Print
صدام الزيدي

"أدب الفيسبوك": إبداعٌ أم تكريس لوهم؟ (2)

23 يوليه 2019
هنا/الآن
لا يختلف اثنان حول الطفرة الكبيرة التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي، على صعيد انتشار الكتابة الأدبية في فضاء من حرية شبه مطلقة، متجاوزةً كثيراً مما كان يطوّق الأدب العربي في مساحات محدودة وفي جماعات وشلل، ناهيك عن قيود النشر وطباعة الكتاب ومقص الرقابة وغيرهما.
في المقابل، ماذا عن النص الرديء (المشوّه بالأغلاط والنتوءات) الذي يُنشر في فيسبوك وواتس آب وغيرهما على نطاق واسع؟. هذا النص، الذي يتناثر على شعاب ومساحات لا نهاية لها فاتحاً الباب على مصراعيه لأشباه كُتّاب وللسرقات الأدبية ولموجة من التكرار والتناسل والتناسخ والتساقط، ما هي عيوبه ومخاطره لا سيّما وأنه لا أحد يراجعه أو يقوِّم اعوجاجه إذا ما أخذنا بعين الاعتبار حجم "اللايكات" والتعليقات على مثل هذا النص، عندما تنبني على مجاملة شخصية ودوافع شللية أو تنساق في طابعٍ عفويّ واستهلاكيّ على نحو: "جميل، مبدع، مدهش، نص رااائع".. وهل تبني هذه الوسائل مبدعاً أم تصنع وهماً؟
يرصد منبر "ضفة ثالثة" في هذا الملف الخاص آراء عدد من الأدباء والنقاد العرب من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي، والذين انقسموا إلى فريقين: فريقٌ يحذِّر من "نص سمته الرداءة والاستسهال والاستهلاك، مليء بالأخطاء، لا علاقة له بالإبداع والمعرفة"، وفريقٌ ليس بمقدوره إنكار أن "الرداءة والشللية موجودتان في الفيسبوك وخارجه وبين المبدعين وغيرهم"، لكنه في الوقت عينه يزعم أن "الفيسبوك هو آخر ملجأ للإنسان العربيّ لكي يعبِّر عن أفكاره أو نصفها أو ربعها أو حتى جزءاً يسيراً منها".
هنا الجزء الثاني:

 

الشاعر والأكاديمي المصري حاتم الجوهري:
نصوصٌ عيوبها التكرار وافتقاد التجربة!
شيوع وسائل التواصل الاجتماعي مؤخراً وسهولة استخدامها والولوج لها من الهواتف المحمولة، صاحبه على المستوى الأدبي انتقال بعض الممارسات النمطية الموجودة في الواقع، بالإضافة إلى تحول الظاهرة الاجتماعية الافتراضية عموما لظاهرة مكتوبة أو مدونة، وبالتالي أصبحت الكتابة موضة رائجة.. كل شخص لديه دائرة متابعين ينتظرون ما يكتب ليهللوا له، هنا اختلط الأمر بين الكتابة الإبداعية والكتابة المدعومة من أجل صاحبها وفقط، وانتشرت

ظاهرة كتابة الروايات كالنار في الهشيم والنص التعبيري الانفعالي الذي يحسبه البعض شعراً! المشكلة أصبحت في التنميط الذي يفقد الأشياء الفرز الطبيعي. إلى جوار الاتاحة والحرية للجميع، يجب أن تكون هناك مؤسسات انتقائية تختار أصحاب المواهب الحقيقية وتفتح الطريق لهم، النصوص الرديئة شائعة بالفعل وعيوبها التكرار وافتقاد التجربة الخاصة والخبرة بالمنجز الأدبي لإضافة الجديد، واللايكات أصبحت دعما شخصيا وليست معيارا إبداعيا، بالإضافة طبعا لانتقال الشللية للمجتمع الافتراضي، ذلك لا يقدم مبدعا حقيقيا والمبدع الحقيقي يترفع بنفسه عن كل ذلك.

 

الناقد والأكاديمي اليمني عبد الحكيم باقيس:
الشللية والانحيازات الأيديولوجية والمناطقية تحاصر الأدب الجيد
من المعلوم أن وسائط التواصل الاجتماعي التفاعلي تؤدي دوراً مهماً في خدمة المبدعين بمختلف مستوياتهم في الكتابة، وهي مجال مفتوح كذلك لأن يكتب المرء ما يشاء، وكل ما قد يظن صاحبه أنه عمل أصيل، كما لا يمكن أن ننكر أن هذه الوسائل فضاء تفاعلي بين الكتّاب والقراء، وتجري فيها النقاشات التي لها أهميتها في طرح وجهات النظر الشفافة، فضلاً عن دورها الكبير في إثراء النشر والتواصل الثقافي العابر للحدود والقيود. ولأن السؤال هنا قد حدد وجهته في الأثر السلبي عند التعاطي مع "النص الرديء" الذي يصنع تفاعلاً مزيفاً يخلط بين الجيد وغير الجيد، فعلينا ألا ننكر أن الجزء الأكبر من هذا التفاعل يدخل في دائرة التلقي الشعبي الذي ليس من وظيفة أصحابه أن يقدموا وعياً نقدياً بطبيعة النص، وفي أحسن الأحوال لا يخرج هذا التفاعل عن دائرة الانطباعات الفردية الخاصة، أو التلقي الذي ينطلق من الجوانب التأثرية والذوقية، وذلك باستثناء ما قد يصدر عن كتّاب أو قراء "نوعيين" مما يجعلنا نقترب خطوات "حذرة" من الاطمئنان لآرائهم في النصوص، وأقول "حذرة" لأن القراء النوعيين يمكن أن تصدر منهم "تعليقات" بهدف التشجيع عندما يكون الكاتب من المبتدئين في الكتابة، أو المجاملة المتبادلة بين الكتّاب أنفسهم، التي لا تتجنب الحساسيات ولا تعرِّض أصحابها للحرج على الملأ، كما أن التعليقات من طبيعتها الاختصار بجملة أو فقرة موجزة تقتضيها طبيعة هذا الفضاء التفاعلي الذي قد يبدو أشبه بعملية مصافحة بين المارين في الشارع، يقول أحدهم للآخر: "نص جيد لقد اطلعت عليه"، أو "لقد زرت صفحتك البارحة" أو "رائع هذا أنا

أتابعك" وغير ذلك من عبارات التواصل التي ليس من وظيفتها تقديم التحليل والتفسير ناهيك عن الحكم على النصوص.
ولتجنب مخاطر الادعاء بقيمة النصوص "الرديئة" ينبغي النظر إلى طبيعة مصدر هذه التفاعلات ومحدودية وظيفتها، وألا يكون تصورنا في الحكم عليها وفق المبدأ الديمقراطي الكمي، فعدد "اللايكات" أو الإعجاب لن يمنح النصوص شرعية افتقدتها من الناحية الجمالية. وبهذا نكون منصفين في الاعتراف بحق الكاتب في النشر والتواصل، طالما اختار ذلك، وبحق الآخرين في المشاهدة الجماهيرية دون التأثير السلبي على قيمة الأدب الأصيل.
وفي أحيان أخرى تتحول هذه النصوص إلى ما يشبه المسودة الأولى التي تخضع لاحقاً للتعديل وفق ما قد يتحصل عليه الكاتب المبتدئ من ملاحظات إيجابية.
وهناك عوامل سلبية أخرى يتجاوز أثرها الفضاء التفاعلي، إلى الوسط الإبداعي والثقافي والإعلامي، كالشللية والانحيازات الأيديولوجية المحاصرة للأدب الجيد، والمناطقية بطبيعة الحال التي تحولت إلى فيروس خطير يدمر كل جميل في حياتنا الثقافية، مما نقله السياسيون الفاشلون والانتهازيون إلى واقعنا، فمثل هذه المؤثرات تصنع من كتّاب المجلات الحائطية والمنشورات البسيطة والتجارب المحدودة كُتّاباً عظاماً وتلك طامة كبرى.

 

الشاعر التونسي عبد الفتاح بن حمودة (إيكاروس):
الزيف الحقيقي عدم الوعي بالتشكيل البصريّ للنصوص
للأسف الشديد لا أتابع إلا ما ينشر في "فيسبوك" ولم أدخل "واتس آب" وكنت منذ أعوام قد دخلت "تويتر" لمدة أشهر ثمّ غادرته. للأسف الشديد ثمّة قليل من النصوص جيّد. وهذا يغنيني عن قراءة مئات النصوص التي لا أراها ترتقي إلى مستوى نصّ. كما أن الزيف الحقيقي هو عدم الوعي بالتشكيل البصريّ للنصوص خاصة في قصيدة النثر فتجد مئات النصوص التي

تخاتل القرّاء بنثرها في أسطر توهم بأنها تنتمي إلى الشعر في حين أنها تنتمي إلى النثر فقط لأنها تحمل قاعاً نثريّا في الأصل. لكن من حقّ أي كاتب جيّد أو متوهّم أن ينشر في صفحته ما يشاء. فالمسألة مبنيّة أيضا على العرض والطلب وعلى السّوق والبضاعة.
النصّ الرديء يكون واضحاً منذ البداية فتجد صاحبه لا يفرّق بين الضاد والظاء ويخطئ في رسم الهمزة وفي التعدية بحروف الجرّ. وأحيانا تجد فظاعة في التركيب وفي وضع المتممات في غير مواضعها خاصة المفاعيل المطلقة مثل: أيضا/ جدّا/ أبدا/ دائما/ دوما/ فقط.... إلخ.
لقد خجلت عشرات المّرات بعد أن وجدت علامات إعجاب (لايكات) وتعليقات حول نصوص متواضعة أو مليئة بالأخطاء من القراء مختصين في العربيّة أو من كتّاب. فأعثر على أخطاء كثيرة ولا أجد من نبّه صاحبه إلى الأخطاء التي وجدها وتكون عادة ظاهرة في النصّ.
فأرسل إلى الأصدقاء رسائل داخليّة كي أفطّن الأصدقاء بمحبّة إلى ذلك. فيستغربون أن البعض وضعوا لهم علامات إعجاب (لايكات) دون التنبيه إلى الأخطاء التي وردت في النصّ.
على أي حال، وفّر "الفيسبوك" وغيره حرّية لجميع النّاس. وما يبقى هو ما يُنشر في مجلاّت ورقيّة وكُتُب لأن السّرقة منتشرة بشكل رهيب.

 

الكاتب والباحث اليمني صفوان الشويطر: نصّ لحظيّ
النص في الفضاء الافتراضي هو نص خاضع لشروط إنتاج وتلق محكومة بسياق مختلف عن النص التقليدي المنشور ورقيا. فهو على مستوى الإنتاج لحظيّ ويتم تقديمه عبر وسيط له

مؤثرات بصرية خاصة ومحاط بشبكة هائلة من النصوص أو الروابط المتزامنة معه، وهو على مستوى التلقي تفاعلي والقارئ حاضر في ذات اللحظة، لذلك فهو نص غير نهائي لا يزال مفتوحاً على التعديل والإضافة. نص كهذا تذوب فيه الأجناس الكتابية وكذا الفوارق بين الأدب الجماهيري والأدب الجاد، لذا لا يمكن تقييمه خارج محدداته ووسائطه ويظل أداة تعبيرية لها جمالياتها خارج المعيارية التي تقيم بها النصوص الأدبية. 

 

الشاعر والكاتب العراقي عواد ناصر (لندن):
وسائل التواصل صوت من لا صوت لهم
وسائل التواصل الاجتماعي صوت من لا صوت لهم. الجميع ينشر ما يعني له، مثل مقهى

شعبي في صنعاء أو القاهرة أو بغداد. الجميع يتحدث للجميع. ثمة من ينصت، وإن عن بعد، وثمة من يتجاهل. من يتجاهل لا يسمع غير صوته فقط.
يعني: من حق الجميع أن يتحدثوا. نقدياً: الكثير من النصوص الأدبية، على الفيسبوك، لا يعول عليها، هي خواطر ضلّت طريقها فلم تجد غير الفيسبوك طريقاً للتعبير عن الذات.
لكن، ثمة نصوص مهمة وجميلة لكتاب وشعراء وروائيين مهمين، على قلتهم.
الفيسبوك ليس مقياساً للنصوص المنشورة، في نهاية المطاف.

 

الشاعر المغربي حسن بولهويشات:
اللايكات والتعليقات شهادات زور حقيقيّة
أصبح الفيسبوك والتويتر وغيرهما وجهة مفضلة لدى الكثير من الكتّاب وصنّاع الوجدان من أجل تنزيل نصوصهم وإيصالها إلى عموم القرّاء في وقتٍ قصير، وهو اختيار أملته شروط الحريّة التي توفّرها هذه المنصّات الاجتماعيّة، وأيضاً من أجل التحايل على البطء التي تشتغل به بعض المجلات الورقيّة والملاحق الثقافيّة، وعلى عنصر الرقابة الذي ما زال حاضراً في بعض الدوريّات الأدبيّة التي لم تستوعب الكتابة الجديدة وارتفاع ترمومتر الحريّة في البلاد العربيّة تحديداً.
غير أنّ هذا الاختيار لا يسلم من مزالق خطيرة، منها تشابه التجارب الإبداعيّة بشكلٍ لافت حتّى لا نقول السرقات الأدبيّة، وذيوع النصوص غير المكتملة التي لا تخلو من أعطال لغوية ونحويّة، وذلك بسبب استعجال النشر، والرغبة في تحقيق التراكم والحضور المستمر من خلال هذه المواقع الاجتماعيّة.
صحيح أن الفيسبوك تحديداً ساهم في إخراج الكثير من التجارب الإبداعيّة من دائرة التجاهل

إلى الاعتراف الرمزي والعبور إلى القارئ في شتى بقاع العالم وهو ما حفّزهم على تجاوز الإحباط النفسي، وأنا واحدٌ منهم، بعدما وجدوا في تفاعل القارئ سنداً حقيقيّا أحسن بكثير من وزارات الثقافة في البلاد العربيّة والتي لا تلتفت إلى كتّابها وشعرائها إلا حين يُحملون على الأكتاف إلى المقابر البعيدة. وبالمقابل كان الفيسبوك وما يزال وبالاً حقيقيّا بالنسبة لآخرين حين وجدوا أنفسهم يلوكون نصوصهم القديمة ويكتبون النّص الواحد بصيّغ شتّى بل قبروا الوعد الكبير الذي كانت تحفل به نصوصهم الأولى، وأحياناً يستعيدون نصوص غيرهم من حيث لا يدرون. وهل يتحمّل الناقد المسؤولية حين حاد عن الموضوعيّة وانخرط هو الآخر في المجاملة الافتراضية مكتفيّا بمقالات مستعجلة على شاكلة محلات الوجبات السريعة؟  أمّا العمق وتأصيل التجربة إبداعاً ونقداً فلا أحد يريده.
وباستحضار هذه المنطقة المعتمة والغامضة في الفيسبوك بخصوص النّص الإبداعي، تغدو اللايكات والتعليقات شهادات زور حقيقيّة تضرّ النّص الإبداعي في عموده الفقري، وتغتال المبدع بسمٍّ بطيء المفعول. وفي أحسن الحالات (في أسوئها؟) يواصل الكتابة محاطاً بالمزمّرين والطبّالين، ومبهوراً بأضواءٍ مغشوشة، ومفتوناً بقلوب حمراء اصطناعيّة يرسلها مجهولون بسخاءٍ حاتمي وبلا حسابٍ. ومخدّراً بتأوهات وآهات قرّاءٍ عاديين لا يربطهم بالإبداع إلا الفضول وتزجية الوقت، ودون أن يملك الكاتب الوقت الكافي لتطوير تجربته وضخّ تجربته بدم جديدة. دم الشّعر والكتابة الإبداعية المسفوكة بفداحة فوق أرضٍ زرقاء، وبحمامات خرساء!
بسبب هذه المنّصات الاجتماعيّة، تحوّل بعض الشّعراء والكّتاب إلى أشبه بحكّام طغاةٍ محاطين بجوقة من الولاة والعمّال والأعوان المنافقين، والذين لا يجرؤون على رفع أصبع الشجاعة والإشارة إلى مساوئ الحاكم المستبّد، إلى النّص الرديء أعني. ببساطة لا أحد يريد أن يُشَار إلى عيوبه في مجتمع شرقي مدّرب على الصمت المفخّخ وعلى الولاء الأعمى.
وفي النهاية، إنّ النّص الحقيقي يعلو على الزمان والمكان، ويقدّم نفسه بنفسه بلا حاجة إلى وساطات أو تزكيات.

 

الشاعرة التونسية سونيا الفرجاني:
الحكمة في التلقي لا في النشر
إن النصوص التي تنشر بحرية مطلقة على فيسبوك أو أي وسيلة من وسائل التواصل

الاجتماعي لا تمثل خطراً على أحد حسب تقديري بقدر ما تمثل تشويهاً يخص صاحبها فقط ولا أحد غيره.
ما يسميه البعض إسهالاً أو طفرة أو فيضاناً جارفاً أسميه حالة صحية جداً لشعوب تحتاج أن تتنفس بالكتابة عوضاً عن العنف والارهاب والكبت، وهذا المتنفس سواء كان نصا للثرثرة أو التوثيق ليس بشرط أن يكون نصا ابداعيا.
الإبداع هنا يحدده الزمن والنقد ودور النشر. الخطورة تكمن في دور النشر التي تطبع هذه النصوص وتخرجها للعالم في شكل ورقي دون أن تمر على لجان مختصة تفرز الغث من السمين فيها.
وسائل التواصل الاجتماعي اسم على مسمى هي وسائل اجتماعية لا أدبية أما الشعراء والأدباء الذين يستعملونها كطرق لنشر كتاباتهم بسرعة أكبر وأشمل فتلك مسألة أخرى تحتاج فطنة من المتلقي والقارئ الباحث عن متعة المعنى والفكر وله أن يختار ما يقف عنده تركيزه. الحكمة في التلقي لا في البث.

 

الشاعر المغربي صالح لبريني: الجيد والرديء
يتعايشان والبعض يسقط في وهم الإبداع
الحديث عن النص الأدبي المنشور سواء على وسائط التواصل الاجتماعي (الفيسبوك أو الواتس آب) مجازفة حقيقية، نظرا لما يحيط بها من التباسات جوهرية حول كينونة هذا النص، أي وجوده اللغوي والتيماتي، لأن اعتباره نصاً - في اعتقادي المتواضع - ليس سليم الطرح، خاصة وأن أغلبه يكون عبارة عن جزء من نص ما منتَج من لدن المبدع، لغياب احترام حقوق

الملكية الفكرية. ثم من العسير عليّ القول إن نص هذه الوسائط رديء، وإلا سقطنا في المعْيَرة القاتلة التي كان يمارسها ذوو الذائقة الإبداعية الضيّقة، الذين يميزون بين الجيد والرديء، ومع ذلك لا بد من التعبير عن موقف محايد يتمثل في كون مواقع التواصل الاجتماعي عبارة عن سوق تعرض فيه السلع النصية، فنعثر على النص الجيد والنص الرديء يتعايشان ويتداولان، كل حسب متلقيه. فمعيار الإعجاب والتعليقات لا ينبغي أن يؤخذ مأخذ الجدية وأنه تعبير عن إبداعية النص المقروء إعجابا وتعليقات، بل فيه تضليل وظلم على نص جيّد لا يحصل إلا على القليل من الإعجاب والتعليق، وهذا ما نلحظه بخصوص نصوص لشعراء وكتّاب لهم تجربة في الإبداع عميقة ومتجذرة في تربة الإبداع العربي. من هنا ينبغي أن نكون أكثر حيطة وحذراً مما يروّج له من ضحالة إبداعية استشرت كالسرطان في جسد الإبداع، وخلفت ضحاياها بكثرة ممن يدّعون أنهم مبدعون بدعوى أن كتاباتهم تحقق نسبة عالية من الإعجاب والتعليقات، فيسقط أمثال هؤلاء في وهم خطير بكونهم مبدعين، وهذه طامة عظمى بدأت ملامحها تطفو على الساحة الثقافية في المجتمعات العربية، فالغالبية العظمى من أمثال هؤلاء غارقون في أوهام النجومية البرّاقة الخادعة، فيكون مصيرهم السقوط في فخّ النرجسية المَرَضية. وهذا ما يشكل خطرا حقيقيا على الإبداع الطافح بالقيم الإنسانية النبيلة. خصوصا أمام هذه الإنفلوانزا "النصية" التي أتت على كل ما هو إبداعي وأسهمت في إشاعة ضحالة "ثقافة" مصابة بزكام التسطيح والاستسهال والإسهال في الكتابة. فشرّ ما ينشر في هذه المواقع أكثر من خيره، لهذا يوجه إلينا سؤال المخاطر المحدقة بالإبداع الإنساني.

 

الشاعر والناقد الليبي جمعة عبد العليم:
تفاعلات عشوائية في غياب حركة نقد حقيقية
هناك عدة عوامل ساعدت على هذا الكم الهائل من النصوص الأدبية بجميع أصنافها وهي في اعتقادي:
1 ــ ثورة الاتصالات الهائلة التي ساهمت في انطلاق القمقم من الكوابح السياسية والاجتماعية والفنية وكان في مقدمة هذه الثورة مواقع التواصل الاجتماعي.
2 ــ تخلص الإبداع، والشعر بالخصوص، من قيوده القديمة، وتحرره من الأشكال الكلاسيكية، وتغير النهج البلاغي شكلاً ومضموناً الأمر الذي أضاف كثيراً من الأسماء منها ما يستحق أن يكون كاتباً ومنها ما استهواه الاستسهال الظاهري، رغم أن الأنماط الحديثة، واقع الحال، أكثر صعوبة واحتياجاً لمعرفة شاملة وأدوات وأنماط متطورة ومغايرة.
3 ــ الإبداع مرآة الواقع، ولذلك انعكس فعل الحرية التي واكبت انسلاخ الشعوب العربية عن الدكتاتوريات العسكرية والدينية واندماجها في مخاض، رغم عدم اكتماله، كسر كثيرا من

الثوابت الفكرية والسياسية وبالتالي تداعت الأشكال النمطية للشعر والقصة وغيرها من الآداب والفنون ونتج بوح مطلق فوضوي لم يستتب بعد على شكل أو مضمون..
4 ــ انحسار المدارس النقدية وعجزها عن مواكبة هذه الثورة الهائلة في مختلف أشكال الحياة الاقتصادية والفكرية والفنية أطلق العنان للجميع دون أن تكون ثمة معايير جمالية تحكم حركة النشر..
5 ــ اجتياح هذه الحركة الثورية الفوضوية للمتلقّي أسوة بالمبدع فاختلطت الأدوار حتى لا تكاد تعرف من؟ يكتب لمن؟، وحتى صارت ردود فعل المتلقي لا تخرج ـ استسهالاً ـ في مجمل الأحوال عن: أعجبني، أحببته، واو، أحزنني في كبسة زر لاختيار الأيقونة المناسبة دون الحاجة لإجهاد النفس في الكتابة أو التعليق، والملفت للنظر عدم وجود أيقونات سلبية كـ"لم يعجبني" مثلاً!!
أنا لا أرى في ذلك خطراً على الإطلاق من وجود نصوص رديئة، فالضد يظهر حسنه الضد، بل هي فرصة لحركة نقد تواكب هذا الكم الهائل وتشذِّب المشهد الأدبي وتنمّي الذائقة الفنية وتطورها..
أمّا اللايكات والتعليقات فهي ردود فعل عشوائية من غير مختصين، ولا أعتقد أن المبدع يعول عليها بل تظل من باب المجاملة والمجاملة البديلة في ظل غياب حركة النقد الحقيقية.