Print
حسام أبو حامد

الربيع العربي بين موجتين: دروس الماضي ومستقبل التحول الديمقراطي(4)

5 ديسمبر 2019
هنا/الآن
نتابع ملفاً فتحناه في "ضفة ثالثة" نتناول فيه المقارنة بين موجتي الربيع العربي (أو نسختي الربيع العربي)، ومدى استفادة كل من الشارع والنظام من دروس الموجة الأولى، وانعكاسات ذلك على فرص الموجة الثانية. ألسنا مجدداً أمام السؤال: ماذا بعد سقوط الأنظمة والنخب التي سيطرت على السلطة حتى الآن؟ هل بلورت تلك الموجات التي لا تزال بدون رأس سياسي ملامح العقد الاجتماعي الذي ستقوم عليه دولة المواطنة؟

توجهنا بهذا التساؤلات إلى عدد من المثقفين العرب، باحثين وكتاباً، شاركوا معنا مشكورين في طرح آرائهم تعميقاً لفهم الموضوع، وتعزيزاً للنقاش المستمر حوله. هنا الجزء الرابع من الملف:


محمد حلاّق الجرف (باحث سوري):
ضدّ الأضواء!
علينا إزاحة الاستثناء التونسي جانباً عند كلّ حديث عن موجة الربيع العربي الأولى، وإن كنّا نعتقد أنّ الحالة التونسية لا تُشكّل استثناء فعلياً، فربّما ينتظر هذا البلد ربيعٌ آخر، ذلك أنّ موجة الربيع العربي الأولى حملت معها موتها لأنّ "المنطق" الذي حكم ثورتها هو ذات المنطق الذي ثارت عليه، ولعلّ سورية هي مثال يصلح لدراسة وتحليل ذلك.
لم تنتهِ الموجة إلى الفشل لأنّها أعادت إنتاج "النظام القديم" كما حدث في مصر، أو لأنّ العسكرة والعنف والجهادية سيطروا عليها كما حصل في سورية واليمن وليبيا، هذه ظواهر اجتماعية تُرافق الثورات ولكنّها لا تقتلها. ما قتل موجات الثورة الأولى عربياً في رأيي هو أنّها لم تُنتج نخبها، أو لنقل أنّها لم تُنتج نخبها كما يجب، فقد تمكّنت الأنظمة الحاكمة والفضائيات الكبرى وموظفو الخارجيات الغربية وممولو منظمات المجتمع المدني من إعادة تدوير النخب المستهلكة، أو تصنيع نخب على قياسها، وتصديرها إلى الواجهة الإعلامية بحيث أنّنا أصبحنا فجأةً أمام ظاهرة "النجم الثوري" وصار هذا النجم، سواء كان ذا تاريخ بارز كميشيل كيلو، أو شاب كهادي العبد الله، يُقرّر على شاشات التلفزة ما يجب وما لا يجب. وعند ذاك أصبحت مهمة الأنظمة سهلة، عليهم فقط أن يفاوضوا النجم، أو أن يتفاوضوا عليه، ليستعيدوا المجال العام الذي فقدوه مع بداية الثورات.

الموجة الثانية يبدو أنّها استوعبت هذا الدرس وأدركت، أقلّه في العراق ولبنان، أنّ محاربة هكذا أنظمة يجب أن تنطلق من "منطق" يناقضها، فلم نرَ حتّى الآن قيادات أو مؤتمرات أو هياكل معارضة بهيكلية تراتبية لأنّ شباب الحراك في كلّ من البلدين عرفوا، وبذكاءٍ فطري يُحسدون عليه، أنّ ما يهزّ طبيعة هذه السلطات المُتخمة بالتسلسل وخطاب التسلط الحزبي الضيق هو وجود معارضة على مستوى "الشارع كله" ذات قيادة واسعة ومشبعة بالتشاركية. وعندما طالب حسن نصر الله بقيادة للثورة اللبنانية لمعرفة مطالب المحتجين كان الجواب أنّ المطالب مطروحة في الشارع وما عليكم سوى الاستجابة لها، أما في العراق فقد رفع المحتجون قائمة بأسماء 300 شهيد عراقي يمثلون قيادة ثورتهم. هكذا صنع الحراكان "نخبهما"، من شارع الحراك نفسه، لا من أناس "كليي القدرة" لديهم ذاك النزوع اليقيني نحو تحليل كل شاردة وواردة. لكن كانت يقينية وشمولية نخب الربيع الأول هي المشكلة بحدّ ذاتها.
إذاً، لم يقع ثوريو الموجة الثانية بـ"هوى السلطة"، ولم تُغرهم أضواء الشهرة فعرفوا أنّها قاتلة. بل على العكس تماماً، صرنا نرى "نجوم مجتمع" مشهورين باتوا حريصين على التقاط صورهم في الساحات.

ولكن، هل كان للموجة الثانية أن تقوم لولا الموجة الأولى؟ بالطبع لا. تُشبه موجات الربيع الأولى بأثرها ما عاشته أوروبا بعد احتجاجات 1968 الفرنسية. فقد أطلقت المشاعر تجاه الحق في امتلاك المجال العام المسلوب من أنظمة التسلّط منذ الاستقلال، وكذلك أعلنت "موت الأب" وانتفضت في وجه أبوية أحزاب المعارضة التقليدية، وهي لم تفشل إلاّ لأنّها كانت بمعنى ما "تمهيدية"، فالشارع الذي عاش "فراغ" السياسة واحتقار الشأن العام على يد الآباء، أدرك أبناؤه الآن أنّهم "ليسوا دمىً معزولة وعاجزة تتحكم فيها مؤسسات لا يستطيعون السيطرة عليها ولا فهمها" على حدّ وصف دانييل سنجر لشباب ثورة مايو الفرنسية.



مايا مجذوب (إعلامية لبنانية ومؤسسة مبادرة "التجمع المناهض للفصل العنصري"):
متغيرات الربيع العربي.. بين مرحلتين
الثورة سيرورة تتعاقب مراحلها و"أمواجها". وما بين الموجتين الأولى والثانية لما عرف بـ"ثورات الربيع العربي"، شهدنا عدة متغيرات:
- لا دينية ولا عسكرية، بل مدنية: نلاحظ في الموجة الثانية تصاعد وهج "الدولة المدنية" في أدبيات الثورة كمطلب شعبي عام يعد بالعدالة الاجتماعية، بعد فشل نماذج الإسلام السياسي في الحكم (الإخوان المسلمون في مصر)، وانحدار أغلبها نحو العنف الوحشي (داعش والنصرة في سورية)، إلى جانب فساد وديكتاتورية نموذج الحكم العسكري (مصر السيسي). لذا، فإن أهم الهتافات التي خرجت في السودان مثلاً هي "إما النصر أو مصر"، بحيث رفضوا أن تسلبهم السلطة العسكرية ثورتهم، برغم كل محاولات القمع، بعكس مصر التي سلّمت السلطة الانتقالية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة. كما نشهد اليوم تراكماً لوعي جمعي لدى شعبي العراق ولبنان يربط بشكل ماديّ مباشر بين الطائفية والفساد في البلدين، فبات يُنظر للطائفية على أنها سياسة "تفقير" للشعبين. لذا نراهم يتصدون لها و"يعيدون تعريف" هويتهم ضمن إطار المواطنة (عراقي ولبناني) لا ضمن إطار طائفي كما اعتاد أن يُعرّف عنهم، فيتمسكّون بمطلب "الدولة المدنية".
- لم تستفد الموجة الثانية من تجربة الموجة الأولى ضرورة بلورة قيادة واضحة: كي يُكتب النجاح لحراك شعبي يتعدّى بمطالبه فقط إسقاط حكومة أو وجه رئاسي ما، على الحراك أن يُشكّل قيادة وطنية موحدة تفرض برنامجها ووجوهها على مراكز صنع القرار في السلطة. لكن اليوم، الرأي السائد في خطاب الانتفاضة الشعبية في لبنان مثلاً، هو تغييب متعمّد لأي قيادة للحراك على قاعدة أن لا أحد يمثّل بشخصه جموع الثوّار وأن لا مركزية للقيادة، وبأن هذا يمنع السلطة من "تلفيق ملفّات" على القادة. الحق يقال، كانت هذه نقطة قوة للحراك في مرحلته الأولى لحين إسقاط الحكومة، لكن اليوم، مع دخوله مرحلة تشكيل حكومة جديدة تُمثّل تطلعات الثوار، يجب الدفع باتجاه أسماء وبرامج تمثيليّة يفرضها الحراك كبدائل، كي لا يُترك الباب مفتوحاً أمام أركان السلطة بالاختيار نيابةً عن الناس، كما يحصل اليوم، كونها قوى سلطوية "مُنظّمة" بعكس الثوّار. لا يكفي بناء الوعي الثوري لدى الجموع، المهم أيضاً أن يُنتِج ذلك مؤسسات وقوى سياسيّة تُمثّلها – وإلاّ وقعنا كذلك في فخ النقطة التالية:

ـ فخ عدم إدراك (نتيجة غياب خطاب تمثيلي موحّد) مدى عمق الأهمية الاستراتيجية في إعلان موقف جذري من "إسرائيل": ولا أعني هنا خطاباً صوريّاً فقط، كحرق العلم الإسرائيلي مثلاً، بل من حيث تعزيز استراتيجيّات مضادة للاستعمار وإلغاء اتفاقيات السلام مع الاحتلال الإسرائيلي. مثلا، "الإخوان المسلمون" في مصر أبقوا على معاهدة كامب ديفيد، وحافظوا على سياسة خارجية خاضعة للولايات المتحدة الأميركية، بدل أن يتبّعوا سردية 25 يناير الثورية الساعية إلى نفض منظومة الحكم العسكري وتحالفاته، وإعادة بناء منظومة ثورية ضد الاستعمار. الأمر نفسه ينطبق على العديد من نماذج المعارضة الليبراليّة. واليوم، لا أفق لحركة تغييرية في أي بلد عربي تُنادي بدولة "مدنية" لكن لا تتبنى كذلك طرحاً مضاداً للاستعمار يحوز على إجماع عام ويمنحها شرعية. في العراق مثلاً، الانتفاضة على التدخلات السلطوية الإقليمية، منها الإيرانية، لا يجب أن تعني بالمقابل عدم اتخاذ موقف قاطع من "إسرائيل" والإدارة الأميركية. في انتفاضة لبنان، تبرز الحاجة إلى التأكيد على أن الحراك المطلبي لن يمس باستراتيجية البلاد الدفاعية القائمة ضد الاحتلال الإسرائيلي، أي بسلاح المقاومة وأن شعار "كلن يعني كلن" المحق من حيث تحميل كل الأطراف الحاكمة - من ضمنها حزب الله - مسؤولية الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب الذي آلت إليه البلاد، لن يكون أشبه بـ"حصان طروادة" تتلطى داخله بعض الأطراف الخارجية والداخلية التي تستهدف فعلياً سلاح الحزب تحت عناوين مطلبية محقة. على الحراك الشعبي أن يحمي المقاومة، برغم محاسبته إياها على الأداء السياسي في الداخل.
- اكتسبت الموجة الثانية خبرة أكبر في التصدي لأدبيات الثورة المضادة، وأبرزها تفادي الوقوع في فخاخ السياسات الهوياتية: مثلا، نرى التركيز الأكبر على البنية المطلبية المشتركة العابرة للهويات الطائفية والمناطقية بوجه سلطة تُحرّك وتغذي الهويات المتصارعة على وزن: سني- شيعي في سورية، إسلامي- علماني في مصر مما سهّل انقضاض العسكر على الثورة، سني- شيعي- كردي- عربي في العراق. في الانتفاضة الشعبية في لبنان مثلاً انتشر شعار "طبقية مش طائفية" للتركيز على طبيعة معركة الحراك اللبناني ضد النظام الطائفي الطبقي الرأسمالي بدل الوقوع في فخ انقسام "هوياتي" طائفي، رغم انزلاق البعض فيه، لكن كان ذلك يستجلب في كل مرة حملات إدانة شعبية واسعة رافضة لخطاب "الحرب الأهلية". كذلك بات الشارع الحراكي اليوم أكثر إلماماً وخبرة في التعاطي مع اتهامات السلطة لإجهاض الحراك: تمويل سفارات، نحن أو الفوضى، نحن أو الفراغ، ستقعون في حرب أهلية، البلد سيفلس...
- تفادت الموجة الثانية الدخول في صراع مسلّح مع القوى الأمنية برغم القمع (القمع الدموي في العراق خاصةً) لتجنب سيناريو ليبيا وسورية متمسّكةً بشعار "سلميّة".
ختاماً، طالما أن أسباب قيام ثورات "الموجة الأولى" لا زالت قائمة حتى اليوم – من فساد، قمع، بطالة، ديكتاتورية – فمن المتوقع أننا سنشهد في المنطقة المزيد من الموجات القادمة.


أنيس محسن (كاتب وصحافي فلسطيني من لبنان):
ربيع لبنان.. ساحات الشعب وشوارع أحزاب السلطة
ليست الاحتجاجات حديثة العهد في لبنان، بل هي قديمة ومتنوعة؛ بعضها كان سلمياً على غرار الاحتجاجات التي كان ينظمها طلاب وأساتذة الجامعة الوطنية وعمال مصانع غندور، وتظاهرات صيادي الأسماك، في الربع الأخير من ستينيات القرن الماضي، ومطلع سبعينياته؛ وبعضها كان دموياً على غرار احتجاجات 1958 التي تحولت إلى حرب أهلية مصغرة، ثم احتجاجات ما قبل الحرب الأهلية (1975 – 1990)، التي شهدتها غالبية المدن اللبنانية، والتي قوضتها تلك الحرب التي تسببت بإزهاق أرواح وتغييب قسري لمئات الآلاف من المواطنين، فضلاً عن فرز ديموغرافي على أساس الدين والطائفة.
ما بعد 1990، شهد لبنان كذلك سلسلة من الاحتجاجات؛ بعضها كان محدوداً مكاناً ومكوّناً، على غرار تظاهرة 9 آب/أغسطس 2001 لأحزاب مسيحية أمام قصر عدل بيروت، قُمعت بعنف؛ واحتجاجات 1992 التي سادت الشارع بعد انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، والتي كانت موجهة وذات هدف، هو تسليم مقاليد الاقتصاد للرئيس الراحل رفيق الحريري، عبر تسلمه رئاسة الحكومة، بتسوية سورية – سعودية – أميركية. على أن أكبر وأعظم تلك الاحتجاجات كانت تلك التي أعقبت اغتيال الرئيس الحريري في 14 شباط/فبراير 2005، والتي تسببت بخروج جيش النظام السوري من لبنان، لكنها أعادت توزيع السلطة على القوى والمحاور السياسية التقليدية، وحالت دون إحداث تغيير اقتصادي واجتماعي، بل قادت إلى مزيد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والعُقم السياسي.
أما الاحتجاجات التي جاءت بعد دخول تيار الرئيس الحالي ميشال عون (التيار الوطني الحر) "جنة" السلطة، فكانت تلك التي شهدها وسط مدينة بيروت احتجاجاً على تكدس النفايات وكانت عبارة عن تظاهرات تحت اسم "طلعت ريحتكم"، والتي بدأت في 22 آب/أغسطس 2015، لكن أجهضت أيضاً، عبر زج "زعران" ميليشيات السلطة بين المتظاهرين، والتسبب بصدامات مع قوى الأمن التي عمدت إلى قمع تلك الاحتجاجات.
"كلن يعني كلن": في 16 تشرين الأول/أكتوبر 2019، أُعلن عن ضريبة 6 دولارات شهرياً على المكالمات عبر تطبيق "واتساب"، فكانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير، إذ خرجت تظاهرات في مختلف المناطق تطالب بإسقاط السلطة كلها، وتتهم كل السياسيين بالفساد، وهي تظاهرات واعتصامات استمرت على الرغم من إلغاء القرار بعد 24 ساعة، وتواصلت بأشكال مدنية سلمية لافتة، بعد مرور أكثر من شهر ونصف شهر على اندلاعها، وعلى الرغم من محاولات زجّ الجيش والقوى الأمنية في صدام مباشر مع المحتجين، فقد لعب عاملان لافتان في نزع فتيل تلك المحاولات: رفض الشارع الاصطدام مع الجيش والقوى الأمنية واحتواء الأمر، وتمنع الجيش خصوصاً عن استخدام العنف المفرط مع المحتجين، على الرغم من حدوث صدامات محدودة مكاناً وزماناً، علماً أن تصرف قيادة الجيش هذا وضعها تحت سيف الانتقاد المباشر و/ أو غير العلني لتحالف الثنائي الشيعي (حزب الله وأمل) والتيار الوطني الحر (التيار العوني).

المفاجأة التي أربكت السلطة ولا تزال، كانت بخروج آلاف اللبنانيين من منازلهم إلى الشوارع والساحات: من أقصى الشمال في عكار مروراً بطرابلس، ثاني أكبر مدن لبنان، التي عُدت عروس ثورة 17 أكتوبر 2019، لما شهدته ساحتها الرئيسية (ساحة النور أو ساحة الله – بسبب كلمة الجلالة وسطها، واسمها الرسمي ساحة عبد الحميد كرامي) من إبداعات احتجاجية مدنية وحضارية، أزالت عن المدينة وصمة التطرف والأسلمة، التي رُميت بها لسنوات طويلة؛ مروراً بمدن وبلدات منطقة كسروان المسيحية، المحسوبة عادة على تيار الرئيس ميشال عون، وبيروت التي لم تهدأ لحظة وصيدا التي أبدعت باحتجاجاتها أيضاً؛ على أن المفاجأة الثانية كانت تلك التظاهرات والاعتصامات التي شهدتها مناطق سيطرة حزب الله وأمل، في العمق الشيعي، في صور والنبطية وبعلبك والهرمل، والتي تحدت القمع المباشر والعنيف واستمرت بدورها.
خلاصة: قد يكون فرط تفاؤل التعويل على تغيير جذري تُحدثه ثورة 17 أكتوبر في لبنان، لكن بعض ما تحقق يمكن البناء عليه:
-        إجبار رئيس الحكومة سعد الحريري على الاستقالة، على الرغم من ضغوط حزب الله والتيار الوطني الحر (التابع لرئيس الجمهورية)، وبالتالي خلط أوراق تحالف الأوليغارشية الحاكمة.
-        خروج مناطق محسوبة على مختلف أحزاب وقوى الأوليغارشية الحاكمة، ورفع مطالب فوق طائفية ومناطقية.
-        تقويض هالة الزعيم السياسي وقُدسية رجال الدين وقادة الطوائف، والنظام الطائفي برمته.
-        تحييد الجيش اللبناني والقوى الأمنية، من خلال احتضان الجمهور المحتج لها، واقتصار القمع على بعض الوحدات التابعة مباشرة لبعض قوى السلطة.
ربما لا تحقق ثورة 17 أكتوبر مُرادها، كون الأُوليغارشية الحاكمة والمتحكمة والمتجذرة والمتوجسة من أي تغيير، سوف تستخدم كل خبرتها وأسلحتها في تقويض جذوة الثورة، لإحداث حالة من الإحباط تدوم طويلاً، وتجعل الشعب خانعاً مجدداً. وقد تَمثل ذلك في عدم دعوة الرئيس عون لاستشارات نيابية ملزمة لتكليف رئيس وزراء جديد تشكيل الحكومة، بعد مرور أكثر من شهر على استقالة الحريري (دعا أمس الأربعاء إلى استشارات كهذه- المحرّر)، وبإصرار حزب الله على رفض تلبية المطلب الرئيس للمحتجين، وهو: حكومة بوزراء مستقلين لمعالجة سريعة وفورية للأزمة المعيشية والتحضير لانتخابات نيابية مبكرة، وتعبئة جماهيرية مباشرة أو عبر وسائل إعلام، هدفها شيطنة الانتفاضة، من خلال اتهام أحزاب وقوى كانت جزءاً من تجمع "14 آذار"، وخصوصاً القوات اللبنانية وتيار المستقبل، بالوقوف خلف عرقلة حركة السير على بعض الطرقات (حزب الله وحلفاؤه يصرون على وصف هذا الاحتجاج السلمي بـ "قطع الطرقات"، وهو وصف غير دقيق البتّة، كونه كان دائماً يتم الحفاظ على تسيير المواصلات عبر طرق فرعية).
قد يُلاحظ أن وتيرة الاحتجاجات تنخفض بين حين وآخر، وتشتعل عند مفاصل سياسية أو اقتصادية معينة، لكن الأكيد، وبغض النظر عن معادلات الربح والخسارة الآنية، أنه استراتيجياً وما بعد ثورة 17 أكتوبر لن يكون الوضع مثل ما قبلها.

جودي الأسمر (كاتبة وإعلامية لبنانية):

انتفاضة لبنان.. نعم لعراق ثانٍ

يُتّخذ العراق مثالاً تهويلياً ليرتدّ اللّبنانيّون عن انتفاضهم. منذ سنوات وبصورة متقطعة، يلوّح الخائفون في لبنان بـ"عراق ثانٍ"، متأثّرين بالمخوّفين الّذين تصدح أصواتهم اليوم أعلى وبضراوة للجم الدفق التّغييري، فيبنون على شروخات داخلية أفرزت أبشع الحروب على أرض العراق، بدءاً بالاجتياح الأميركي وانتهاءً بداعش.
وهكذا، يأخذون بتسمين فزّاعة الطائفيّة الّتي يفضّلون التّعايش معها أو إنكارها، عوضاً عن الإقرار بوجودها وقتلها. هذه الحال، تحديداً، تشترك فيها كلُّ من لبنان والعراق، لذلك من السّليم وربّما الضّروري الاستلهام من العراق وليس التهويل به، طمعاً بإنماء الانتفاضة وليس تهديمها.
فالعراق ينضمّ إلى لبنان، بفارق أيام، إلى قافلة البلدان العربيّة الّتي تخوض ربيعها العربيّ الثّاني، بتجربة أنضجتها السردية السياسية الذّاتية، وتستقي الدّروس أو بالحدّ الأدنى تمتلك الفرصة لاستقاء الدّروس من الرّبيع الأوّل الّذي لم ينتهِ بدون مصائب جلل خصوصاً في سورية، ولكن بعهد مشرق بدأ في تونس.
لذلك نتمنّى أن يكون لبنان اليوم عراقاً ثانياً، لأسباب سنعالجها لاحقاً إنّما ينبغي تثبيت أن ما يحدث في لبنان مهيب. ويظلّ شرفاً للشعب وتشريفاً للبنان بصرف النّظر عن مآله. ومهمّة المؤمنين به هو حمايته من الاشتباه به، ومن تقزيمه. والسؤال التالي يأتي حول كيفية القبض على قوته والبناء عليها، وهو الأصعب.
قيامة لبنان وعراق على أنقاض الترهيب: هي قيامة بحقّ، من الموت إلى الحياة، وحدثت أيضاً كالقيامة، في لحظة غير متوقّعة كانت خلالها الشيعيّة الحزبية مستقوية، ومنظومتها العسكرية تحكم قبضتها على المنطقة، بعد رسوّها في سورية والعراق، وتخصيب هذا الوجود من خلال الدعم الإيراني. الصّدمة الّتي أحدثها هذا التّغيير، جاء في قلب الطّاولة على كلّ رموز السلطة الفاسدة والنّهّابة والمترهّلة في لبنان بما فيها حزب اللّه الّذي حاول الاستعانة بترهيبه المزمن، ومحاولة تحويل 17 تشرين الى 7 أيار جديد، ولبنان الى عراق آخر، ولكن المختلف أنّ هذا التّرهيب يخدم اليوم كلّ السّاسة المدانين وليس فقط الحزب. في مقاله في "النهار" يصف جهاد الزين هذه القوة بـ"الفاشية" التي تضرب بيروت لحماية السياسيين برمّتهم "فالدور الذي تلعبه خلال الثورة ليس مجرد دفاع عن النفس أمام اختراقات الثورة لقلب مناطقها وسكانها الشيعة. كل الطبقة السياسية المدانة في الشارع المزدحم بالناس الغاضبين هي اليوم مدينة للشيعية المسلحة بإرباك وإضعاف هذه الثورة".

فـ ـ"جوكر" العراق الوشيك في لبنان، استخدمه السيّد حسن نصر الله في خطابه بتاريخ 25 أكتوبر "بمعزل عن خلفيات وتفاصيل ما يجري في العراق، ماذا يجري اليوم في العراق؟ (...) أتريدون أن يصبح لبنان هكذا؟"، في وصفه بـ"الحرب الأهلية" لما يحدث في العراق من تظاهرات شبابيّة انطلقت بعفوية ممتازة، بنفس النّبض والسّلميّة الّتي تنتفض في لبنان ضدّ نقص الخدمات واستنسابية العدالة وانفلات السلاح، وفساد يقفز نحو معدلات غير مسبوقة. تهويل نصر الله في لبنان، سبقه الشهر الماضي قول رئيس الحشد الشعبي العراقي فالح الفياض بأن "مؤامرة تحاك ضد أمن العراق الغرض منها إسقاط النظام السياسي القائم منذ 2003". وتقع الترجمة الأبشع لهذا التخويف المقرون بالتخوين في النجف العراقي، حين تسابق متظاهروه للنجاة من زخ الرصاص بعدما أقدم مندسون على إضرام النار في قنصلية إيران، في محاولة لخرق الانضباط والهدوء اللافتين في تظاهرات النجفيين، الّذين أداروا الأذن الصماء لكل هتافات الكراهية والعداء. والموقف المرتجل والمتوقع لقادة الحشد الشعبي يأتي في تصريحهم عن تهديد طاول علي السيستاني الذي تطوعوا لحمايته بإزهاق الأرواح، "في حين لم يقترب أحد من مكتب المرجع أو منزله" حسب جريدة السفير العربي.
إنّ الكرّ والفرّ وأيضاً الموت الرّاهنين بين المتظاهرين والأمن العراقي، حجّة وجيهة بنظر الشيعية المسلحة وبائدة بنظر المتظاهرين في لبنان، الّذين يؤمنون بأنّ النسخة اللبنانية لا تمتلك اليوم سوى عداء إسرائيل كمسوّغ أوحد لاستخدام قوته (وسلاحه)، لا تبرره توجيهها على المتظاهرين العزّل الّذين لا يربطهم أي منطق، عقائدي أو مطلق، بإسرائيل. وهنا يكمن الفارق الجوهري الّذي يطمئننا مبدئياً الى أنّ الربيع الراهن خلع عن نفسه عباءة الدّين، في انكماش الهالة التهويليّة عن الحزب في لبنان الّذي استمدّ قوّته السابقة من تصوّرات دينيّة خاطئة في دمشق. التظاهرات في صور والنبطية وبعلبك بما تمثله من مكونات شيعية، تفهم أنّها أسقطت هذا التّصور.
نعم.. لعراق ثانٍ، يستلهم منه المتظاهرون في لبنان الثبات، ومقارعة التهويل مهما اشتد مثلما يجيد أقرانهم العراقيون، وهؤلاء يقابسون اللبنانيين بتحويل ساحاتهم الى واحات فنّ في الموصل (موسيقى) وبغداد (غرافيتي). وفي كلا البلدين تصدح الـ"بيلا شاو" الإيطالية تعبيراً عن مناهضتهما لفاشية القرن الواحد والعشرين.
فالفزّاعة تبقى عصا هزيلة تعلوها كومة قش، مهما جرّبنا إتخامها بالتصورات الخاطئة. ومن التّصورات الّتي ينبغي إسقاطها، هو تحوّل لبنان الى عراق مفكّك ومدمّى. من الضروري اليوم تكثيف الإلهام والاستلهام بين شباب البلدين، خصوصاً الاستمرار بالمرونة والحكمة والوعي المدهشين حقاً في مواجهة الاستثارات الطائفية وما تتضمنه من عنف.

 فيديو المحاضرة كاملة :