبية أخرى بما فيها لغته الفرنسية. لكن صفاء الخلاقة لم تكتف بنقل النص كما هو، مثلها مثل أية مترجمة كان يكفيها أن تترجم دريدا، لكن قامت بما يشبه الكتابة عن الكتاب، قامت بكتابة كتاب جديد هو ما جاء في مقدمة مستفيضة للكتاب المترجم بلغت 38 صفحة، وقد أعطت الكتاب أبعادا جديدة أدهشت دريدا نفسه كما صرح.
بعد ترجمة الكتاب شغل صفاء هاجس آخر، هاجس توثيق حياة شخص مؤثر في الفكر الفلسفي العالمي، وهكذا شرعت في عمل فيلم وثائقي عنه، وهو الفيلم الوثائقي الوحيد عنه، وبدأت في كتابة سيناريو الفيلم، الذي استغرق منها الكثير من الجهد والبحث المضني، ولكي تضيء أكثر على هذه الشخصية وعلى طريقة فلسفتها للحياة وللإبداع، نشرت مع الفيلم وبنفس اليوم كتابا تعتبره الأهم. تقول صفاء "وعلى هامش الفيلم كتبت كتاباً عنه عندما طلب مني أن أؤرشف خطاباته الشخصية".


الشعر مقاومة للموت
عرضت صفاء، أثناء الأمسية التي خصصت لتوقيع ترجمة كتابها "حشيش" إلى الاسبانية، عدة قصائد باللغة الفرنسية لها مسجلة بصوت جاك دريدا، وكانت قصائد غلب عليها سؤال الموت وتصوراته. ثم علقت: "الموت سؤال جوهري في عملي، وهذه القصائد تحكي عن الموت الذي رأيته وأنا صغيرة جداً، وبسبب الموت كتبتُ الشعر، إذ إن كتابة الشعر مقاومة للموت، فالكتابة فعل موت، الكاتب ميت والكتاب حي. الشعر مضاد للفناء، وكما للحياة أجل، فللكتابة أجل. وهذه الموضوعات كانت تهمني قبل حتى أن أبدأ الكتابة، لقد نشرت متأخراً بعدما تحررت من صراعاتي، وخجلي".


الثورة بمصر
لا تزال موجودة
أنهت صفاء أمسيتها بتجربتها المؤثرة في عمقها وهي مشاركتها الحقيقية بثورة ميدان التحرير في مصر اذ إنها بالصدفة كانت في الميدان لكنها تعتبرها من أهم الصدف في حياتها.
عن هذه التجربة تقول صفاء "احتللت الميدان بجانب الثوار الشباب الحالمين الرائعين المنظمين الشغوفين بالحياة وبالتغيير، وبجانب العديد من الكتاب والكاتبات المصريات مثل الكاتبة نوال السعداوي، وخلال 18 يوماً لم أفارقه إلا قليلاً، ربما للاستراحة في دار ميريت، حيث كنت

أنام بعض الساعات أو أتناول أي مشروب، هكذا قضيت في التحرير كل أحداث الثورة وظللت أتابع الأحداث حتى وصول السيسي للحكم"، لكنها تتوقف، تأخذ نفساً عميقاً وتكمل: "حينها أدركت أن الحراك الثوري انتهى، وهو ما تأكد سريعاً بعدما أحرق كل شيء". تتوقف مرة أخرى وتكمل: "لكن الأكيد أن الثورة لا تزال موجودة".
وعن تحول بعض المثقفين المصريين المناهضين لمبارك إلى تأييد السيسي، تقول صفاء: "بالعودة إلى الوراء قامت الدولة القومية على أكتاف العسكر، ما خلق علاقة بين الكاتب القومجي وما تمثله الدولة العسكرية، ثم نأتي لمعضلة أخرى: العداوة المتبادلة بين المثقفين والإسلاميين. لقد كان وصول مرسي للحكم مرعباً بالنسبة للمثقف، خاصة بعد التحالف الواضح بين العسكر والإخوان. خلق حكم الإخوان حالة من السيولة وكان المثقفون على يقين من أنهم لن يرحلوا، جاؤوا بالانتخابات ولن يرحلوا بها، كل ذلك في ظل غياب بديل مدني".
تلك هي صفاء فتحي، الشاعرة والفيلسوفة والمخرجة العربية المصرية، التي لن ترحل منك إذا التقيتها، أو إذا قرأتها، أو شاهدت أعمالها، مثلما لم ولن ترحل منا يوماً بلاد تحمل على أكتافها سبعة آلاف عام من الحضارة، ومليون حلم جريح يلاحقنا كظل طويل.