Print
مناهل السهوي

شعراء مُدن بحريّة: كيف تصنع المياه قصيدتها؟

12 يوليه 2019
هنا/الآن
يؤدي مكان الولادة دوراً أساسياً في تشكيل الوعي الأول للإنسان. ويؤكد غاستون باشلار أهمية المكان في التكوين الشعريّ للإنسان: "على كلّ شعريّة أن تتلقى مكونات تبقى – مهما كانت ضعيفة – ذات جوهر مادي". يضيف أن مسقط الرأس والمادة الأساسية الموجودة فيه تشكل أحلام شاعرها وخياله. من جهة أخرى، يؤنث باشلار المياه، كالسواقي والأنهار والبحيرات، لكنه يذكّر البحر، فبرأيه البحر عنيف ومؤذ، والعنف ينسب للذكر.
تبقى علاقة الشعراء الذين ولدوا في مدنٍ بحريّة بالشّعر ذات خصوصية، ليس بسبب البحر وحسب، بل لأنهم ومع الوقت يتطبعون بصفات الماء، وينتمون لها فيغدو شعرهم منطلقاً من خيالات الماء، ومرتكزاً عليها في صوره وانفعالاته الداخلية. وربما يبدو الشعراء البحريون أكثر تطرفاً بمشاعرهم مهما كانت، والتطرف هنا نعني فيه الذهاب إلى الحدود القصوى من حبّ أو عزلة أو مكاشفة جسدية أو نفسية، فالبحر الذي يمتد بكل هذه الجرأة والثقة ربما يمنحهم ركيزة قوية لانفعالات أكثر وضوحاً، وفي الوقت ذاته تميل لتكون غير محددة تماماً. لسنا في صدد تحليل هذه العلاقة بقدر ما نريد اكتشافها عن طريق شعرائها ذاتهم، كيف يرونه وكيف يخاطبونه، ما الذي يربطهم شعرياً بالبحر؟ وكما يقول فيكتور هوغو "الماء مليء بالمخالب" فهل حقاً تعرّف الشعراء إلى تلك المخالب؟
لفهم هذ العلاقة أكثر توجهت "ضفة ثالثة" إلى عدد من الشعراء السوريين الذين ولدوا قرب البحر، لسؤالهم كيف صنع البحر قصيدتهم؟ وكيف يصفون النفسية المائية لديهم؟ والشعراء الذين وافونا بشهاداتهم في هذا الشأن هم حسب الترتيب الأبجدي: أحمد م. أحمد، إياد حمودة، سوزان علي.

أحمد م. أحمد (طرطوس):
وجدتُني شبيهه المُصغَّر
ولدتُ قربه. كان أقرب مما هو الآن، أي قبل مشروع ردم الكورنيش و(تحسينه). كان أقرب، وفي الشتاء يقترب أكثر، يحكّه الهواءُ فتفوح رائحته، يصل هديرُ موجه أوعيتي الشَّعرية، ويرسل رذاذه ليترك الملح على زجاج النافذة والصدأَ على حديدها، في البدء كانت رائحته، وصوتُه، وملحه، وصدأه.
في رائحة البحر، التي لم تعكّرها إلا رائحة طبخة (البرغل بحمّص) اليومية، عرفتُ الرغبة مبكراً، فكان زغبُ ساعديّ الصغيرين ينتصب وأنا أتفرج من النافذة على بنات الحارة من جيلي عند عودتهن آخر الظهيرة وقد التصقت أثوابهن المبللة بأجسادهن الغضّة، وكانت القطرات تتساقط عن الأجساد الصغيرة على شكل كرات تتجمع فتشكّل خيوطاً مائية دقيقة تنسرب فترسم خطوطاً دقيقة في صفحة الرمال الملتصقة بالسيقان. أتذكرُ، في سنة 2010 قلتُ لصديقي د. نور الدين ونحن نشرب القهوة على شرفتي البحرية: "أشمّها الآن، أشمّها". وأخذتُ شهيقاً عميقاً، "أشمّ تلك الرائحة القديمة الحبيبة، تصوّر يا نور أني كنتُ في كارولاينا الشمالية أذهب في رحلات صيد بحرية أطلسية طلباً لهذه الرائحة التي لم أشمها هناك أبداً، أبداً؛ ولا أعرف لماذا، أليس البحر ذاته والماء والملح ووو..؟". ضحك د. نور، بل قهقه، وأجاب: "هذه رائحة المجاري يا ذكي!". قلتُ: "يا للرائحة الطيبة! وطنٌ عذب وقاسٍ". وأطرقتُ طويلاً.
في الليل، يعلو صخب الموج كأنما يذكرنا بأنه ساهر، وهو حارس الخير، الحارس المخيف، كمثل ذلك العجوز حارس أرض البرتقال الذي كنا نتضاحك ونحن نفرّ من أرضه بمسروقاتنا، وكلما وقعنا في قبضته، تركتْ عصاه على أقفيتنا خطوطاً بلون البرتقال، بقي صوت البحر في الداخل، الصوت الذي استيقظَ ذات يوم حين فتحتُ كتاباً صغيراً لنيرودا، مائة قصيدة حبّ/ في حبّ ماتيلدا والبنفسج والفؤوس؛ في قصيدة "الفقر"، أتذكر منها: عرفتك أيها الفقر/ كنت

أسمعك من خلال شقوق الباب/ أراك كلما رفعتُ غطاء الصحن.
(المِلّاح) هو الريح الخفيفة المشبعة ببخار الماء المالح، التي تهب من البحر فتترك الصدأ على الحديد، وتهري الخشب وبشرة الوجه، ويعرف الساحليون الصدأ أكثر من غيرهم، ومع الوقت يصدأ آباؤنا وأمهاتنا مبكراً، اشتكتْ أمي في زمن ما أنّها (الآن في الخامسة والثلاثين، وأصابنا الصدأ يا بنيّ..) وأما جيلنا فكان يتسلى بتقشير الصدأ عن الأبواب والأسرّة الحديدية، وأبداً كنا نصل في معاندة الصدأ إلى الطبقة اللامعة من المعدن، وحين أهدانا البحر دلفيناً، خضنا في مائه حتى رقابنا، زقزق الدلفين وهو يسبح قريباً منا، كان يقول شيئاً ما لم نفهمه، لكننا عرفنا الغبطة الأعمق في تلك الدقائق، قبل أن يترجل أحدهم من سيارة حاملاً بندقية حربية أفرغ مشطها في الدلفين وبعد أشهر أنزلنا (زَوْلٌ) غريب عن ظهر سلحفاة بحرية عملاقة، هرمة، كانت تعبر الشريط الرملي، فأفرغ هو الآخر مشطاً في درعها، استغرق تحلّل بقاياها الصيف بأكمله، وستستغرق صورة قتلها وقتل الدلفين العمرَ، كل العمر.
في قسوته وحنوِّه، في ضجيجه وسكوته، في زرقاته التي تتراوح بين سماوي يدلق فيَّ دلاء الغبطة الموجعة، وبين رمادي مكفهر حرون، يقلبُ صفحات دخيلتي ويبدّل أطواري، فأصبح متعدداً ومجنوناً مثله، وفي الرائحة والأحاسيس والتلونات والرعشات الألف التي استطعتُ أن أحصيها في هذا الكائن المسمى أ. م. أ. وجدتُني شبيهه المُصغَّر: أبتلع كلّ شيء، أتقيأ كلّ شيء، أرسلُ مائي في كلّ شيء، وأفتح عمقي لكلّ شيء، وجدتني غضوباً، نزقاً، وهادئاً، فسيحاً أحياناً؛ تتحلل فيَّ الأشياء وأنحلّ فيها، أصمتُ وأعربد و.. و... و.
البحر هو نصّي المزاجي، السكونيّ المتموِّت أحياناً، والدفاق والهادر؛ النصّ الذي يُطلق رائحة جيَفه التي يستطيبها مازوشيّو هذه الأوطان الآيلة إلى الأفول، النص الذي ينبض بالدلافين وأسماك القرش، بالصفاء والعطن، وبغرقى كثيرين أنا منهم.
البحر هو ذلك الماء الذي لا يرتوي من الماء، ذلك الأب الذي أحاولُ قتلَه فيَّ/ أنا- آخر آبائي، مَن أطعمتُ ماءه منذ أمدٍ قريب أجملَ ما كُتبتُ مما لم ولن يُنشر، لكن محارةً بحرية قد تقوله ذات يوم.

إياد حمودة (بانياس):
لا تولد وحدك قرب البحر
أولاً لا مفرّ من أن أعارض باشلار في جزئية تذكير البحر، وأذكر هنا أن كازانتزاكيس أنّث الربيع والبحر في كتاباته، البحر ليس عنيفاً بل واقعيّ، يمارس طبيعته فقط، البرّ أكثر عنفاً وقسوة.
بطبيعة الحال أوّل ما تتفتّح عينا الوليد على العالم تكونُ الأمّ، العائلة، ثم البيئة المحيطة، تلك التي تتلقى أولى تفاعلات حواسه كلها وهي أوّل ذاكرةٍ بصريّة مخزونة ولعلها الأقوى.
عندما تولدُ قرب البحر، لا تولد وحدَك بل تخرج الى العالم مع توائم عدة، الاتساع، الأفق، العمق، الاسترسال، كلها معانٍ تتعامل معها مع بداية حَبوك، مع أول نزهةٍ يصطحبك فيها الأب الى الشاطئ وهي بالمحصّلة تتحوّل الى مفاتيح، لا تسقط منك، لا تضيع ولا تتلف، بل تعتاد استخدامها، تلك الدهشة الطفلية بهذا الكيان الذي اسمه البحر لا تكتفي بأن تكون دهشةً لحظيّة بل تستمر وتمتدّ وتؤسس لطفلٍ أبديّ في داخلك لا يكفّ عن الاندهاش بأشياء كثيرة.
كان البحر مسرح المخيّلة للصبيّ الذي لم يكن يعرف ما إذا كان سيصبح شاعراً، كان ممارسةً يوميّة مثل النوم والاستيقاظ وتناول الطعام، لم يكن يبعد عن منزلنا أكثر من مسير خمس دقائق، وبين المنزل ورمال الشاطئ تتمدّد حقولٌ من الشوك، كان صوت هياجه في عواصف الخريف والشتاء يطرق الجدران في الليل ويتجسد في أطياف وغيلان وكائنات خرافيّة، غير أنه في ضوء النهار يعود أليفاً ومحبوباً. علاقتي كطفلٍ بالبحر انتقلت لتكون هي علاقتي كشاعرٍ به ومع انفتاق وعي الصبيّ الذي ينضج ويصير شاباً يزداد الجموح ويصير البحر الاستعارة

الأولى والأهم لتصوير الحب والمرأة الحبيبة، الطبيعة التي تحيط بك بكلّ عناصرها، تنزاح لتصير لغة وبقدر ما تتورط بحواسك مع هذه العناصر تتبلور قدرتك على عجن مفرداتها لتشكيل الصورة الشِعريّة، على استحضار كل انفعالاتك الجوّانيّة لتراها عبر موشور البيئة التي تحفظها وتنصهر فيها وتعرف خفاياها وألاعيبها و أسرارها، ليس من السهل الانغماس في كلّ ذلك ما لم تكن تكنّ كلّ الحبّ اللازم.
أول دروس البحر هو أن تتفهم ضآلتك، ألّا تتصادم معها، ألا تجعلها تعيقك بل أكثر من ذلك، أن تسعد بها، إنه ذلك الضعف النبيل الذي من السيء ألا يكون أحد مكوناتك ككائن وكيان ووجود. لا أظن أن ثمة موضوعةٌ عالية القيمة فيما أكتبه لم يتورط البحر في بلورتها وتحديدها وتكوينها وفي الحد الأدنى له أثر الفراشة، البحر هو العلاقة الأنثوية، في الشِعر تضيع خطوط المرأة في خطوط البحر، تتشابك تتشارك، في تاء التأنيث ونون النسوة، البحر هو الأب والأم اللذان ترث منهما طباعك كإنسان، أبناء البحر نزقون ورائقون، متقلّبون وعميقون. بالتأكيد لا يمكن سوى القول إن الشاعر الذي ولد قرب البحر، شعره مصنوعٌ في ورشة البحر.


سوزان علي (اللاذقية):
أطلُّ على العالم من ورائه
البحر فسحة هائلة للتوتر والغموض وعدم الاستقرار، لم أجد في مشهده المُطلّ على بيتي وشرفة غرفتي يوماً سوى هذا التأرجح بين البقاء والعدمية، بين الجذور والهواء، بين السطح الهشّ المغادر والأعماق المكبوتة العنيدة، لذلك كنت أحبّ الجبال في اللاذقية أكثر من البحر شبهي الضال، كنت أريد غيري. مشهد ليس له علاقة بيدي وعيني وبصيرتي، وعندما ابتعدت عن اللاذقية وساحلها العجوز جلست في دمشق أكتب عن تلك الثنايا وأتذكرها موجة موجة وكأنني لم أكن شرفة أو نافذة هناك، لقد كنت حبة رمل، حصى، نورساً مهاجراً فوق حبل

غسيل أمي. يدخل صوت الماء في خلاياك دون إذن ودون تمهيد مسبق يصبح اللاوعي أزرق يتهادى ويلطخ كلّ شيء أعيشه وأمحوه وأرسمه مجدداً.
عاش البحر بين أضلعي خمساً وعشرين سنة وصرت مرساة في غيابه أشعر بأعشابه تحت إبطي حتى الآن، أن تفيق على صوت البحر، أن تحفظ في اليوم والشهر والسنة صيرورة مزاجه ولونه كيف يتدرج في المدى ليصبح حقيقياً، لصّاً على الشاطئ وكامرأة تثيرها الرائحة، أفكر دوماً كيف كان البحر رجلاً في جلسات المساء يدفع بمائي لتمتزج في مياهه وأصير موجة.
كنت أحسد السفن المغادرة وصفيرها عندما يجعل أستاذ الفلسفة يصمت وبدل أن يكلمنا عن المنطق والمسلمات يفتح النافذة وينظر إلى الرحيل وآثاره فوق الموج. عشت في بيت يطل على البحر من جميع الجهات، وعندما ارتفعت الأبنية المخالفة طوابق طوابق وحجبوا عن بيتي البحر، انفتحت مخيلتي وأرتني وجه البحر القديم الذكي اللاسع.
وهنا في دمشق وفي أي مكان تطأه قدميّ أطلُّ على العالم من وراء بحر متوسطي أبيض، صوتي وشكل أنفي وحركة يدي هي من تقاليد المتوسط، قلقي وقصائدي هي من ذاك الشاطئ الفقير المنهك بصياديه العجائز الذين لا يصطادون غير الصمت وقواربهم أشبه بشجرة مقطوعة أول الفجر، وكلما قرأت توتري في الشارع في المقهى أتذكر فردة حذاء زرقاء رأيتها تطفو قربي يوماً في وسط المتوسط الحزين وفي جوفها ذيل سمكة ذابل.