Print
أشرف الحساني

الثقافة العربية المعاصرة وثنائية المثقف والسياسي (4/3)

1 يوليه 2019
هنا/الآن
إشكالية الثقافي/المثقف والسياسيّ/السياسة فكرة خامرت العرب منذ مطالع القرن التاسع عشر، فنشأت حولها عمارة معرفية دشنها وأسس لمسارها الفكري مثقفون فطاحل، ثم خاضت فيها أجيال عديدة صراعات فكرية متباينة، بين من تمجد من قيمة الرأس المال الرمزي الثقافي على حساب السياسي والعكس أيضا، كما اختلفت طروحات ومنطلقات هذا التصور حسب كل مرحلة من مراحل التاريخ العربي. ومع ذلك ظلت ثنائية "الثقافي والسياسي" من الثنائيات الفكرية الكلاسيكية، التي ما تزال تستحوذ على الفكر العربي المعاصر في السنوات القليلة الماضية، خاصة بعد الفوران، الذي شهدته المنطقة العربية، فيما سمي داخل بعض الأدبيات الصحافية بالربيع العربي، أو الربيع الديمقراطي، حسب بعض الجهات الأخرى، التي تراءى لها الانفلات من هذه التسمية، التي يخيل إليها أنها قد تخل من كرامتها وتحرجها أمام الرأي العام الدولي وأمام التاريخ حسب زعمها، لذلك لم تتوقف عن تصويب متاريسها الفكرية الدعوية صوب هذه التسمية الجريحة، التي كشفت استبدادية أنظمتنا السياسية وعرت عورتنا الثقافية وبنياتنا الاجتماعية بفقرها وجهلها وعجزها المميت عن محاكاة حركات التحرر الشعبية، التي شهدتها بعض الدول منذ مطالع القرن العشرين.
في هذا الملف الخاص تعيد "ضفة ثالثة" ترميم بعض شروخ الذات ومزالقها من خلال محاولة إعادة طرح موضوع تبعية الثقافي للسياسي للنقاش ومساءلته بمعية عدد من الشعراء والنقاد والباحثين والكتاب العرب على اختلاف مشاربهم الكتابية والبحثية، لا للضغط على الجرح، وإنما لإعادة بناء تصورات هذه الثنائية المستعصية على الفهم داخل الثقافة العربية المعاصرة، ونقد أزعوماتها وأغاليطها وتشخيص بعض من أعطابها مع اقتراح حلول للرقي بها.
هنا الجزء الثالث منه:

حسين السلمان، كاتب ومخرج سينمائي عراقي:
المثقف والسياسي توأمان
قطعاً هناك تباين في وظيفة المثقف والسياسي.
وعموما هناك هيمنة كبيرة للسياسي على أصعدة كثيرة، وهي هيمنة تدميرية تعمل على فرض قراراتها وإجراءاتها التي غالبا ما تكون مغلفة بغيبيات دينية، وهي شكل من أشكال الأقنعة التي تضعها السلطات السياسية على وجوهها كمدخل تقارب من عامة الناس، وهي في حقيقتها شكل من أشكال تخلف الوعي المجتمعي.
يبدو أن الإشكالية متواصلة الاستمرار، لأنها أساساً تستند إلى المفهوم وما يرافقه من اعتبارات يخلقها الزمن أيضاً. كما يلعب القلق الذاتي دوراً في تقوية هذه الظاهرة وتتويج غلبتها وفعاليتها. ولعل العنف هو واحد من الأسس التي ارتكزت عليها الجماعات والأفراد في تصفية خصومهم، ليس الفكريين، وإنما خصومهم السياسيين، بمعنى التمركز على حيازة السلطة، كما فعل بنو العباس، بل تفنّنوا في تصفية خصومهم. ولنا في أحداث التاريخ درس مهم يُعطينا

فرصة التروي، وهو الحاصل عند المثقف الذي يعي أسس الظواهر ومنطقها.
وفي ما نسميه الإشكالية التي تقود إلى التطرف، لو أخذنا المثقف مثلاً، وهو الأقرب لنا، لوجدنا تبايناً بيّناً في معظم تشكّلاته. فمجموع المثقفين تتباين لديهم الرؤى، بسبب مصادر وعيهم، وانحداراتهم الطبقية والاجتماعية والأسرية، كذلك مصادرهم المعرفية، إن كانت منظمة أو خاضعة للفوضى، وعدم الاكتراث بالتسلسل المنطقي في تلقي المعرفة، حيث يكون ذلك وبالاً على المثقف، أي يعمي بصيرته إزاء ما يرى ويعيش. ولعلّ الحقبة التي تلت ثورة تموز 1958 في العراق هي نموذج، إذ شاعت مصادر معرفية مفاجئة للوسط، رافقتها تغيرات سلبية في مسار الثورة، فسبّبت بذلك أنواعاً من التطرف المعرفي الذي أدّى إلى سلوك غير مرغوب أو مألوف. ثم أعقبتها حرب حزيران/ يونيو كنموذج أيضاً له علاقة بالتبدلات وحيازة المثقف على معارف جديدة. فقد انفتحت أمامه جملة مصادر عن أنواع الحروب الوطنية وسمات النضال من أجل الانعتاق والتحرر، وهي في جملتها أسّست لنوع من الثقافة، أساسها التمرد على المستعمر كما حدث في أميركا اللاتينية وفيتنام وأفريقيا.
إن المثقف والسياسي توأمان، إذا ما نُظر إليهما بموازنة، وإذا ما نظر كل منهما بعينه وعين الآخر بروية. فهما فئتان تعملان لصالح الوجود، وفق معادلة نوع العطاء فقط وليس غيره. فإن نُظر إليهما من زاوية الكسب والحيازة واغتنام الفرص، فإنهما سيقعان ضمن أحبولة التخريب والفشل الخاص والعام. كما أن الانجرار وراء مستجدات خارج تشكّل المجتمع صعوداً، تنتجه الثقافة النمطية وغير المبنية على مبادئ الإسهام في تطوير الواقع من مستَثمر للزمن مثلاً إلى متحرر من تأثيراته.
ثم إن المثقف لا يشغل نفسه بالاختلاف في الكيفية، بل يبحث عن المشتركات. فليس في كل تشكيلات الأفكار منذ بدء الخليقة تطابق نوعي، بل هي مجموعة تراكمات كمية ينتجها العقل الجمعي المفكر، بما تتطلب الحياة زماناً ومكاناً. الأفكار والديانات لها خصائصها الذاتية والموضوعية. نحن نلزم أنفسنا بالموضوعية التي هي تقربنا من بعضنا. هنا تتجسد ظاهرة (الخلاف) في الموقف على حساب المبدأ، إذ لا يوجد ثمة تقاطع حقيقي بين الثقافات، وبالتالي بين المثقفين، ونقصد من بينهم السياسي حتى لو حصل نوع من تعالي هذا على حساب ذاك مثلاً.

سليمان الحقيوي، ناقد سينمائي مغربي:
يستحيل الفصل بين الثقافي والسياسي
من نواح عديدة يبدو أن فصل الثقافي عن السياسي في المجتمعات العربية أمر شبه مستحيل، إنّه شرط وقدر محتوم. فدائماً كانت الأحداث السياسية التي تعرفها المجتمعات العربية تلقي بظلالها على مختلف الممارسات الثقافية، منذ الاستعمار الذي ساهم في تشكيل وعي المثقف في الوطن العربي الذي وجد في الأدب وباقي ضروب الثقافة سلاحا يحتجّ به في وجه المستعمر، كما ساهمت نكبة فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي في إخصاب تيار شعر الحداثة، وتشكيل وعي جيل بأكمله، وكذلك الأمر بالنسبة للمسرح والسينما، كما شكلت القومية والعروبة شعارا معلنا لدى السواد الأعظم من المثقفين العرب وانتقلت إلى مشاريعهم الثقافية. هذا يعني أنّ الارتباط بالوضع السياسي لم يكن خيارا لدى أجيال المثقفين الذين عاصروا وضعا سياسيا خارجيا أو داخليا.
ومن ناحية أخرى فالمثقف العربي لم يمارس النضال من خارج الأحزاب إلاّ نادرا، فلم يكن صوته قادرا على الصمود دون سند سياسي، أنظر مثلا إلى اتحادات الكتاب في العقود الماضية

فقد كانت الأحزاب المسيطرة على الحياة السياسية هي من تتولى إدارة هذه الاتحادات في أغلب الأحيان. هل كان هذا الأمر في صالح الثقافة أم ضدّها؟ لا يمكن المجازفة في قول نعم دائما.
وبعد أن زال نسبيا العدو الذي كان متمثلا في المستعمر وجد المثقف نفسه أمام عدو آخر داخل الوطن، يسجنه ويمنعه من التعبير، فالحلم بوطن أفضل أجهض، فتحول النضال إلى الداخل، وأصبح المثقف ملزما بالمناداة بالتغيير الداخلي، فواجه النار والرصاص داخل الوطن. إنه نفس الوطن الذي حلم المثقف أن يكون أفضل!
لكن اليوم صار الأمر أكثر تعقيدا، والمثقف صار موظفا في مؤسسات الدولة، والدولة صارت تقريبا هي الداعم الوحيد للثقافة. في السينما مثلا، لا يمكننا الحديث عن إنتاج أفلام خارج دعم الدولة، وهذا ما ينطبق على طبع الكتب والمجلات، وحياة مطابيع كثيرة تتوقف على دعم الدولة! التي لا يمكن أبدا أن تدعم مشروعا يتجاوز الخطوط الحمراء.
أخيرا، هل كان الارتباط بالسياسي أمراً في صالح ضروب الإبداع؟ عمليا كان التصور النقدي العربي يحتفي بالأعمال المرتبطة بواقعها السياسي أكثر من غيرها، وهذا ما أفرز نظرة نقدية تعلي من قيمة المضمون على حساب الشكل أي أن الجانب الاستيطيقي كان دائما غير مفكر فيه بالقدر الكافي، فكنا دائما نفكر في مواضيعنا بأساليب مستوردة في الغالب، مما أخر التفكير في الجماليات في الإبداع العربي إلى اليوم.

حميد ركاطة، روائي وناقد مغربي:
المثقف العربي اليوم لا يفكر بصوت مرتفع
الإجابة عن سؤال من قبيل الثقافي والسياسي، قد يجعلنا كمثقفين نشعر أحيانا بالارتباك، إذا كنا نعيش بالطبع تحت مظلة السياسي، وندافع عن مصالحه، عوض الدفاع عن ثوابت الوطن الحقيقية. وهو الأمر الذي يلوح في الأفق كفعل تبريري كلما لجأنا إلى الدفاع عن مواقف وسياسات وتوجهات مغرضة، واستعملنا أبواقنا لتمرير خطابات رجعية، في الوقت الذي يكون فيه إجماعنا حاسما إزاء قضايا حساسة، أو مصيرية.
هكذا يتحول المثقف برأسماله الرمزي، وهالته الاجتماعية، من حارس للقيم، والفكر الحر، ونموذج للاقتداء فكريا، وثقافيا، كحامل للوعي الجاد، إلى مجرد بوق من أبواق النظام الحاكم، إلى مجرد كاتب مأجور يحرّر مقالاته تحت الطلب، ووفق توجيهات المدافع عنهم كلما أجزلوا له العطاء.
إن أزمة الثقافة العربية اليوم نابعة من التحولات المجهضة التي عرفها المجتمع العربي، ومن تخلفه في شتى الميادين وعجزه عن مواكبة ركب التطور الحضاري الذي يعرفه العالم. فظل يعيش أزمات مركبة لا يمكن حصرها في حرية التعبير فقط، لكونها أزمة هيكلية تشترك فيها عوامل أخرى، نفسية، وأخلاقية، وتربوية، وتكوينية، وثقافية، وعقائدية، وعرقية.
المثقف العربي اليوم لا يمكنه التفكير بشكل مستقل، - أو بصوت مرتفع- ما دام  يعيش تحت

ربقة أنظمة استبدادية، لا تؤمن بأدواره الحقيقية، وهو يشعر أنه مهدد في سلامته الجسدية، وتحت رحمة أنظمة  تناصبه العداء، تحاصر أنشطته، وتمارس الرقابة على كتابته، تقلم أظافره كلما تجاوز الحدود المرسومة له، أو تجاوز- حسب وجهة نظرها- الخطوط الحمراء التي  نهي عن اختراق محيطها – باعتبارها من المقدسات، أو من التابوهات. وهو ما يدفعنا إلى طرح تساؤل منطقي: ما طبيعة الخطاب الذي يمكن أن تنتجه لنا ثقافة القمع؟ وما طبيعة المثقف الذي سينتج لنا خطابا مغايرا؟ حتما لا يمكننا أن نتحدث عن دوره المستنير، ولا عن محاولاته الحثيثة لرسم بدائل حقيقية وواقعية لمجتمع منشود، بقدر ما سيكون مجرد بيدق في رقعة شطرنج على أهبة الاستعداد للتضحية برأسماله الرمزي، كلما استدعت الضرورة ذلك.  ولذلك حتى المثقفين الذين يدعون الاستقلال في الرأي، غالبا ما تجد أغلبهم مناصرا لنفس التوجه بصمته وحياده. فبقدر ما ينشد النأي بنفسه عن الجدل في قضايا الوطن الشائكة، تجده في الواقع مساهما في تزكية تبعيته للسياسي، وهذا الأخير يجد المجال مثاليا لفرض أفكاره، وبسط سيطرته. وبذلك يعطي الشرعية لتوجهه ويعمل على تطبيعه، بفضل قنوات مثالية تمرر بسلاسة مواقفه، بشكل عادي، داخل مجتمع مستعد ليتقبل كل ما تتفوه به حناجر مثقفيه المأجورين. المثقفون الأحرار لا يزالون يقبعون في السجون والمعتقلات، وبعضهم أخرست ألسنتهم للأبد، بتصفيتهم جسديا، لنخلص في النهاية أن الشريحة الواسعة من الكتاب في الوطن العربي هي مجرد أقلام مأجورة بامتياز.

محمد العرابي، شاعر وناقد مغربي:
تبعية الثقافي للسياسي تتحكم فيها عوامل موضوعية
في السياق العربي الذي شهد اهتزازات وارتدادات الحراك الشعبي، يطرح التساؤل حول مساهمة الثقافي في التأثير على الواقع وتغييره؛ من منطلق أن الذي قاد هذه الحركية ودعا إلى التغيير لم يكن هذا المثقف النمطي وإنما قوى جديدة حملت كل الشعارات التي ظلت تحلم بها الشعوب منذ النهضة وإلى اليوم، من بناء الدولة على أسس تضمن قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. والتخلف عن الاضطلاع بهذه الأدوار يرمي الثقافة بجريرة التبعية للسلطة السياسية ويجهض بالتالي كل إسهام فعلي لها في التأثير على الأحداث وعلى الواقع.
هذا الاتهام ليس بدون تأسيس، وإنما هو تحصيل حاصل. فالدول القطرية لم يكن همها يوما المجال الثقافي الذي يهدف إلى تنوير العقول وتمكينها من أسباب التأثير في مجريات الأحداث وصناعة المستقبل، بل اعتبرت دائما الشأن الثقافي ملحقا بالسلطة وآلياتها في الضبط والتفسير والبحث عن شرعية ما للنظام، كما أن مجال تدخلها كان يركز بالأساس على الترفيه وتنظيم

المهرجانات الدورية. وهذا التقطيع الانتقائي يعطيها صفة الدولة الراعية للثقافة ولكنها لن تقود إلى عمل بنيوي يحصن المجتمع ويعطيه أسباب الحصانة النفسية التي هو في أمس الحاجة إليها. وإذا كان هذا النمط من تعاطي السلطة مع الشأن الثقافي مفهوما على اعتبار أنها ظلت تعتبر التثقيف أو التنوير خطرا وجوديا عليها، فإن غير المفهوم هو نكوص التنظيمات السياسية والمجتمع المدني التي تقع خارج السلطة عن الاضطلاع بوظائفها في التوعية وقيادة المجتمع نحو التغيير المنشود، وارتهانها بالسلطة والبحث عن الذرائع لتبرئة النفس من كل مسؤولية.
إذن فتبيعة الثقافي للسياسي تتحكم فيه عوامل موضوعية، تتمثل في امتلاك الدولة لكل الوسائل والموارد لتحقيق غاياتها المتمثلة في تزييف العمل الثقافي وحصره في المظاهر والشعارات وإفراغه بالتالي من كل محتوى، إلا ما كان يعزز قيم الخضوع وتأبيد السلطة السياسية، وجعل القيم التي تروّج لها مستساغة وتكتسب طابع الرسوخ والديمومة. وهذا لا يبرئ ذمة الأطراف الأخرى، المشاركة في التدافع المجتمعي، من التقصير عن المساهمة الفعالة في التغييروالإبقاء، بالتالي، على الواقع الراهن كما هو.

رفيق القسنطيني، باحث وأكاديمي تونسي:
العلاقة بين الثقافي والسياسي تختلف من بلد إلى آخر
من الصعب جدا تشخیص طبیعة العلاقة بین الثقافي والسیاسي بصورة تشمل كافة المجتمعات العربیة على قیاس واحد أو نمط واحد، وھذا یرجع بالأساس إلى طبیعة الأنظمة في حد ذاتھا، المتفاوتة في طبیعة حكمھا في البلد الواحد، ففیھا ما ھو خاضع لنظام عسكري، وفیھا ما ھو رئاسي، وفیھا ما ھو ملكي، حتى أنه یختلف النظام الواحد من دولة إلى أخرى حسب النمط الثقافي والذي قد نجده متفرعا بدوره إلى مجموعات بشریة حسب انتشارھا في الجھات جغرافیا وحسب الفئة الحاكمة. ولعل دولة العراق ھي أحسن مثال على ما أقول. ففي فترة الحكم الذي أداره صدام حسین كانت المجموعات الشیعیة بكثرة عددھا لا تفرض لونھا الثقافي على الساحة

الثقافیة، والمشھد الثقافي آنذاك ورغم الفروقات العرقیة والدینیة كانت تتخیره السیاسة العراقیة التي تدیر شؤونھا الأقلیة أكثر من الثقافة بمفھومھا الشامل والثري ثراء الفكر البشري. ھذه الصورة المصغرة كنموذج سیاسي ظرفي یمكن اعتمادها كمقياس للثقافة الخاصة بكل مجتمع عربي، والذي یخوّل لنا القیام بدراسات ومقاربات في المجتمعات العربیة فیما بینھا ومقارنتھا حتى بالمجتمعات الغربیة المتشابھة في طبیعة حكمھا السیاسي حسب حقبھا الزمنیة المتفاوتة. والمجتمع العراقي الحالي والذي یفرض علینا قراءة جدیدة أفرزتھا وضعیة المعاصرة بعد الحرب الأخیرة لا يزال ورغم الانتقال النوعي سیاسیا الذي یقال عنه دیمقراطي يكرس ثقافة الحروب داخلیا وإقلیمیا، وھو ما من شأنه أن یؤثر على ثقافة المجموعات العراقیة وحتى المجموعات المجاورة والتي قد تنتج أشكالا ثقافیة منسجمة مع الاختیار السیاسي یمكن توصیفھا بالتبعیة الودودة وعدم تحررھا إما خوفا من النظام الحاكم أو طمعا في رضاه حسب ما تملي الظروف الاجتماعیة للفرد و/ أو حتى المجموعات مھما كثر عددھا أو قل. في المقابل، وحسب التجربة الدیمقراطیة الحالیة التي نشھدھا في تونس، فما یبدو ظاھرا للعیان ھو أن حریة التعبیر أعتقت لكنھا وحسب رأیي بقیت عبدا طیعا للفیالق رقاب الأقلام لدى العدید من المثقفین في كافة المجالات الثقافیة تقریبا إلا السیاسیة من جھة، وخدما وفیا للأجندات الأجنبیة والتي تحاول في جلھا الإطاحة بالثقافة المؤصلة للمجتمع التونسي من جهة أخرى. وبالتالي فھذا فولكلور ثقافي من نوع آخر أقل ما یقال إنه مھمَّش استغلته الحكومات المتعاقبة دیمقراطیا في تكریس ثقافة الوصولیة لتعشش في دھالیز الحكم التي تعددت فیھا مرجعیات حزبیة.

حفيظة الفارسي، صحافية وشاعرة مغربية:
الوضعية الاعتبارية للمثقف الحقيقي تقزمت
هل يمكن حقا الفصل بين السياسي والثقافي اليوم، وأين تلتقي حدودهما أو تتقاطع؟
أظن أن ما يجمعهما هو الرغبة في التأسيس والبناء لمجتمع القيم والحرية، لكن يبقى المثقف متميزا عن السياسي بل ويظل قادرا على التخلص من شركه بخصيصة الاستقلالية التي تبقى الضمانة الوحيدة لحرية الكاتب، لأنها تخلصه من كل القيود التي قد تكبله في حال ارتهانه للحزبي.
عندما نتحدث عن علاقة هذين المتنافرين في الطبيعة والمتلازمين بالضرورة، علينا أن نميز دائما بين صنفين: المثقف القريب من سلطة القرار والمستظل بحمايتها، وهو الذي يسمح بأن يلعب دور المُحلّل (من الحلال) والمشرعن لممارسات السياسي، سواء أكان هذا السياسي مؤسساتيا أو أشخاصا، وهو يعيد بذلك إنتاج ثقافة تبعية برزت مع "فقهاء السلاطين" لكنها اليوم تُستثمر بشكل أكثر في البحث عن مواقع قدم ضمن دوائر القرار. وهناك الصنف الثاني الذي يختار الاصطفاف إلى جانب قضايا الهامش والمهمشين، وهو الصنف الذي أصبحت مساحة تدخله وفعله تتقلص وتضيق لصالح تدخلات أخرى وفاعلين آخرين، وهذا الصنف هو الذي يتهم اليوم بالخيانة والتخلي عن دوره التثويري والتوعوي دون الأخذ بعين الاعتبار

التحولات والتناقضات التي تسم المشهد السياسي والثقافي والتي أصبح الالتباس مَعلَمها الابرز، وهو وضع يساهم السياسي أحيانا بعد فشله في التدبير في حشر المثقف داخله وتحميله مسؤولية كل الانتكاسات.
المثقف الحقيقي اليوم تقزمت بل تلاشت وضعيته الاعتبارية في المجتمع خصوصا المجتمعات العربية، وأصبح صوته وآراؤه النقدية ومواقفه يُنظر إليها باعتبارها مزعجة ونشازا وسط الأصوات المهللة والتي تكتفي بالحياد إن لم تنخرط في مباركة وتبرير مطبات السياسيين وهفواتهم، بالإضافة الى بروز الخطاب الديني المؤدلج الذي وجد له أتباعا عديدين. حتى الأحزاب التي كانت حاضنة للمثقفين واستفادت من قوتهم الاقتراحية في تدبير مراحل مهمة من تاريخ بلدانها، تخلّت اليوم عن هذا الرافد الأساسي في بناء الشعوب والحضارات، أي الثقافة، بل لم تعد تمتلك مشاريع ثقافية واضحة تجعل القنوات بين السياسي والثقافي سالكة وسلسة وسبيلا لعلاقة صحية ومنتجة بين الاثنين دون تبعية أو تأثير قد يعصفان باستقلالية المثقف.
عموماً على المثقف أن يظل حذرا من الذوبان في جبة السياسي، لأن عليه أن يظل جرس إنذار للمجتمع وحاميا للقيم، بعيدا عن المواقف العدمية والسلبية لأنه لا يمكن لأي مشروع سياسي خاصة في البناء الدولتي أن يتأسس في غيابه.