Print
كمال عبد اللطيف

شروط توطين مناهج العلوم الاجتماعية في الثقافة العربية

4 أبريل 2019
هنا/الآن
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مؤتمره السابع في الدوحة أيام 23-24-25 مارس/ آذار 2019 حول موضوع إشكالية المناهج في العلوم الاجتماعية والإنسانية، متوخياً من وراء ذلك، المساهمة في عملية رصد ومواكبة كيفيات تمثل دوائر البحث الأكاديمي في الجامعات العربية، لأسئلة المنهج وما يرتبط به من مفاهيم ونظريات، في بناء المعرفة العلمية بالظواهر الإنسانية في مجتمعاتنا المتحولة. ولأن موضوع المنهج في العلوم الاجتماعية والإنسانية، يثير في الفكر العربي المعاصر إشكالات نظرية عديدة، بعضها يرتبط بأسئلة المعرفة العلمية في الثقافة العربية والمجتمع العربي، وكثير منها يتصل بنوعيات الممارسة الأمبريقية العلمية كما تجري اليوم في الجامعات ومراكز البحث العلمية العربية، فقد حرِص المركز على جمع عينة هامة من الباحثين، من جامعات وتخصصات معرفية مختلفة، قصد الحوار في أهم وأبرز أسئلة المنهج المعرفية منها والتاريخية.
وإذا كان من المؤكد، أن عمر البحث في العلوم الاجتماعية بأساليب المنهج العلمي في عالمنا العربي، ما يزال في أطواره الأولى، وأن أعرق الجامعات العربية لم تكمل بعد قرناً كاملاً. كما أن عمر أقسام العلوم الاجتماعية والإنسانية داخل هذه الجامعات، لا يتعدى في الأغلب الأعم ستة عقود من الزمن، إلا أن كل هذا لا يعفينا من التساؤل عن طبيعة الإنجازات التي تبلورت في هذا المجال، ومدى مطابقتها للأسئلة التي تطرحها الأوضاع الاجتماعية في الوطن العربي. ولعلنا لا نجانب الصواب، إذا ما قلنا إن التفكير في مسيرة البحث في العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية، يتيح لنا صياغة الأسئلة المحفزة عن تطوير آفاق هذه العلوم، قصد الرفع من مردوديتها في مواجهة التحولات الجارية في مجتمعنا.

مؤتمر نوعي
تضمنت أوراق المؤتمر مقاربات متنوعة، بحكم أن إشكالية المفاهيم ترتبط بنماذج من المعرفة العلمية، كما ترتبط بجوانب من أنماط الجهود، التي ما فتئت تبذل في دوائر ومراكز البحث العربية، بهدف بناء معارف تتعلق بمختلف الظواهر السائدة في مجتمعاتنا. وعندما نتأمَّل كَمَّ الأبحاث التي قدمت خلال ثلاثة أيام، بأربعة مسارات بحثية في كل يوم، وبمعدل ورقتين في كل مسار، نجد أنفسنا، أمام مؤتمر نوعي، وأمام جيل من الباحثين الشباب من أغلب الجامعات العربية.
تداول الباحثون المشاركون في المؤتمر، في مجموعة من القضايا والأسئلة المرتبطة بسؤال المناهج في العلوم الاجتماعية والإنسانية، حيث قدمت أوراق عديدة تناولت بالبحث بعض

مفاهيم وآليات البحوث الاجتماعية في الجامعات العربية. وقد لفت انتباهي وأنا أتابع بعض جلسات المؤتمر، العناية التي أبدتها كثير من الأوراق بالأسئلة الفلسفية وبالأبعاد الثقافية والاجتماعية، أثناء بحثها في أسئلة المنهج النظرية والتطبيقية، الأمر الذي يستحضر مسافة نقدية مطلوبة، في مسألة نقل وتعميم أو إبداع الآليات المنهجية، المساعدة في عمليات فهم الظواهر الإنسانية داخل محيطنا الاجتماعي.
واكبت عمليات تشكل مناهج وموضوعات العلوم الإنسانية في الفكر الغربي صيرورة مجتمعية محددة، محكومة من جهة، بتطور نمط الإنتاج الرأسمالي ومحكومة من جهة أخرى، بتطور المجتمع وتطور أنظمته السياسية. وقد تَمّ كل ذلك، في أفق مزيد من دمقرطة الحياة السياسية. كما تَمّ في سياق من تطور المعارف العلمية في مجالي الطبيعة والرياضيات، ثم في مجالات الطب والفلك والتاريخ، ودون أن نغفل تطور المعرفة في المجالات الفلسفية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الأمر الذي ترك بصماته جلية في باب بناء المناهج والآليات المطابقة لكيفيات مواجهة الظواهر الإنسانية، من أجل تشريحها وفحصها، ثم بناء موضوعاتها بالأدوات التي تسعف بالتملك العلمي لحدودها، واستخلاص النتائج والقوانين المترتبة على كل ذلك. إن المواكبة هنا هي مواكبة بين قيم التصنيع والتقنية والعقل.
لهذا يُعْنَى البحث في الظواهر الإنسانية في تاريخ المعرفة الغربية بالظواهر وبالأدوات والمناهج الاختبارية، كما يُعْنَى في مباحث أخرى بالأسئلة الفلسفية الكبرى التي تثيرها أوضاع تطور العلوم، سواء في مستوى المناهج أو في مستوى الأدوات والموضوعات.
قدمت في المؤتمر أوراق عديدة تجاوزت السبعين ورقة، حيث تكاثفت جهود الباحثين وتقاطعت، متوخية إبراز حدود ومحدودية المناهج المستعملة في مجالات البحث في حقول الإنسانيات المختلفة. كما قدمت في المؤتمر محاضرات عامة، اتجهت بدورها للتفكير في إشكالية المنهج في العلوم الاجتماعية بطريقة مركبة وتركيبية، حيث قدم الباحث الأنتروبولوجي المغربي عبدالله الحمودي محاضرة افتتاحية في اليوم الأول للمؤتمر، بعنوان اجتهادات في تصوُّر علوم اجتماعية عربية، اعتنى فيها بجملة من القضايا المتصلة بجوانب مساراته في البحث السوسيولوجي الأنتروبولوجي، وأشكال الحوار التي مارسها مع قواعد ومفاهيم المناهج، كما تعرف عليها، وكما وظفها بعد ذلك، في بناء جهد معرفي يروم الإحاطة بظواهر مجتمعية محلية. وقد حرص في محاضرته على إبراز أمرين اثنين، يتعلق أولهما بمساعيه الهادفة إلى التحرر من التبعية المعرفية، ويتعلق الثاني باستخدامه وتطويره لآليات وبروتوكولات النقد المزدوج، بهدف بناء موضوعاته وأسئلته، الأمر الذي ساهم ويساهم في منح مناهج العلوم الاجتماعية، أفقاً كونياً يتطلع إليه الجميع. وتميزت محاضرته كما أشرنا، برصدها لجوانب من تجربته في البحث، وجوانب من علاقاته.
أما المحاضرة الثانية، التي افتتحت بها أعمال اليوم الثاني في المؤتمر، فقد قدمها الدكتور

عزمي بشارة من زاوية فلسفية وعنوانها، في أولوية الفهم على المنهج، محاولاً رفع مختلف صوَّر التبجيل التي اعتاد بعض الباحثين إضفاءها على أسئلة المنهج، مبرزاً في أن الفهم سابق على المنهج، حيث تساهم الحدوس والأحكام الأولية في إطلاق وترتيب عمليات الفهم والتفكير، ثم تسعف صوَّر الحوار التي يقيمها الباحث داخل مختبره، وهو يستعين بأدوات المناهج ومفاهيمها بعد ذلك، في تصوُّر كيفيات بناء مفاصل وصوَّر الظواهر موضوع البحث.
لم ينشأ البحث في الظواهر الإنسانية بالآليات والوسائل العلمية في العالم العربي مثلما حصل في التاريخ الغربي بفعل عملية تاريخية ذاتية، مرتبطة بصيرورة في النظر إلى هذه الظواهر ضمن سياق تطور الأفكار والعلوم وتطور المجتمعات، قدر ما نشأ في سياق عملية تقليد أفرزتها متغيرات خارجية وافدة.
وعندما نقبل هذا الحكم باعتباره وصفاً موضوعياً لما جرى، لا حكم قيمة يرفض أو يقبل، يكون بإمكاننا أن نتصور على سبيل المثال الصلات الفعلية التي حصلت على سبيل التمثيل لا الحصر، بين الدراسات الاجتماعية الفرنسية، التي وظفت البحث الاجتماعي لتشخيص وكشف طبيعة بنيات المجتمع المغاربي، الذي كانت تتجه لاستعماره أو المجتمع الذي استعمرته فعلاً، وبين الباحثين الاجتماعيين المغاربة الذين انخرطوا لاحقاً وبنفس الآليات والمناهج لمقاربة نفس الظواهر لأغراض أخرى. إن الأفق الجامع بين العمليتين المذكورتين هو أفق البحث الاجتماعي، سواء في مستوى الموضوع أو في مستوى المناهج. ولكن الإشكال المطروح هو: هل يستطيع المبضع الجاهز في مجال الظواهر الإنسانية بناء معرفة علمية؟
لم ينشأ البحث إذن في الظواهر الاجتماعية في مجتمعاتنا، في سياق صيرورة تاريخية مجتمعية سياسية معرفية عامة، كما هو عليه الحال في تاريخ الغرب، بل إنه نشأ في إطار عمليات التغريب التي فرضتها رياح التأورب القوية، التي اكتسحت العالم في نهاية القرن الماضي، وتمكنت من فرض سيطرتها بمختلف الوسائل. ففي إطار هذا المناخ التاريخي اللامتكافئ واقعياً وموضوعياً تعرف العرب على العلوم ومناهجها ونتائجها، كما تعرفوا على مختلف مظاهر الحياة وأنماط السلوكات، التي انتقلت إليهم بفعل الاستعمار المباشر، ثم بفعل التأثيرات التي ترتبت عليها في تلافيف المجتمع وبنيات الواقع ومختلف جوانب الفكر والثقافة والمعرفة.
ففي الجامعات المصرية وهي أقدم الجامعات العربية التي توفرت على أقسام للبحث في الظواهر الإنسانية، سواء في كليات الآداب والعلوم الإنسانية، أو في كليات الحقوق، أو في

بعض المعاهد المتخصصة في مجالات إنسانية محددة، تبلورت الجهود المعرفية الأولى لبناء الظواهر الإنسانية العربية، وتلاحقت متتابعة في النصف الثاني من القرن الماضي، متجهة صوب الإحاطة بموضوعات الظواهر الاجتماعية في أبعادها المختلفة. الأمر الذي يمنح مؤتمر المركز أهميته في رصد ومعاينة صوَّر التطور الذي عرفه مجال البحث في مناهج العلوم الاجتماعية.
مكَّن الانخراط المذكور من الاستئناس بآليات في المعالجة والمقاربة غير معهودة في الثقافة العربية المعاصرة، وساهم في انفتاح الثقافة العربية على آليات التجريب والاستنطاق والمسح والتوصيف، ثم التنظيم والبناء والترييض وصياغة النماذج المعرفية، وذلك رغم الهيمنة الكبيرة للمعارف التقليدية ومفاهيمها على الذهنية العامة في المجتمع، فتحولت هذه النواة المعرفية الجديدة إلى بؤرة ضوئية كاشفة داخل مجاهل الفكر العربي، وساهم الرواد المؤسسون لهذه البؤرة في نقل مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية بواسطة الترجمة، وبواسطة التجريب على معطيات الواقع المحلي، مما ترتب عليه لاحقاً، إنتاج أسئلة متعددة تتعلق بحدود وجدوى وقيمة منتوجهم.
نتصوَّر أن تأصيل المناهج في موضوع مقاربة الظواهر الإجتماعية، يرتبط بما نسميه الاستيعاب الإيجابي والنقدي للمرجعيات النظرية ومختلف المناهج المعتمدة، في البحث العلمي في الظواهر الإنسانية، كما يتعلق بشرط تاريخي عام يرتبط بمشروع تدعيم الحداثة السياسية والثقافية والمجتمعية في أقطارنا العربية، بما يمهد لعقلنة المجتمع وعقلنة البحث في الظواهر الاجتماعية، وذلك بإسناده بالمؤسسات الحاضنة والراعية لإرادة في البحث، تتجه لإبداع ما يساهم في حل المشاكل التي نواجه اليوم في مجتمعاتنا.