Print
محمود عبد الغني

ميشيل سير: الفيلسوف الفرنسي جالب الأفكار

7 يونيو 2019
هنا/الآن
أطروحة في مرحلة سيئة: 1968
وصفت جريدة "لوموند" الفرنسية (عدد 4 يونيو الجاري) الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير، مباشرة بعد موته يوم الفاتح من يونيو، بأنه فيلسوف وأكاديمي محبّ للحياة وعقل موسوعي، ومالك لثروة هائلة من الكلمات، ومفكر كبير في التقاليد الشفوية.
العديد من طلابه يتذكّرون الطريقة التي كان يفتتح بها دروسه: "آنساتي، سادتي، أنصتوا جيّداً، إن ما ستسمعونه سيغيّر حياتكم...". وبالفعل ما أن يغادروا دروسه حتى تتغيّر ألوان الحياة، وتصبح أكثر ابتهاجاً.
كان ميشيل سير رجلاً سعيداً، أو على الأقل كان يعمل على الظهور كذلك، مثلما كان يظهر، بمزاجية خالصة، شديد الانفعال. لم يكن جاهلاً بأصول المسرح، إنه ببساطة من مواليد مدينة أجين يوم الأول من سبتمبر 1930، على تخوم منطقة يجري المسرح في دماء أهلها. لقد وُلد نجماً مسرحياً، ولم يكن ينقصه سوى العثور على جمهور في مستواه.
ظهر أول كتبه، هو أطروحته، في مرحلة سيئة: 1968، "نظام ليبتنز ونماذجه الرياضية" (منشورات جامعة باريس). بدأ مساره الجامعي بالتدريس في "كليون- فيريند" لمدة قصيرة، ثم انتقل إلى العاصمة باريس للتدريس في جامعة باريس 8 وباريس 1. كما أنه استأنف تأليف مجموعة كبيرة من الكتب، بلغت الستين كتاباً على الأقل، إضافة إلى الدروس، والمقالات والمحاضرات.
.
كتابه الأول، أطروحته، الذي ظهر في سنة 1968، لم يكن الحدث الذي يثير الانتباه. لكن رغم ذلك فقد كان عملاً كبيراً، مدعوماً بحدس لامع، بعكس الصورة الشائعة عن ليبتنز باعتباره مفكراً مشتّتاً، بل مشوّشاً. لقد ظهر هذا الفيلسوف الألماني (1646-1716) مؤلّفاً متناسقاً جدّاً. فعمله بدا مكفولاً بنظام. وفي داخله أصبح أصغر كُتيب وأقل نظام فرعي منتجاً للبنية الكلية. ولم يعد هذا الأخير، بدوره، سوى مرآة للعالم، مرآة لـ"المعطف المهرج" الفضفاض الذي هو العالم.
في أطروحة 1968، استعمل التفسير نموذجاً رياضياً: النظرية الشاملة. هكذا كان ميشيل سير من الأوائل الذين أدخلوا مفهوم "بنية" إلى حقل تاريخ الفلسفة. لكن لم يكن يطمع في أن يتمّ إقحامه في معسكر "البنيوية"، هو الذي كان يكره كل أشكال الموضة، وكان يردّد عادة أنه ابتداء من سن الثلاثين "على الفيلسوف الذي يحترم نفسه أن يكف عن قراءة معاصريه".

تلميذ غاستون باشلار
هل يمكن اعتبار ميشيل سير فيلسوفاً بنيوياً؟ لنقل إنه بكونه تلميذاً جيّداً لغاستون باشلار (1884-1962)، الذي كان مشرفاً على شهادة الدراسات العليا، كان يرفض الفصل بين مستجدّات الفكر الفلسفي وبين مستجدّات الفكر العلمي. وهنا أيضاً، مثله في ذلك مثل ليبتنز، كان يرغب في تشويش الحدود.  لذلك ركب هذه السفينة لكن من أجل الإبحار، هذه المرّة، في محيط الكتب والعلوم.
انطلاقاً من هذا الإبحار، بدأت المراحل الخمس. وتتشكّل من سلسلة "هرمس" – خمسة أجزاء ألّفها بين 1969 و1980 (منشورات مينوي)، وتبقى أكبر مشروعاته الفكرية. كل جزء هو اختيار لنص قصير، موضوع تحت عنوان بارز: التواصل، التوزيع، الترجمة، العبور من الشرق إلى الغرب. وراء هذه العناوين، بما فيها وراء الاستعارة البحرية التي يتضمّنها العنوان الأخير، توجد مفاهيم مرتبطة فيما بينها إلى درجة أنها تتبادل داخلياً، لأنه إذا "تواصل"

الجميع، فإن الجميع "يلتقون". وإذا "التقى" الجميع، فإنهم "سيترجمون" بعضهم. ومشهد "البرج" هذا يحيلنا إلى نظرية القرب أو إلى مفهوم النعمة، وإلى أن العمل الأدبي ليس سوى صورة عن حالة معرفة في لحظة معينة.
لم يكن ميشيل سير المفكّر الوحيد في تلك الفترة الذي دافع عن هذا الخطاب. إن أعماله قريبة من أعمال لويس مارتان (1931-1992). ورغم النجاح الذي حققه "هرمس" وثلاثة أو أربعة كتب أخرى، فإن الانبعاث الذي حصل لسير لم يكن في مستوى تطلعاته.
في جامعة باريس 1، لم يتم استقباله من طرف شعبة الفلسفة، بل من طرف شعبة التاريخ، حيث درّس تاريخ العلوم. أما "الكوليج دي فرانس" فلم يختره أبداً. هنا بدأ يعمل على التعويض. في البداية، قام بتدبير مسار أميركي. منذ نهاية الستينيات بدأ يزور باستمرار جامعة جون هوبكينز في بالتيمور، حيث استقبله روني جيرار (1923-2015)، وحين غادر هذا الأخير مريلاند، تبعه ميشيل سير إلى الجانب الغربي. وفي ستانفورد، في 1981، انعقدت ندوة كبرى حول "التنظيم الذاتي"، وكان سير المحاضر النجم في يومها الأخير.

مشاريع مجنونة
هناك تعويضات أخرى: الكتابة. كان ميشيل سير يمثّل بالنسبة للناشرين قيمة أكيدة. لم يعد

الفيلسوف يعرف كيف يتوقّف. لكن للأسف، لأنه من أجل البقاء جنساً "نبيلاً" المحاولة تتطلّب إلحاحاً شديداً، بدأ يتلاشى، هنا، مع مرور السنين. "الطفيلية"، ونصّان آخران هما "تكوُّن" و"روما"، بالإضافة إلى أعمال أخرى مثل "الاتجاهات الخمسة"، "وضعيات"، "العقد الطبيعي"، "الخنثى" لا يمكنها إلا أن تخيب الآمال، خصوصاً آمال أولئك الذين لا يتذكّرون بدايات الفلسفة. وبالمقابل هناك قراء آخرون أحبّوا ثرثرته واستسلموا لسهولة كلامه عن أشياء معروفة.
كان من المنطقي جدّاً أن ينتهي الكاتب بأن يقول نعم لكل أنواع الشرف. دخل إلى الأكاديمية الفرنسية وأصبح، لفترة معينة، مستشاراً للقناة الخامسة، "قناة المعرفة". فكان سحره يجذب نحو الفلسفة جمهوراً، بدونه لن يتعرف عليها أحد. فساعد ذلك على إظهار بعض المشاريع المجنونة، لكن الهامة جدّاً، مثل "متن الأعمال الفلسفية في اللغة الفرنسية".
كان ميشيل سير مسافراً كبيراً، ما سمح له أن يكون أيضاً سارداً مدهشاً للحكايات. كان فيلسوفاً، بل وحكيماً على طريقته الخاصة. ولهذه الأسباب سيبقى العالم يتذكّره.