Print
بوعلام رمضاني

فان غوغ حيّ دائماً حتى بالمسدس الذي مات به

25 يونيو 2019
هنا/الآن
يشغل الفنانون العظماء دنيا الإبداع في الأوساط النخبوية المتخصصة وفي مثيلاتها الشعبية على السواء حتى بعد رحيلهم بقرون. ولا يترك الفنان الخلاق بعد رحيله إبداعه الخالص وغير العادي كأمر واقع مفروض على محبيه ومعجبيه الذين بقوا يزينون حياتهم الروحية على طريقتهم الوجودية فحسب بل يستمر في صنع الحدث الإنساني والفني العالمي بتبعة إرثه الذي يتعدى منجزه الإبداعي، ويصب في صميم وصلب حياته الخاصة المرتبطة بطريقة عيشه حيا كجسد وكروح سرمدية بقيت ترفرف لاحقا في قلوب وعقول عامة وخاصة الناس في مرحلة ثانية غير محددة النهاية كتحصيل حاصل.

مسدس الموت والحياة
ولا شك في أن فناناً تشكيلياً من طراز فنسنت فان غوغ الهولندي الشهير (1853 - 1890) قادر على تمثيل الحقيقة السالفة الذكر، والتي مثلها فنانون ومفكرون وأدباء لكن ليس بطريقته التي أعادته إلى واجهة الحدث الإعلامي الفني يوم الأربعاء  التاسع عشر من الشهر الجاري بشكل اختلطت من خلاله الواقعية والخرافة على النحو الذي يؤكد خصوصية هذا المبدع العالمي.
فان غوغ الذي أوصل صوت هولندا بلوحات تشكيلية أبدية وأزلية إلى كافة أنحاء المعمورة البشرية، لم يخرج من قبره حيا روحيا وفنيا بلوحته الأشهر "عباد الشمس" ولا بشفرة الحلاقة التي قطع بها جزءاً من أذنه من باب تحدي زميله بول غوغان عام 1888، ولكن بمسدس

عتيق سكن الحقل الذي خلده في إحدى لوحاته حتى غاية 1960، وهو المسدس الذي وضع به حدا لحياته بعد أن وجهه إلى صدره متأثراً باكتئاب حاد إثر أزمة نفسية عاصفة.
وزادت الخصوصية الرمزية التي عاد بواسطتها الفنان التشكيلي الهولندي الشهير إلى معبد الشهرة ميتاً، حينما عمقها الزبون غير العادي هو الآخر بشراء تاريخي وغير مسبوق شكلا ومضمونا. وأحدث الزبون الذي رفض الكشف عن هويته بعد شراء مسدس فان غوغ بحلته الناطقة بصدأ أحمر فاقع بفعل طول المدة التي بقي خلالها مرميا في الحقل الذي ألهم صاحب "عباد الشمس"، ضجة دون حضوره شخصيا في قاعة دروو، وبتمكنه من مقارعة منافسيه الحاضرين هاتفيا.

ثمن غير معقول أيضاً!
علاوة على عاملي غرابة شخصية الفنان فان غوغ والمسدس الذي انتحر به وعثر عليه يقطر بالصدأ، ورفض إفصاح الزبون الذي اشتراه عن هويته الشخصية هاتفياً، يأتي عامل تسارع ارتفاع ثمن المسدس خلال المزايدة ليزيد من حجم التساؤل عن سر أسباب تؤدي إلى صرف مال كبير على مسدس صدئ لمجرد أنه كان ملكا لفنان تشكيلي تاريخي بكل المعايير والمقاييس. وقد انطلقت معركة الظفر بالمسدس الأسطوري بسعر يتراوح بين 40 ألف و60 ألف يورو، ولم يكن في حسبان مسؤولي مؤسسة دروو والزبائن على السواء أن تنتهي المزايدة بثمن 130 ألف يورو عند ما ضربت السيدة ريمي لوفور على مطرقتها لآخر مرة ممكنة الزبون الغريب من مسدس فان غوغ الذي حمل ماركة "لوفوشو"، وعثر عليه مزارع كان يعمل في الحقل الواقع في ضاحية أوفار سبر واز غرب باريس، والتي أنهى فيها فإن غوغ حياته منتحرا. وإذا كان مسدس التشكيلي الهولندي الأشهر في العالم قد بيع بثمن مرتفع وغير متوقع، كما أشارت إلى ذلك كافة وسائل الإعلام الفرنسية، فإنها أكدت في الوقت نفسه حقيقة تاريخية أخرى تتعلق بأهمية مكانة الفنون والآداب في حياة الفرنسيين وتعلقهم برمزية أصحابها بلفتها الانتباه إلى أن المسدس الأغلى الذي بيع في المزاد العلني حتى هذه الساعة هو مسدس فيرلين الذي حاول أن يقتل به رامبو عام 1873، والذي كان من نوع "لوفوشو" أيضاً وقدر ثمن انطلاقة عملية بيعه في مزاد علني نظمته "مؤسسة كريستيس" عام 2016 بين 50 و60 ألف يورو وبيع هذا المسدس الأغرب منطقياً من المسدس الذي انتحر به فإن غوغ بسعر 435 ألف يورو!

فخر متحف أمستردام
هولندا الدولة الصغيرة البديعة التي اشتهرت عالميا بزهور "توليب" وبدفاع مسؤوليها عن البيئة  وبدراجات يذهب على متنها بعض وزرائها ومسؤوليها الكبار إلى مقرات

عملهم وبترخيصها استهلاك المخدرات بطريقة قانونية تجنبا لانعكاسات اجتماعية أكبر، هي الدولة التي اشتهرت أكثر وبقوة غير مسبوقة بفضل فنانها الراحل والحي دائما وابدا والذي لم يترك لوحات تتباهى بها الأرواح الذواقة للفن فحسب بل ترك مسدسا قبيح المنظر لدى البعض وسيئ البُعد دينيا وأخلاقيا لدى البعض الآخر لكنه غير ذلك عند مؤمنين آخرين بالله وبالفن على طريقتهم. هؤلاء قطعوا مسافات طويلة بشتى الطرق وقصدوا باريس منهكين لكن سعداء بتواجدهم في قاعة لم تسعهم، وراح بعضهم يزيد من ثمن مسدس فنان هولندا وقوفا على أمل العودة إلى بلدانهم بتحفة نادرة، وليس بمسدس صدئ قد نعثر عليه في قمامة بإحدى مدن بلداننا أو يرهب به جار يعادي الفن جارا مزعجا في انتظار وسيلة أنجع، وكما كان متوقعا غاب الاثرياء العرب في قاعة دروو وحضر عشرات اليابانيين والأميركيين والأوروبيين!
قبل أن يشتري الزبون المجهول مسدس فان غوغ، تباهى الهولنديون عام 2016 في عاصمتهم أمستردام بمسدس فنانهم الملعون والمجنون الخالد، وكما كان متوقعا أيضا - وكما لاحظ ذلك كاتب هذه السطور في متاحف فرنسية وأوروبية - لم يكن من العرب إلا بعض الزوار الذين يعدون على الأصابع في الوقت الذي كان فيه الجنس الأصفر هو الطاغي كما يحدث سنويا تماما في قصر فرنسي، فضلا عن أجناس أخرى يقول بعضنا عنها ببساطة شديدة إنها كافرة وتعيش من أجل الدنيا الفانية!
هكذا اكتملت فصول ومسار ومصير أحد أغرب وأروع المزادات العلنية الشهيرة التي عرفها العالم في علاقتها بتشكيلي نادر مات بطريقة عادية، لكن بعد حياة فنية غير عادية. إنه التشكيلي الذي بقي حيا بتركته الفنية والشخصية في وجدان زبون غير معقول ونادر أيضاً.