Print
عماد فؤاد

سوق الأدب العربيّ بالغرب: ظروف نقل أدبنا للفرنسيّة (4)

22 يوليه 2019
هنا/الآن
على مدى عشرين عاماً كاملة، حفر المترجم اللبناني الدّؤوب أنطوان جوكي اسمه كأحد أبرز مترجمي الأدب العربي الحديث إلى اللغة الفرنسيّة، عبر وضعه ما يربو على الأربعين ترجمة لأعمال كُتَّاب وشعراء عرب كبار، من بينهم وديع سعادة، وعبد القادر الجنابي، وبول شاوول، وعباس بيضون، وسركون بولص، وسليم بركات، وأمجد ناصر، وغسّان زقطان، وهدى بركات، وغيرهم.
ولد أنطوان جوكي في بيروت عام 1966، واستقرّ في باريس منذ عام 1990 وحتى عام 2016، حين قرّر العيش بين مدينتي سيت الفرنسيّة ونيويورك الأميركيّة. وخلال هذه المدّة، نال جائزة "ماكس جاكوب" الفرنسيّة للشِّعر المُترْجَم مرّتين، عام 2011 ثم عام 2018. في الحوار الذي أجريناه معه ليكون الحلقة الرّابعة ضمن ملفّنا الموسّع حول "سوق الأدب العربيّ بالغرب"، يكشف لنا جوكي السّر وراء تميِّزه في التّرجمة من لغته الأم إلى لغته الثّانية الفرنسيّة، على عكس المعتاد. وبكثيرٍ من الصّراحة والوضوح، يفاجئنا سواء في مضمون حديثه عن الوضع الثّقافيّ العربيّ الذي يعرف أماكن قوته ومكامن ضعفه أكثر من غيره، أو في تعريته ظروف نقل أدبنا إلى الفرنسيّة. يفاجئنا أيضاً بتشديده على ضرورة تحلّي المترجِم بالتّواضع، حين نسأله عن الصّفات التي يتوجّب أن تتوفّر في المترجِم. التّواضع لأنّه: "مهما كانت معرفتنا كبيرة بأيّ لغة، يتعذّر علينا محاصرة غناها وعبقريتها كُليّاً". ولا شكّ في أنّ تواضع جوكي الذي يفضّل لقب "عبّار" على "مترجِم" هو الذي يفسّر تصريحه لنا بالآتي: "أيّ نصّ أترجمه إلى الفرنسيّة، أخضعه لقراءة تقوم بها صديقة فرنسيّة تجاوزت السّبعين، وعملت مصحّحة لُغويّة طوال حياتها".
هنا نصّ الحوار:

رحلة طويلة

(*) رحلة طويلة قطعتها في مجال التّرجمة من العربيّة إلى الفرنسيّة، كيف ومتى بدأت هذه الرّحلة، مع أيّ كتاب وكيف كانت ظروف ظهوره للنّور؟
من بين الأشياء الكثيرة التي أدين بها لصديقي الشّاعر العراقي الكبير عبد القادر الجنابي، دعوتي إلى المساهمة في ترجمة نصوص الأنطولوجيا الشّعرية التي وضعها بالفرنسيّة عام 1999 تحت عنوان "القصيدة العربيّة الحديثة"، وبالتّالي فتحه أمامي أفقاً كنت أجهل كلياً أنّه سيستهويني إلى هذا الحدّ ويلبّي رغبتي في الكتابة. هكذا انطلقتُ في التّرجمة. بعد ذلك، ودائماً بطلب من الجنابي، ترجمتُ وقدمّتُ مختارات للشّاعر اللبناني الرّاحل فؤاد رفقة، صدرت عام 2000 في كتاب عن دار "باريس ـ المتوسّط". طبعاً، كنتُ مترجماً مبتدئاً آنذاك وساعدني الجنابي كثيراً في هذه المهمّة ومهمّات أخرى لاحقة أوكلني بها. أمّا ظروف صدور الكتاب المذكور، فكانت جيّدة نسبيّاً كونه حصد مقالات مديحيّة في لبنان وفرنسا، قبل أن يلقى مصير كتب شعريّة كثيرة مترجَمة، أي النّسيان.

(*) ترجمتَ الشِّعر كما ترجمتَ الرّواية، ويحفل رصيدك بالأسماء المهمّة في الأدب العربيّ الحديث: وديع سعادة، سركون بولص، هدى بركات، عباس بيضون، عبد القار الجنابي، بول شاوول، سليم بركات، وغيرهم، وصولاً إلى جيل أحدث مثل أمجد ناصر وغسّان زقطان وغيرهما. لكن يبدو لي أنّك اخترت الجانب الأصعب من المسألة، ألا وهي ترجمة الشِّعر، في الوقت الذي تؤكّد فيه مؤشّرات القراءة في العالم أجمع الإقبال المتزايد على الرّواية، هل يمكن أن نقول إنّ هناك قارئاً للشّعر يمكننا التّعويل عليه اليوم في فرنسا؟
طبعاً، هناك قرّاء للشّعر في موطن بودلير ورامبو ومالارميه، وإن كان عددهم متواضعاً مقارنةً بعدد قرّاء الرّوايات، وأفضل دليل على ذلك عدد المجلّات ودور النّشر الفرنسيّة التي تعنى اليوم بنشر الشِّعر حصراً. فلولا الطّلب على الشِّعر في هذا البلد لما كانت كلّ هذه المجلّات والدّور التي تُعدّ بالمئات! أمّا لماذا يتفوّق قرّاء الرّواية عدداً في فرنسا، كما في كل مكان، فلسببين بديهيّن: الأوّل هو أنّ الشِّعر كان وسيبقى نخبوياً، بخلاف الرّواية. والسّبب الآخر يعود إلى الجهد الكبير الذي يتطلّبه الشّعر من قارئه لفهمه، بخلاف الرّواية أيضاً. طبعاً، أتكلّم هنا بشكلٍ عام، إذ ثمّة نصوص شعريّة سهلة القراءة، ونصوص روائيّة لا يمكن ولوجها من دون جهدٍ جبّار.

النّطق الفرنسي الرّقيق
(*) عادة ما يقوم المترجمون بالتّرجمة من لغتهم الثّانية إلى لغتهم الأم، أمّا أنت فقد نجحت في إثبات اسمك كمترجم إلى لغتك الثّانية الفرنسيّة. كيف تفسّر ذلك؟ وما هي المعايير التي يجب أن تتوفّر في المترجم في رأيك كي يحفر لنفسه بصمته الخاصّة؟
فعلاً، معظم المترجمين ينقلون نصوصاً من لغتهم الثّانية إلى لغتهم الأم، وهذه مسألة طبيعيّة

ومستحسنة، لأنّه مهما كانت معرفتنا كبيرة بلغتنا الثّانية، ثمّة دائماً أشياء فيها تنقصنا أو تفوتنا، بخلاف لغتنا الأم التي نتشرّبها ونحن على صدور أمّهاتنا. في ما يتعلّق بي، لطالما حاورتني أمّي بالفرنسيّة منذ نعومة أظافري، نظراً إلى شغفها بلغة موليير وإتقانها هذه اللغة بشكلٍ أفضل من العربية بسبب السّنوات الطّويلة التي أمضتها في مدرسة فرنسيّة داخليّة للفتيات، كانت الرّاهبات الفرنسيّات فيها يعاقبن أيّ فتاة تتكلّم العربيّة خلال الدّروس أو في الملعب. لذلك تآلفتُ باكراً مع اللغة الفرنسيّة وعشقتُ ما نسمّيه في لبنان "Le doux parler français"، أي "النّطق الفرنسيّ الرّقيق"، قبل أن يفتنني الأدب الفرنسيّ منذ سنّ المراهقة. وما ساهم في تعميق معرفتي بهذه اللغة، ممارستي باكراً الكتابة النّقديّة بها (منذ 1988)، وإقامتي في باريس منذ 1990. لكن مع كلّ ذلك، حين أترجم أيّ نصّ إليها، أخضعه لقراءة تقوم بها صديقة فرنسيّة تجاوزت السّبعين وعملت مصحّحة لُغويّة طوال حياتها. وبفضل هذه الصّديقة التي أعمل معها منذ 16 عاماً، ازدادت معرفتي كثيراً بالفرنسيّة.
وهذا ما يقودنا إلى الشّقّ الثّاني من سؤالك، أي المواصفات أو المعايير التي يجب أن تتوافر في المترجِم، وأوّلها في نظري هو التّواضع. ثمّة قول رائع في فرنسا هو التّالي: "اللغة تعرف دائماً أكثر منك"، ومعناه أنّه مهما كانت معرفتنا كبيرة بأيّ لغة، يتعذّر علينا محاصرة غناها وعبقريتها كُليّاً. بالتّالي، لا بدّ لأيّ مترجِم أن يتحلّى أولاً بصفة التّواضع، أي ألّا يدّعي معرفة كاملة باللغة التي ينقل إليها أيّ نصّ، كي يخدم هذا النّص وكاتبه على أفضل وجه، وإلا لَـ"وقع في الخطيئة بفعل كبريائه -pécher par orgueil"، وهو قولٌ فرنسيّ آخر. وفي حال توفّرت هذه الصّفة به، لا بدّ طبعاً من معرفة عميقة باللغتين، لغة النّص الأصليّة واللغة المستقبلة له، ومن موهبة كتابيّة في الأساس، إضافةً إلى إتقان تقنيّات التّرجمة الأدبيّة، وجميع هذه المعايير يمكن أن نتملّكها أو نتعلّمها بفعل الممارسة.. إلّا التّواضع. بعض الشّعراء العرب الكبار الذين نقلوا إلى العربية في السّتينيات والسّبعينيات أعمالاً أو مختارات من أعمال شعراء فرنسيّين أو أميركيين كبار وقعوا في فخّ الكبرياء، في نظري، على أهمية ترجماتهم. فحين نقرأ هذه التّرجمات، يخال لنا أنّنا نقرأهم هم أكثر مما نقرأ الشّعراء المُترجَمين. بالتّالي، المترجم الجيّد هو ذلك القادر على الانزلاق تحت جلد الكاتب الذي يترجمه، وتوظيف كلّ مهاراته ومعارفه في عملية التّرجمة، لكن من دائرة الظّل.

(*) إذاً ما هي الشّرارة الأولى التي تدفعك إلى ترجمة نصٍّ أدبي وتقديمه في كتاب لقارئ الفرنسيّة، وما هي الأساسيّات الماديّة والمعنويّة التي تحتاجها شخصيّاً للشّروع في التّرجمة؟
خلال قراءاتي أُعجَب بنصوص كثيرة، لكن تلك التي أرغب في ترجمتها هي النّصوص التي تصعقني بمدى تماثلها مع نظرتي للأشياء والعالم والأدب، أو بقدرتها على مساءلتي ومحاورة ما يشتعل داخلي. لا بدّ إذاً من علاقة حميمة مع النّص كي يضع المترجِم ــ أيّ مترجِم ــ كافّة إمكاناته ومهاراته وروحه في عمليّة نقله إلى لغة أخرى، وإلا لعانت ترجمته من نقصٍ أو حرارةٍ ما. لا بدّ أيضاً من مكافأة ماليّة لعمله، لأنّنا غالباً ما ننسى أنّ المترجم أيضاً إنسان يحتاج أن يأكل ويشرب ويدفع فواتيره، إضافةً إلى حاجة التّثقّف الملحّة لديه.. والمكلّفة!

(*) حصلتَ في العامين 2011 و2018 على جائزة "ماكس جاكوب" الفرنسيّة للشّعر المُترجَم، كيف ترى حال التّرجمة من العربيّة إلى الفرنسيّة اليوم، أو بمعنى آخر، ما الذي يجب أن يتغيّر في منظومة التّرجمة كي ننجح في نقل ما يستحقّ من أدبنا العربي الجديد إلى الفرنسيّة؟
بالنّسبة إلى الجائزة المذكورة، تجدر الإشارة إلى أنّني نلتها مناصفةً مع وديع سعادة أولاً، ثم مع سليم بركات. أمّا في ما يتعلّق بوضع التّرجمة من العربيّة إلى الفرنسيّة اليوم، فأراه جيّداً. والدّليل؟ توافُر ترجمات فرنسيّة لأعمال أبرز شعرائنا وروائيّينا. النّوع الرّوائي يحصد طبعاً

حصّة الأسد في هذه العمليّة، لكن الشّعر غير مهمل إطلاقاً، وكذلك الأمر بالنّسبة إلى النّوع القصصي. وبما أنّ مترجمي أدبنا إلى الفرنسيّة وناشريه هم فرنسيّون بمعظمهم، فكلّ ما يمكننا أن نفعله لتعزيز اهتمامهم بأدبنا وتنشيط حركة ترجمته إلى الفرنسيّة، هو تقديم الدّعم المادّي لهم عن طريق مؤسّسات ثقافيّة تتوافر لديها الإمكانات للاضّطلاع بهذا الدّور. علينا ألّا ننسى أنّ المترجم غالباً ما يتقاضى أجراً بائساً على عمله، مقارنةً بدوره المحوريّ في حوار الثّقافات والحضارات، وأحياناً كثيرة يعمل مجاناً! مع الأسف، لا يمكننا أن نعوّل كثيراً على وزارات الثّقافة في بلداننا العربيّة لتأديّة الدّور المذكور، بخلاف ما يحصل في الدّول الغربيّة ودول كثيرة أخرى، حيث ينعم الأدب وكُتّابه بدعمٍ مادّيّ وترويجيّ من قِبل وزارات الثّقافة ومؤسّسات ثقافيّة رسميّة مختلفة.

السّعي المسعور
وراء التّرجمة
(*) كتبت مؤخّراً بوستاً لافتاً على صفحتك الشّخصيّة في موقع فيسبوك تعتذر فيه عن عدم قدرتك على تلبية طلبات الأصدقاء العديدة لترجمة نصوصهم إلى الفرنسيّة. ألا يضع هذا ثقلاً إضافياً على كاهل المترجِم، وفي الوقت ذاته يصنع منه مصدر قوّة وتأثير؟ كيف تتعامل مع هذه الإشكاليّة التي من المؤكّد أنّها توقعك في حرج أحياناً مع بعض الكُتّاب؟
صحيح أن خروج المترجِم من دائرة الظلّ يجعل منه مصدر قوّة وتأثير في المحيط الأدبيّ، لكن ذلك يجلب له أيضاً مشكلة كبيرة في عالمنا العربيّ تتمثّل، كما قلتَ، في تلقّيه طلبات لا تحصى من الكُتّاب لا هو قادر على تلبيتها، لاستحالة ذلك زمنيّاً، ولا هو يرغب أصلاً في تلبية معظمها، الأمر الذي يضعه في حالة إحراج لا يُحسَد عليها. إنّها لظاهرة غير طبيعيّة ومزعجة سعي كُتَّابنا المسعور وراء ترجمة نصوصهم، لأنّ المترجِم هو الذي يجب أن يطرق بابهم وليس العكس، من المنطلق الذي وضّحته سابقاً، أي شعوره برغبة مُلحّة في ترجمتهم لدى قراءة نصوصهم؛ رغبة ضروريّة كي يضع كافّة مهاراته في خدمة هذه النّصوص ويؤدّي مهمّته بأفضل طريقة وظرف ممكنين. إذاً، على الكاتب أن يكتفي بنصّه، وفي حال وضع نصّاً مهمّاً، سيجد مترجماً له عاجلاً أم آجلاً. في فرنسا، حيث أعيش معظم وقتي، أعرف الكثير من الكُتّاب، ومع ذلك لم يطلب مني يوماً واحد منهم ترجمة نصّ له إلى العربيّة، لأنّ جميعهم يحترم إرادتي ولا يكترث إلّا لقيمة النّص الذي يكتبه.

(*) بدأت مشوارك في التّرجمة بنصّ طويل لسليم بركات، ثم بعمل لفؤاد رفقة، فاثنين لعبد القادر الجنابي، أي لأسماء أدبيّة وشعريّة كبيرة. ما هي التّغيّرات التي يمكن أن ترصدها في نفسك خلال هذه الرّحلة الطّويلة، والتي أثمرت عمّا يقرب من 40 كتاباً حتى اليوم؟
معك حق، بدأتُ التّرجمة في الواقع مع نصّ لسليم بركات صدر في العدد الأوّل من مجلّة

Autodafé الفرنسيّة، قبل أن أترجم له لاحقاً مختارات من شعره، لكنّي لا أعتبر هذا الّنص الرّائع انطلاقتي في التّرجمة، لسبب بسيط هو أنّني لم أكن قادراً آنذاك على نقله كما يجب إلى الفرنسيّة لولا مساعدة المترجم القدير فرنسوا زبّال، الذي طلب منّي أصلاً القيام بهذه المهمّة. وهذه الحقيقة تشكّل بطريقةٍ ما جواباً على سؤالك، بمعنى أنّ فعل التّرجمة هو ممارسة قبل أن يكون موهبة، ويتطلّب إذاً سنيناً طويلة من العمل وبذل جهدٍ جبّار خلالها، من أجل إتقان تقنيّاته وتطوير استراتيجيّات ناجعة لمزاولته باحتراف. لا أدري إن بلغتُ هذه النّقطة، بعد أربعين كتاباً ومئات النّصوص التي ترجمتها في إطار مهرجان "أصوات حيّة" الشّعري. الأكيد هو أنّني على الطّريق وأتعلّم كلّ يوم أشياء جديدة كنتُ أجهلها.

(*) تتعامل مع كثير من دور النّشر والمؤسّسات الثّقافية والمهرجانات الفرنسيّة، كيف توازن بين ذائقتك كقارئ ومترجم وناقد متخصّص في الأدب، وبين ما يتمّ اقتراحه عليك من قبل هذه المؤسّسات؟ وهل تضطرّ أحياناً إلى رفض بعض هذه الاقتراحات، أم تترجم أغلبها؟
نادراً ما يطرق ناشرٌ باب مترجم لنقل نصٍّ عربيّ إلى الفرنسيّة، لأنّ معظم النّاشرين الفرنسيّين لا يتقنون العربيّة ويتّكلون على المترجِمين في مهمّة تنويرهم عمّا يتوجّب ترجمته ونشره من أدبنا. ومن هذا المنطلق، معظم النّصوص التي ترجمتُها إلى الفرنسيّة وصدرت في فرنسا، كنتُ مقتنعاً كفاية بقيمتها الأدبيّة كي اقترحها على أحد النّاشرين. لكن هذا لا يعني أنّني لا أتلقّى عروضاً من دور نشر أو مؤسّسات ثقافية لترجمة نصوص ليست من اقتراحي. وفي هذه الحال، أعمد إلى تقييم هذه النّصوص قبل رفض أو قبول المهمّة. ذائقتي إذاً هي الحَكَم في هذه العمليّة. مع مهرجان "أصوات حيّة" الشّعري الذي أنتمي إلى لجنته الدّوليّة وفريقه المنظِّم منذ سنين طويلة، يختلف الأمر، لأنّني حتى عام 2017، لم أكن مسؤولاً عن اختيار الشّعراء العرب المدعوين، بل فقط عن ترجمة مختارات من نصوصهم إلى الفرنسيّة. ولذلك، كنت مضطرّاً أحياناً ــ كي لا أقول غالباً ــ إلى ترجمة نصوص لم أكن مقتنعاً بقيمتها. لكن هذه التّرجمات لم تكن مرصودة للنّشر، فغايتها كانت ــ وما تزال ــ إيصال صوت الشّعراء المدعوّين إلى جمهور المهرجان.

(*) السّؤال السّابق يحيلني إلى سؤال آخر: هل ثمّة فروق في جودة التّرجمة بين عمل اخترته عن قناعة أدبيّة شخصيّة، وبين عمل لم تكن متحمّساً له لكنَّك قبلت بترجمته تلبية لاقتراح إحدى هذه المؤسّسات؟
حين أتّخذ قرار ترجمة نصّ، أبذل كلّ ما يلزم من جهد لخدمته والوفاء لخصوصيّاته. لكن، كما سبق أن أشرت، سيستفيد هذا النّص أكثر من ترجمتي إن تمكّن من مَسّي في حميميّتي. لحسن الحظّ هناك، من جهة، المتعة المرتبطة بفعل التّرجمة، بغضّ النّظر عن طبيعة النّص الذي ننقله إلى لغة أخرى، ومن جهة أخرى، التّحدّي الملازم لهذا الفعل، والاثنان يحرّكان طاقات ومهارات المترجِم الشّغوف بعمله، ويساعدانه على أداء مهمّته.

أدبنا ينافس في المكتبات
(*) كيف ترى تفاعل القارئ الفرنسيّ مع النّصوص التي تنقلها إلى لغته اليوم؟ هل نستطيع أن نقول إنَّ ثمّة اتّجاهات معيّنة تجذبه داخل أدبنا، أو موضوعات يقبل عليها دون سواها؟ وإن كان الأمر كذلك، فما هي هذه الاتّجاهات؟
لطالما أثار إعجابي ودهشتي تفاعل القارئ الفرنسيّ مع كلّ ما يُنقل إلى لغته. تفاعُل يعكس فضولاً لا معادل له في أيّ بلدٍ آخر! والدّليل أنّ عدد النّصوص الأجنبيّة التي تُترجَم وتُنشَر سنويّاً في فرنسا هو ضعفا عددها في أميركا وبريطانيا.. مجتمعتين! والمثير أن أدبنا المترجَم إلى الفرنسيّة ينافس الأدب الألماني والرّوسي والصّيني على مستوى المبيعات في المكتبات! أمّا في ما يتعلّق بالاتّجاهات المعيّنة التي تجذب القارئ الفرنسيّ داخل أدبنا، فلا شكّ في أنّ

النّصوص التي تتناول بشكلٍ مباشر الأحداث الرّاهنة في منطقتنا تلقى اهتماماً كبيراً لديه نظراً إلى استفادتها من التّغطية الإعلاميّة اليوميّة لهذه الأحداث، ومن حصدها بالتّالي مقالات نقديّة أكثر من غيرها. وثمّة نصوص تلقى رواجاً لتسيير أصحابها فيها تلك الكليشيهات الرّائجة في فرنسا، والغرب عموماً، عن الإنسان العربيّ وعالمه. لكن الزّمن في فرنسا يغربل بسرعة جميع هذه النّصوص ولا يستبقي منها إلا تلك التي تتمتّع بقيمة أدبيّة حقيقيّة.

(*) في هذا الإطار، مَن من المترجمين الذين يترجمون إلى الفرنسيّة اليوم يلفت انتباهك، ولماذا؟
كما أشرتُ سابقاً، مترجمو أدبنا إلى الفرنسيّة هم فرنسيّون في غالبيّتهم العظمى، ومعظمهم يستحقّ منّا كلّ الاحترام، ليس فقط لاضّطلاعه بهذه المهمّة النّبيلة، بل أيضاً لقيمة ترجماته. على قارئ هذا الحوار أن يدرك أنّ هؤلاء المترجِمين لا يكتفون بترجمة نصوصنا، بل يؤدّون المهمّة التي، في معظم الأحيان، لا يؤدّيها ناشرو هذه النّصوص العرب، أي تصحيح الأخطاء النّحويّة وحذف التّكرار وشدّ اللغة وتحسين الأسلوب... وبقيامهم بذلك، تكسب هذه النّصوص قيمةً إضافيّة لدى انتقالها إلى اللغة الفرنسيّة. ومَن لديه شكّ في ما أقوله، أدعوه إلى مقارنة كلّ واحدة من هذه التّرجمات بنصّها الأصليّ!
أما مَن يلفت انتباهي من بين هؤلاء المترجمين، فكثر، أذكر منهم، على سبيل المثال فقط، لوك باربوليسكو، الرّوماني الأصل، نظراً إلى روعة ترجماته وهاجس الدقّة والوفاء للنّصّ لديه؛ إيمانويل فارليه الذي صعقني بترجمته المذهلة في جماليَّاتها لرواية سليم بركات "الرّيش"، وطبعاً الكاتب العملاق كريستوف كلارو الذي يترجم من الإنكليزيّة، ونقل بعبقريّة فريدة أخطر الأعمال الأدبيّة على مستوى التّرجمة، كروايات توماس بينشون وويليام فولمان، كي لا أسمّي غيرها.

أثر المُترْجِم
(*) يهمني فعلاً أن أستوضح منك هذه النّقطة، هل هذا يعني أنّ المترجم يضطرّ أحياناً إلى إعادة صياغة النّص العربي الذي يقوم بترجمته؟
نعم!

(*) لكن ألا تعدّ هذه إعادة كتابة للنصّ الأصليّ وليست ترجمة؟
النّص الأصليّ ليس قرآناً، خصوصاً مع كتّابنا العرب الذين يكتبون أحياناً كيفما اتفق. لا يمكن للمترجِم أن يحافظ على الأخطاء والرّكاكة في الأسلوب حين يقع عليها. لذلك، غالباً ما تكون التّرجمة أفضل من النّص الأصليّ.

(*) أتّفق معك، لكن هذا يعني وجود ترجمات مشبوهة فعلاً لأدبنا العربيّ، ويفسر تعجّبي من تحمّس جمهور أجنبيّ لنصٍّ عربيٍّ رديء في نظري. هنا كنتُ أتساءل عن دور المترجِم في خلق نصٍّ آخر مغاير عن النّص الأصلي في لغته الأم؟
طبعاً أنا لا أقصد إعادة كتابة كلّ النّص، بل فقط مكامن الرّكاكة والجمل المركّبة كيفما اتفق.

(*) إذاً بهذا المعنى فأنتَ - إلى جوار أنّك مترجِم - محرّر أيضاً للنّصّ الأصليّ في لغته الجديدة؟
مئة في المئة، أنا وسائر المترجِمين من العربيّة.

(*) أفليس من الأولى أن يوضع اسمك كمؤلّف أيضاً إلى جوار اسم كاتب النّص، وهذه حقيقة أقولها غير مازح.
كما قلت سابقاً، نحن نقوم بعمل النّاشر العربيّ الذي يكتفي بمهمّة طباعة النّص.

(*) لكن تبقى هناك ملاحظة مهمّة هنا، وهي أنّ الكاتب العربيّ الذي تُرجمتْ نصوصه إلى لغة رامبو، بتحرير وإعادة صياغة من قبل المترجِم الجيّد، لا يحقّ له التّباهي بجودة نصّه المُتَرجَم، لأنّ المترجِم له فضل كبير ينافس فضل كاتب النّص الأصليّ!

الأكيد هو أن التّرجمات الفرنسيّة رفعت من قيمة الكثير من النّصوص العربيّة.

(*) لكنّي أرى في ذلك جريمة تزييف بشكل أو بآخر، فالمترجِم هنا فضله على النّص أكبر من كاتبه!
أدبنا المعاصر بمعظمه قاصر ويحتاج إلى إعادة صياغة وتحرير. قليلون هم الكُتّاب العرب

اليوم الذين لا تنطبق هذه الملاحظة عليهم. حتى الرّوايات المتوّجة بجوائز عربيّة "عريقة"، أجد في كلّ صفحة من صفحاتها أخطاء مخيفة وجمل لا تُصدَّق في بشاعة تراكيبها.

(*) مَن من الشّعراء العرب الذي لا زلت تحلم بنقل أعماله إلى الفرنسيّة، ولماذا؟
ما زال أمامي شاعران أرغب في ترجمتهما: بول شاوول وأمجد ناصر اللذان لم أفيهما حقّهما في الكتاب الذي ترجمته لكلّ منهما في الماضي، ولا يتضمّن سوى عدد قليل من القصائد بسبب صيغته المحدَّدة سلفاً من قبل النّاشر. أمّا لماذا هما تحديداً، فلأنَّ كلاً منهما، على طريقته، تمكّن من فتح أفقٍ جديد داخل الشّعر العربيّ المعاصر، وأيضاً من تجاوز نفسه وتجديد كتابته الشّعرية ومواضيعها من مجموعة إلى أخرى.

(*) نهاية، ماذا عن جديدك الذي لم يظهر بعد في عالم ترجمة النّصوص الشّعرية والرّوائية العربيّة إلى الفرنسيّة؟
قريباً ستصدر مختارات للشّاعر العراقي حيدر الفيحان عن دار "المنار"، تليها مختارات للشّاعر اللبناني محمد ناصر الدين عن دار "لامارتان"، فرواية الفلسطينيّ علاء حليحل "أورفوار عكا"، عن دار "أكت سود"، التي ستصدر فيها أيضاً مختارات واسعة من نصوص أمجد ناصر، ما أن أفرغ من ترجمتها. لكن أكثر ما يثيرني حاليّاً هو عملي على ترجمة جديدة لديوان بودلير "أزهار الشَّر".