Print
ليندا نصار

النقد العربي المعاصر.. ما بين قيم النقد والخطاب السائد(2)

15 يوليه 2019
هنا/الآن
في الجزء الأوّل من هذا التحقيق فتحنا ملفّ النقد العربيّ المعاصر وسنستمرّ في عرض آراء النّقّاد والأكاديميّين في محاولة لتقريب القراء من وجهات النظر المختلفة.

وقد طرحنا في الجزء الأوّل الإشكاليّة الآتية: هناك العديد من المتتبعين يشيرون إلى دخول النقد العربي غرفة العناية المركزة جراء المضايق التي فرضتها الفورة الإبداعية، وكانت سبباً في عدم قدرته على مواكبة التجارب والحساسيات، بل صارت بعض النصوص التي يغيبها النقد تحظى بالقراءة العالية والتتويج في منصات عربية وعالمية. في المقابل نجد مشاريع نقدية عربية رائدة ولكنها تعد على الأصابع وتبقى وليدة اجتهاد فردي في ظلّ غياب أو تغييب المؤسسة الأكاديمية وفلسفة النقد باعتباره أداة لبناء ممكن آخر للمجتمعات العربية وتحصينها من الفكر الواحد. فهل يمكننا الحديث اليوم عن خفوت للنقد العربي أو هو خفوت مرتبط بضرورات التسطيح والوعي المعلب؟ لماذا يغيّب النقد الأصوات الجادة؟ وهل هناك ضرورة له بالنسبة إلى المبدع؟ أليست هناك مسؤولية للناقد اليوم في ما يتعلق بالنزاهة الفكرية؟ وهل هناك أخلاقيات للنقد؟ ولماذا نجد الأسماء النقدية نفسها هي التي تتكرر في الندوات والجوائز؟ لماذا يتم تغييب الأصوات النقدية الجديدة؟ وهل هناك حدود فاصلة بين الدراسة الأكاديمية وبين النقد الأدبي؟
بعد أن تتبّعنا في الجزء الأوّل آراء كلّ من الأساتذة الأكاديميّين يمنى العيد وشكري المبخوت وعبد الرحيم جيران، نتابع في هذا الجزء الثاني آراء الأساتذة مها الخوري ومحمد بو عزة وحاتم الصكر ومحمد الشحات.

 

مها الخوري: المناهج النقديّة السائدة تجعل عدداً لا
بأس به من النقّاد أشبهَ بفصيلةٍ من العسكر
بدايةً، لا بدّ لنا من التسليم بأولويّةِ تمتّع الناقد بالجرأة والخيال والثقافة واليقظة التي تليّن النصوص وتكشِفها وتحييها. فالناقد، على حدّ تعبير بارت، "يتحمّل، عن قصد، مخاطرة إعطاء معنى خاصّ للعمل". لذلك، فإنّ القياس على المناهج النقديّة المستوردة التي تجعل الناقد يكتفي بالبحث ويتلهّى بالكشف عن بنية النصّ وما يتّصل بها من زمان ومكان وشخصيّات ومنظور ونمط ورؤية، وعتبات وتبئير ومربّع سيميائيّ، وما إلى ذلك من تفاصيل أسهب في التحدّث عنها كلٌّ من جينيت وغريماس وتأثّر فيها وفيهما عدد من نقّادنا العرب، لم يعد مقبولاً. إذ إنّهم فرّغوا بتطبيقاتهم العمليّة النصوصَ من جوهر قيمتها الدلاليّة وتلهّوا باتّباع خَطَوات متلاحقة ومتدرّجة، كانت كفيلة بالإساءة إلى النصّ والجني عليه، بدلاً من جني ثماره الفنّيّة القيّمة؛ ذلك أن رؤية الإنسان المعاصر للمجتمع ولدوره فيه تغيّرت على نحوٍ واضح، فصار يميل نحو نمط حياةٍ جديدٍ يفترض استكناه أنماطٍ تعبيريّة جديدة، تستوجبُ بدورها

مقارباتٍ نقديّةً ملائمة ومتطوّرة يستلهم منها الناقد التصوّرات في قراءة النصوص، وفي الكشف عمّا يستتر فيها من حمولات دلاليّة تختبئ تحت عباءة الجماليّ، وذلك كلّه عبر الغوص في متاهة البحث عن الجوهر انطلاقاً من تأمّلاتٍ لامتناهية متمرّدة على الحدود.
ما يتناهى إلينا اليوم من أصواتٍ نقديّة لا يخلو من بعض المحاولات الجدّيّة الرائدة والمجتهدة، إلّا أنّ خفوت النقد العربيّ يبقى سيّد الموقف في ظلّ شيوع قراءاتٍ متعدّدة، عاجزة عن الفهم الصحيح للنصوص، تعمل على إرغامها على قول ما لا تريد قوله، استناداً إلى نظريّات مقولبة يحكُمها التأليه، ما يجعل الناقد غافلاً عن خصوصيّة النصّ؛ فالمناهج النقديّة السائدة، تجعل عدداً لا بأس به من النقّاد أشبهَ بفصيلةٍ من العسكر تنفّذ الأوامر الموجّهة أو الموفدة إليها من سلطاتها العليا، على النصّ، من دون اعتراض أو مساءلة، استناداً إلى المبدأ الراسخ في الأسلاك العسكريّة: "نفّذ ثمّ اعترض"، والظاهر أنّهم اعتادوا التنفيذ المطمئنّ مع تسليمٍ كلّيّ، وتركوا الاعتراض، لأنّ أوهاماً برمجت عقولهم على خوفٍ راسخٍ يحذّرهم من وجود ألغام مزروعة داخل هذا النصّ، ولأنّهم استساغوا التنفيذ متّكلين اتّكالاً مطلقاً على العقل المدبّر، قائدِ خَطَواتهم، راسمِ تحرُّكاتهم، على نحوٍ آليّ مبرمج، ما جعل النصوص جثثاً لا خصوصيّة فيها ولا حياة، والأدهى أنّها أصبحث ثانويّةً في العمليّات النقديّة لأنّ الأولويّة تتركّز في سلطة المنهج الذي سيمارس سياسته القمعيّة والتقييديّة في آن، وسيُلزم الناقد باتّباع خَطوات عمليّة لا يجوز الحياد عنها خوفاً من تلمُّس ألغامه وانفجار معانيه.

ما هو البديل؟ وما الحلّ؟
هذا السؤال يحيلنا إلى ضرورة إعادة النظر في النظريّات النقديّة الوافدة إلينا، مع الإشارة طبعاً إلى محوريّتها وإلى عدم القدرة على ادّعاء الرغبة في إغفالها أو إسقاطها أو التنكّر لها، بل على العكس، علينا الانفتاح عليها، ولكن مع التشديد على أن يكون الانفتاحُ حرّاً، يسعى إلى تجاوزها وتخطّيها والعمل على تلقّفها بديناميّةٍ متجدّدة واعية، تتيح لنا إدخال ذواتنا الناقدة في حالةٍ من المحاورة والمجادلة والتفاعل والتبادل مع الذات الكاتبة، وتفسح لنا المجال لتحقيق مفهوم "المعادل الموضوعيّ" الذي تحدّث عنه إليوت، وتسمح لنا إذّاك بنزع قفّازات التنميط والتبعيّة والتقليد والرتابة، لنلامسَ نسيجَ لغةِ النصوص "الثابتة والمتحوّلة"، ببصمة فرديّة حقيقيّة متميّزة صادقة، تصنع معنانا نحن، وتُنجز خِطابنا المبدَع بالمقروء.
وبذلك، فإنّ الناقد المعاصر مدعوٌّ إلى اختبار عمليّة كيميائيّة تصهر المادّةَ الأصليّة الخام وتدمُجها وتشكّلها فتحوّلها إلى مركّبٍ إبداعيٍّ جديد، على نحوٍ تفاعليّ يقوم على تكثيف الجمل لتكون قادرة على محاكاة التكثيف في نصّ الكاتب وعلى تحديد ملامح الأدب المعاصر وتفعيل دوره.

 

محمد بوعزة: مجال الإعلام الثقافي تحوّل إلى محفل علاقات
عامة ومصالح متبادلة أفرغت النقد من وظيفته الثقافية
إن أي حديث عن "إشكالية" النقد العربي، ينبغي أن يموضع هذه الإشكالية المتعددة الأبعاد في سياقها العلمي الموضوعي. من هذا المنطلق أرى أن مأزق النقد العربي لا يمكن فصله عن المأزق الشامل للثقافة العربية منذ النهضة العربية وسعيها إلى بلورة مشروع ثقافي وطني تحرري، وما عرفه هذا المشروع الثقافي السياسي من اختلاف في الرؤى وصراعات أيديولوجية وتحديات سياسية داخلية وخارجية. ولأن المقام هنا لا يسمح بالتحليل الوافي لهذا البعد الثقافي للنقد العربي، لأنه يقتضي تحليلا أيديولوجيا وتاريخيا مفصلا لمكونات الحقل الثقافي، سأكتفي هنا بالإشارة إلى التحول العميق الذي عرفته الثقافة العربية منذ التسعينيات، مع انتقال المعرفة إلى وضع إبستيمي جديد مع الثورة المعلوماتية، وكان له أثر في خفوت صوت النقد.
لقد كان من نتائج هذا التحول المعلوماتي الجذري على المستوى الثقافي ابتكار وسائط ثقافية

جديدة، ما يعرف بالشبكات الاجتماعية، أكثر مرونة واتساعا وانتشارا، غير محدودة لا بالزمان ولا بالمكان ولا بحدود أي سلطة سواء أكانت سياسية أم ثقافية. هذه الوسائط التقنية الجديدة كان لها أثر واضح في مجال النقد الأدبي، حيث أدت إلى تفتيت سلطة الناقد وتفكيك "مركزية النص"، فلم يعد مجال نشر النصوص الأدبية وقراءتها ومتابعتها والتعليق عليها حكرا على المؤسسات النقدية الكلاسيكية (جماعات النقاد، المجلات، دور النشر التقليدية...)، نتيجة دخول لاعبين جدد من خارج الحقل الأدبي والثقافي التقليدي. من جهة أخرى أدت الشبكة المعلوماتية إلى ظهور أشكال جديدة من الكتابات الرقمية. ومما هو منطقي فإن كل تغير في وسائط الكتابة يفضي بالضرورة إلى تغير في أشكال تلقيها وقراءتها؛ وهذا أدى بالضرورة إلى تغير مفهوم "القيمة الأدبية". وأنا أعتقد أن هذه الأشكال الشبكية الجديدة من النصوص، بما أوجدته من منصات إلكترونية واسعة الانتشار، وسعت من حرية القراء والكتاب وانتشار الأعمال الأدبية، وقلصت من سلطة النقاد والمؤسسات الأدبية والثقافية الكلاسكية. وهذا الأمر يحتاج إلى دراسة سوسيولوجية من منظور دراسات الاتصال والميديا لتقييم آثاره بشكل موضوعي.
بعد أن أشرت إلى البعد السوسيولوجي لمأزق النقد العربي باعتباره إشكالية ثقافية، سأتقدم خطوة أكثر تخصيصا لإشكالية النقد العربي، حتى لا نسقط في نوع من التعويم الثقافي. وهذا ما يقتضي الانتقال من المنظور السوسيولوجي إلى المنظور الإبستيمولوجي. من هذا المنطلق المعرفي الخاص، لا يمثل النقد الأدبي ممارسة واحدة، لأنه يحيل من الناحية العملية على ممارسات خطابية متعددة، تختلف في موضوعاتها ومقارباتها المنهجية وقنوات توصيلها، بسبب اختلاف السياقات التي تنتج فيها. مبدئيا يمكن التمييز بين خطاب "التنظير الأدبي" الذي موضوعه "النظرية الأدبية" ويسعى إلى تطوير مناهج الدراسة الأدبية، وسياق إنتاج هذا الخطاب التنظيري هو الجامعة ومراكز البحث الأكاديمية والمجلات المتخصصة. بطبيعة الحال، لهذا الخطاب التنظيري في السياق العربي إشكالياته الإبستيمولوجية، والتي يمكن تلخيصها في كيفية التعامل مع النظريات والمناهج الغربية، وملاءمتها في مقاربة الإبداع العرب، بما يجعلها منظورات كاشفة لجماليات النص العربي وأبعاده الدلالية وليس مجرد تطبيقات آلية لقوالب جاهزة تفتقد للقدرة الإبداعية المنتجة. على الجهة المقابلة لهذا الخطاب التنظيري يمكن الحديث عن النقد الصحافي الذي ينتج في إطار الإعلام الثقافي، وتتحدد وظيفته في قراءة ومتابعة ما ينشر من نصوص. وتكمن أهمية وخطورة هذا الخطاب الصحافي في الآن نفسه، في أنه يقوم بدور الوسيط بين الإبداع العربي وجمهور القراء؛ وهو المسؤول عن رفع الذوق الجمالي للقراء. وهنا تكمن المشكلة، إذ نلاحظ تدني المستوى المعرفي والذوقي لهذا النقد الصحافي، بفعل التحولات التي عرفتها الثقافة العربية، خاصة بعد أفول المجلات الأدبية والثقافية العربية الرصينة التي كانت تشكل الذوق الأدبي للقراء والكتاب، وتساهم في صياغة "القيمة الأدبية" في الحقل الأدبي والثقافي. انتهى هذا الزمن الثقافي الجميل، وحل محله زمن "تسليع الثقافة" وإفراغها من وظيفتها النقدية. وللأسف انعكس ذلك سلبا على وظيفة النقد الصحافي، الذي أصبح الفاعلون فيه هم أشخاص في الغالب يفتقدون الثقافة الأدبية، وتحول مجال الإعلام الثقافي إلى محفل علاقات عامة ومصالح متبادلة، أفرغت النقد من وظيفته الثقافية المشيدة للذوق الأدبي والكاشفة للقيمة الأدبية الرفيعة، لفائدة "نقد" مجامل وخدماتي، يُكتب تحت الطلب وعلى قاعدة المصلحة المتبادلة، وبالتالي ليس له أي سؤال معرفي أو ثقافي.
إن هذا الواقع النقدي الذي تغيب فيه أخلاقيات النقد، هو الذي يسمح لأصوات نقدية متورطة في لعبة المصالح أن تسود، بالتواطؤ مع جهات مؤسساتية تعمل على إفراغ الثقافة من وظيفتها النقدية وتحويلها إلى ثقافة سائلة وناعمة لا تزعج السلطة في استراتيجيتها السياسية من أجل الهيمنة الثقافية على المجتمع. ورغم هذا الواقع النقدي والثقافي المتشائم، يبقى النقد الأدبي الجاد- سواء في صورته التنظيرية الأكاديمية أو النقد التطبيقي الرصين الذي ينتج في سياق الحركة الثقافية العامة- يمثل مرجعية علمية وثقافية للقيمة المعرفية والأدبية في الثقافة العربية. وهكذا، أخلص إلى أن مأزق النقد العربي، يعكس إشكالية سوسيو - إبستيمولوجية مركبة.

 

حاتم الصكر: الحيوية النقدية ماثلة، ما يُرى منها ويُحَس
وما يكون تحت البنى الظاهرة للحركة النقدية
بعض فقرات السؤال تحمل إجابات قاطعة أجدني مختلفاً معها، وفي مقدمتها إطلاق حكم مسبق على النقد الأدبي العربي بالاحتضار، وعدم القدرة على مواكبة التجارب، وبتغييب الأصوات الجادة من المبدعين، والنقاد الجدد أيضاً. لديَّ قناعة بأن النقد ظاهرة أو فاعلية حضارية، والتنكر لأهميتها إلغاء لمظهر عصري يؤازر مشروع الحداثة في الحياة والفن على السواء. أما الاتهامات المكررة (كالقول بأن الناقد مبدع فاشل، أو بأنه طفيلي يعيش على نصوص الآخرين ولا يبدع نصه، وسوى ذلك) فما هي إلا تصغير لدور النقد في الحياة ذاتها، لا في الفاعليات الثقافية فحسب.
وسط هذا الاشتباك سأحاول أن أجد طريقا للإجابة، بدءاً من رفض الحكم على النقد بالاحتضار ودخول غرفة الإنعاش. فالحيوية النقدية ماثلة: ما يُرى منها ويُحَس، وما يكون تحت البنى

الظاهرة للحركة النقدية. فترسيخ الأشكال والأنواع الأدبية الجديدة هو من المحصول النقدي الأدبي عندنا، وثمة أمثلة كثيرة لحيوية النقد، منها ترسيخ الحداثة في الكتابة الشعرية عبر استقرار قصيدة النثر نوعاً شعرياً قارّاً، وتقنين إيقاعاتها ولغتها، والتعريف بتجاربها، وتقنين الكتابة السير ذاتية في السرد العربي الحديث، والتنظير لمشكلاتها ومتطلباتها. هذان المثالان من الشعر والسرد نموذجان فقط لما هو قائم، بجانب الدراسات المقارنية التي أفلحت في استكناه الإتجاهات الإنسانية في الأدب العربي، ومشاركة المبدعين سواهم في المشكلات والأسئلة الوجودية الكبرى..
ومن ثمار الكدّ النقدي الأدبي العربي مراجعة التراث النقدي وإضاءة جوانبه المغيّبة بفعل سيطرة الأنساق التقليدية زمناً طويلاً. كما أعادت ترتيب العلاقة بالتراث بشكل عقلاني بعيداً عن القطيعة التامة من جهة، أو التبعية العاطفية من جهة أخرى.
لقد تمت الاستعانة بالمنهجيات النقدية الغربية، وليس هذا مثلبة أو منقصة للنقد العربي كما سيتهمه القائلون بلا جدواه. فهذا التثاقف دليل عافية لا ظاهرة مرضية تعكس فوبيا الفكر الآخر. ولعل هذا هو أبرز جوانب الكفاح الاجتماعي والفكري للنقد ودوره التحديثي. فالتثاقف يفتح أفق المعرفة ولا يحدها أو يمنع توسيعاتها، كما يعطي أمثولة بليغة وواقعية عن إمكان قراءة الآخر المعرفي والثقافي والمنهجي، لا بكونه صادراً عن بيئة معادية بسبب السياسة والمواقف العدائية، ولكن بكون الآخر ذا همٍّ مماثل على المستوى المعرفي والإنساني.
في الجانب التداولي للنقد الأدبي العربي يلامس السؤال بعض الحقائق فيما يغفل أخرى. فمن المفهوم وجود فراغ واضح في متابعة النتاج الأدبي العربي؛ لكثافته وتعدد مراكزه وتباعدها، وأثر السياسات القطرية في إبعادها عن دائرة المتابعة التي تستحق. ولكن الواقع يقدم واقعات وأحداثاً تثبت أن النتاج الإبداعي يحظى بالعناية النقدية بعيداً عن بريق الأسماء الكبيرة المكرّسة، أو تلميع المؤسسات المختلفة لبعضها، أو مجيئها في حمّى السباق التنافسي الكبير على الجوائز المتعددة، رغم أن النقد ذاته حظي بنصيب في فروعها المختلفة. وهو إثبات إيجابي لوجود الحركة النقدية المعاصرة في المشهد الثقافي وعدم غيابها او احتضارها.
كما تشكل الصحافة الثقافية المتراجعة والغائبة نسبيا والمهتمة بالظواهر العامة التي ترضي أفق تلقي قرائها العاديين، سبباً آخر في محدودية المتابعة النقدية للنتاج الثقافي. وتحاول المواقع الثقافية تعويض ذلك النقص، ولكنها تقوم هي الأخرى غالباً بتضييق مدى الكتابة فيها لصالح التداولية الاجتماعية أو السياسية.
لقد حلّ النقد المتعجل والسطحي عبر وسائط التواصل الاجتماعي محل النقد الأدبي المنهجي الرصين، وهو أمر تشكو منه آداب أخرى في عالمنا. وهنا أشير إلى كتاب رونان مكدونالد (موت الناقد) الذي يعاين المشكلة من منظور معاكس للسائد من اتهام النقد بالتقصير، بل يرى أن النقد أزيح من المشهد وجرى تغييبه لصالح ملاحظات عابرة وعاجلة يقدمها المدونون الإلكترونيون أو المواقع الجماهيرية بديلاً للنقد الأدبي الجاد. فيتحدثون مثلاً عن لوحة الفيلم دون الحديث عن الفيلم نفسه! ويشيعون بذلك ثقافة نقدية شعبوية وسطحية.
أما النقد الأكاديمي فقد بدأ يجفف عزلته، ويفتح نوافذ المدرسة المغلقة لتدخل رياح التجديد، وصار ممكناً دراسة التجارب الحديثة وأشكالها بحرية تجافي التابوات التي عرفها جيلنا بوجه كل ما هو غير تقليدي أو نمطي. وهذه علامة صحة أخرى لأن الدرس الأكاديمي يتيح عقلنة الكتابة النقدية ومنهجيتها بحكم أعراف الدرس الأكاديمي ومتطلباته.
بالمقابل ثمة أسئلة معرفية- لا إجرائية كالتي ذكرتها-  مثل السؤال عن أخلاقيات النقد، والحدود الفاصلة بين النقد الأدبي والدراسات الأكاديمية، وضرورة النقد للمبدع ومسؤولية الناقد عن النزاهة الفكرية، وفلسفة النقد ودوره في بناء المجتمعات وتحصينها من الدكتاتورية الفكرية.
وهي كلها ذات أهمية وبعجالة سأذكر أن منهجية النقد تفرض مجافاة المجاملات الإجتماعية في الكتابة النقدية، وهذا أمر لا نراه بما يجب أن يكون عليه، لتعدد أوجه المحاباة في الكتابة وطنياً ونوعياً وحزبياً، أو لعلاقات اجتماعية تختلط بالتجرد النقدي وفاعليته الحضارية. ولكن الحملة على النقد ستنطوي على اتهامه بالغياب أحياناً لأنه يغفل الاحتكاك بالنتاج الخاص بالشخص الذي يوجه التهم. وهذا وقوع مقابل في فخ الإخوانيات والمجاملات؛ لأنه يفترض أن مهمة الناقد مباركة ما يصل إليه من وسطه الاجتماعي.
وأعتقد أن المبدع يجب أن ينظر إلى ما يقدم النقد من ممارسات حول نصوص متنوعة بكونها حرثاً في أرض الإبداع: حيث ينبت الشعر كي تثمر القصيدة فيتفحصها النقد احتكاماً إلى نوعها الجديد وشكلها الكتابي الحديث، وما وفد معها من نُظم وآليات تخص اللغة والإيقاع والعلاقة بالسرد. السرد أيضاً سوف يتسلق الجدران ليطل بملفوظه الجديد من الحكي الذي سيخضع عند قطافه لمنهجية نقاد السرد الذين منهم نقاد عرب معاصرون، ساهموا في إنقاذ خطاب السرد النقدي من الإنطباع العائم والدردشة حول الفكرة والحبكة؛ ليدشنوا عصراً نقدياً جديداً يسير وفق مقاييس علوم السرد وشعريته وآلياته وإجراءاته، وتنوع أشكاله، وصولاً إلى رواية السيرة الذاتية، ودورها في الحرية الإجتماعية ومعرفة الذات.
هل كنت شديد التفاؤل كالمبتسم في محفل تشييع؟ هل أغفلت سلبيات النقد، كغياب الرؤية عن بعض ما يُحسب نقداً؟ عن هجران الطابع الأدبي للنقد في وهم إنجاز نص نقدي علمي؟ هل أغفلتُ ما سببتهُ دراسات النقد الثقافي من ابتعاد عن أدبية النقد واكتفت بوصف الظواهر دون متونها النصية؟
ذلك كله مسكوت عنه هنا، ومفتوح لمناسبات أكثر سعة ومساحة.

 

محمد الشحات: النقد ليس غائباً كلياً عن
المشهد الثقافي العربي كما يشيع الكثيرون
ليس ثمة أوصياء على الأدب أو الأدباء. ولا يكمن دور الناقد، أيّ ناقد، في تنصيب نفسه وصيّاً على النصوص الأدبية وأصحابها. وما لم يستطع الناقد العربي المعاصر تشكيل جهازه المفاهيمي الواعي بحدود النظرية وخبرات الممارسات القائمة عليها أو حولها، كما يراعي خصوصية النص العربي وخصوصية لغته وأساليبه وتراكيبه وسياقاته وإحالاته ورموزه، جنبا إلى جنب خصوصية مرجعياته وثقافاته وتاريخيته، فإن خطابه النقدي لن يعدو كونه اجترارا لأفكار ومفاهيم نظرية "مستلبة"، أو مغتربة، سوف يصعب أولاً استنباتها في التربة العربية، كما سوف يسهم ثانياً من حيث يدري أو لا يدري في ازدياد الفجوة الحاصلة بين النقد الأدبي والجماهير، وسوف يزيد ثالثاً من حيث يعلم أو يجهل في عزلة الأدب عن الناس والحياة والمجتمع.
النقد ليس غائباً كلياً عن المشهد الثقافي العربي كما يشيع الكثيرون، بل هو نشاط إبداعي وثقافي موازٍ لموجات الحرية السياسية والدينية والعدل الاجتماعي. ومع ذلك، ففي السنوات الأخيرة، شهدت الساحة الثقافية العربية بالفعل عدداً من الكتابات النقدية التي لا تخلو من منطق المجاملات التي قد تُعلي من شأن بعض الكتّاب من أنصاف الموهوبين على حساب آخرين أكثر منهم خبرة ووعيا فنيا، لكنّ لذلك أسبابه الكثيرة، حيث أصبح الصحافي المبتدئ ناقدا والشاعر المتواضع ناقدا، وكل من لا حرفة له يتجه إلى ممارسة النقد، ظنّا منه أن النقد مجرد كلام على كلام. من جهة أخرى، من يتابع المشهد الثقافي العربي، يجد أنه تطلّ علينا يوميا عشرات الكتب والمطبوعات التي تشمل مجالات الفنون والثقافة المختلفة (من شعر وقصة ورواية ومسرح ونصوص فكرية وتاريخية وسياسية.. إلخ) عبر نوافذ صفحات المتابعات وعروض الكتب والإعلانات في الجرائد والمجلاّت السيّارة المتراكمة فوق أرصفة ونواصي المدن العربية المختلفة، ولا قدرة لناقد أو مجموعة من النقاد على مواكبة كل هذا السيل المتدفق. وعلى الرغم من ذلك، فثمة إحساس، مرتبط بدلائل وإحصاءات واقعية، يشير إلى ضعف الحراك النقدي الذي تعيشه الثقافة العربية المعاصرة في السنوات الأخيرة. فالحركة النقدية العربية بصفة عامة، والمصرية على وجه الخصوص، لم تستطع مواكبة التحولات النّوعية - كمّاً وكيفاً- التي تفرزها النصوص الجديدة من تقنيات مختلفة وعوالم وفضاءات وأنماط شخصية وأساليب كتابة بالغة الجرأة والمغايرة. وهي نصوص تحتاج إلى أجيال من شباب الباحثين والدارسين والنقّاد "الجدد" - لا بالمعنى "العمري" فقط، بل بمعنى الوعي الجديد، والذائقة المغايرة، ابنة عصر الصورة وثقافة الحداثة، والنصوص الحرة- حتى يستطيعوا رصد معالم الخارطة الإبداعية الجديدة التي تسعى إلى إحداث تغيير جذري في مفاهيم كنّا نظنّ أنها راسخة وأبدية كـ"الفنّ" و"الأدب" و"السياسة" و"الحرية".
ومع ذلك، فازدياد نسب القرّاء في هذا القطر العربي أو ذاك لا علاقة له مطلقا بازدهار حركة النقد العربي، فليس كل ما يُنشر من شعر أو قصة أو رواية ينتمي إلى الأدب الجيد أو الفن الجيد أو الفكر المتقدّم أو الثوري أو النهضوي أو التنويري،.. إلخ. فالنقد مساءلة واعية لحركة النصوص والكتب وتاريخ الأفكار وعلاقة الإنسان بالعلم والنظرية والفلسفة والدين.. وغير ذلك. لذا، فتكوين الناقد الموهوب، المستنير، تكوين مرهق، مُكلِف، يحتاج إلى مؤسسة أو بيئة حاضنة تتمتع بالحرية السياسية والانفتاح الثقافي والمعرفي على الحضارات والثقافات والآداب المجاورة.
ولا أظن أن بلداننا قد استطاعت التخلص من القمع السياسي والكبت الديني والقضاء على الفقر والبطالة وتغوّل العشوائيات المتوحّشة، وانتشار أشباه المدن الشائهة، المعلّبة، والمسيّجة، بما

يحمي الأثرياء من ثورة الجياع؛ لا أظننا قد تخلّصنا من ذلك كله، حتى ندّعي أننا أصبحنا نمتلك حراكا نقديا مؤثّرا في المشهد الثقافي والسياسي المصري أو العربي أو العالمي.
للأسف، لقد أصبح النقد حرفة من لا حرفة له. فأصبحنا نسمع عن الصحافي الناقد والشاعر الناقد والروائي الناقد، وهلم جرّا. ومثل هذه الحالات أغلبها غير صحي، باستثناء بعض الكُتّاب الموهوبين الذين استطاعوا الجمع بين الحرفتين في توازن رهيف، ويمكن أن نذكر منهم مثلاً طه حسين والعقاد وشكري عياد وعز الدين إسماعيل وإدوار الخراط وغيرهم. وهي نماذج، في ظني، من الصعب جدا تكرارها في العصر الحديث، فتكوين الناقد المعاصر أصبح أمراً يحتاج إلى تفرّغ واعتكاف على متابعة كل ما تطرحه الأسواق من كتب ودراسات في النظرية الأدبية والنقدية ونظرية الفن والفلسفة وعلم السياسة وتحليل الخطاب.. إلخ.
من هنا، لا أتفاءل كثيرا بترك مهمة النقد لغير المتخصّصين - حتى وإن كان بعضهم موهوبا بالفطرة- ممّن لا يمتلكون وعيا كافيا بحدود النظرية الأدبية والنقدية، ولا وعيا أو خبرة كافية بتقاليد الأنواع الأدبية وتحولاتها المتسارعة، أو نظريات الأدب العالمي، وتحوّلات النماذج الإرشادية المعرفية وفلسفة العلم وحركة التاريخ. كذلك، ومن ناحية مقابلة، لا أتفاءل كثيرا بعزوف النقد الأكاديمي عن تحليل بعض الظواهر الفنية والثقافية التي تفرزها الشوارع العربية، ولا بتعالي المؤسسة الأكاديمية ذاتها على أنماط الكتابة الحداثية وما بعد الحداثية والنصوص المفتوحة والتجريبية والثقافات الشعبية، بحجّة الحفاظ على الذائقة الجمعية أو الذوق العام. وكلاهما إيذان بموت النقد وتكلّسه في متاحف الأكاديميات والمعاهد والجامعات. وهنا مكمن الخطر القادم.
ليس الناقد وحده هو المنوط به ممارسة هذا الدور من أجل الارتقاء بالمشهد الثقافي العربي. وكما قلت سابقا، ليس ثمة أوصياء على الأدب أو الأدباء. ولا يكمن دور الناقد في تنصيب نفسه وصيّاً على النصوص الأدبية وأصحابها. فالنهوض بالمشهد الثقافي في أي قطر عربي رهين بوجود ناقد جاد موضوعي، ومبدع يشتغل على نفسه ويسعى إلى التطوّر والنموّ، وناشر يمتلك فلسفة في اختيار الكتب والنصوص، ويمتلك محرراً ثقافياً متميزاً يضع أنامله على مواطن القوة والضعف قبل السقوط في فخ النشر الأعمى أو الأهوج، ومؤسسة ثقافية غائبة ينبغي إحياؤها، وأكاديميات وجامعات ومعاهد علمية غير منقطعة عن مواصلة كل ما هو جديد، وأخيرا، شعوب عربية فقيرة طامحة إلى العدل الاجتماعي والتأمين الصحي والتعليم الجيد والحرية السياسية.