Print
محمد جميل خضر

رحيل السيناريست والمخرج رفقي عسّاف.. تَرَجُلُ الشَّغف

4 ديسمبر 2019
هنا/الآن
طالما أن خبر موت إنسان فلسطينيّ لم يعد منذ 70 عاماً خبراً مفجعاً، فبإمكان اليوم الواحد أن لا يَقْصِرَ خطّاف موته على فلسطيني واحد. هذا ما كان في الثالث من كانون الأول (ديسمبر) 2019، عندما أخذت سحابته معها المترجم الفلسطيني صالح علماني (تنقّل بين سورية وإسبانيا) (1949-2019) ومعه السيناريست والمخرج الفلسطيني/ الأردني رفقي عسّاف (1978-2019).

وبما أن علماني له ما له وعليه ما عليه، وقد أثار حجماً مهولاً من الزوابع وتباين وجهات النظر، إنْ على صعيد أسلوبيته في ترجمة عشرات الروايات الطالعة من قلب أميركا اللاتينية، أو على صعيد موقفه من النظام السوري، فإن الشاب الذي ترجّل طاوياً معه شغفه (رحل عسّاف عن 41 عاماً)، ترك غصّة عميقة عند أترابه وزملاء مهنته وأصدقاء محبته. ولعل جولة سريعة على صفحات التواصل تضعنا في الجو العام المرتبط بصاحب فيلمٍ روائيٍّ طويلٍ واحد "المنعطف" (2015) كتابة وإخراجاً، وعدد من الأفلام القصيرة كتابة أو إخراجاً أو كليهما معاً.
قضى رفقي عسّاف معظم سنوات وعيه ومغادرته عمر الطفولة متوارياً داخل ثوب أبيه، معجوناً بحزن ثاوٍ لا يبرحه حول ماهية هذا الأب وما كان منه مع الزمان وما كان من الزمان معه. نوستالجيا موجعة لم ينتفض عليها ولم يبرأ منها إلا بعدما أنجز فيلمه الروائي الطويل "المنعطف" الذي استغرقه إنجازه ستة أعوام ونصف العام، ليس بسبب عثرات على صعيد التنفيذ، ولا بسبب ضعف الميزانيات (شارك في إنتاج الفيلم عديد الدول والمؤسسات والأشخاص من الإمارات العربية المتحدة، فرنسا، الأردن ومصر)، بل الأمر يعود أساساً لحساسية أن تسكب نفسك في فيلم سينمائي من إخراجك. هذا ما صرّح به حرفياً خلال مقابلة أجريت معه على هامش مشاركته في مهرجان السينما البديلة في أبو ظبي. يقول عسّاف في تلك المقابلة: "أصعب ما يمكن أن يقوم به مخرجٌ ما هو أن يدخل إلى عالمه الداخلي سينمائياً. البوح تعرية نفسية ومكاشفة درامية صعبة، وربما هذا ما يبرر أن الفيلم استغرقني ستة أعوام ونصف العام وأنا أعمل عليه وصولاً لإنجازه أخيراً".
ثم يعيد ويكرر: "تجسيد حياتي الشخصية والوجدانية الذاتية على شكل حدوتة سينمائية وحوارات بين الممثلين، لم يكن سهلاً على الإطلاق".
أما أُس هذه الصعوبة فيتبيّن من المقابلة إياها أن له علاقة بردود فعل المتلقين وكيفية تلقيه هو شخصياً لهذا التلقي من جمهور الفيلم ومشاهديه الذين سيكونون بمعظمهم حتماً من الجمهور النخبويّ لخصوصية الفيلم ولا شعبويته ولكونه أُنتج أساساً في سياق مفاهيم السينما البديلة التي لها جمهورها الخاص، يضاف إليهم المشاهدون من وسطه وبيئته السينمائية ومن المثقفين على وجه العموم.


سكبت كل ذاتي في "المنعطف"
يضيف عسّاف بما يشبه البوح: "بعض المخرجين يمرِّرُ جزءاً من سرديته في فيلم من أفلامه، بالنسبة لي سكبتُ كل ذاتي في "المنعطف" مواجهاً صعوبة مركبة مزدوجة: من حيث إنجازه والتعامل معه خلال التصوير وتعديلات السيناريو، وأما الصعوبة الأكثر حرجاً بالنسبة لي فلها علاقة بكيف سأستقبل ردود الأفعال والتغذية الراجعة حول الفيلم. تصبح حسّاساً وهَشّاً إلى أبعد الحدود بينما أنت تستمع إلى ملاحظات الناس وتتلقى ردود أفعالهم حول فيلم هو في نهاية المطاف أنت، كل ما هو أنت".
فما هي سردية "المنعطف" الكفيلة أن تطلعنا على سردية رفقي عسّاف نفسه؟
تدور أحداث الفيلم، الذي يقوم ببطولته الفنان الفلسطيني أشرف برهوم، والسورية فاتنة ليلى، واللبناني مازن معضم، والأردني أشرف طلفاح، حول رجل يعاني من "الرُّهاب الاجتماعي"، ويعيش داخل "ميني باص"، يقوده القدر إلى لقاء ثلاثة أشخاص، في ظروف مختلفة، ليصبحوا جميعاً في رحلة على الطريق. لكن هذا الرجل لا يُعاني الرُّهاب فقط، بل يُعاني من فقد الأب، ومن فقد الوطن ومن الشعور بالهزيمة.
مونولوج داخلي طويل داخل باص صغير حوّله الراضي (الفلسطيني أشرف برهوم) باقتدارٍ آسر إلى كل عالمه، ففي هذا الـ(ميني باص) ما يحتاجه للطهي وشرب الشاي والقهوة وفيه مكان للنوم ومكتبة صغيرة وأسرار كثيرة.
اختيار فريق العمل (الكاستينغ) يطرح سؤالاً مباشراً: هل هي مصادفة بريئة من عسّاف أن تحمل جنسيات أبطال العمل الأربعة مكونات بلاد الشام جميعها: فلسطيني وسورية ولبناني وأردني؟
"المنعطف" هو الجزء الأول من ثلاثية كان ينوي عسّاف إنجازها، كجزء، على ما يبدو من سردية الأب الذي رحل ذات نوفمبر بعيد، ومن سردية الابن الذي سيحُول رحيله ذات ديسمبر قريب دون إكماله مشروعه هذا. وكان صرّح في حوار أجرته معه الزميلة سارة القضاة أن "الخريف" هو عنوان الجزء الثاني من هذه الثلاثية. الخريف الذي تجلى كعنوان للرحيل في حالته وفي حالة والده.
حاز عسّاف خلال مشواره الذي انقطع قبل الأوان على جوائز عديدة، سينمائياً لديه إضافة لـ"المنعطف"، عدد من الأفلام القصيرة: "المشهد" كتابة وإخراجاً مشتركاً مع حازم بيطار، وقد حصل الفيلم على عدة جوائز من بينها جائزة اللؤلؤة السوداء لأفضل فيلم قصير من مهرجان أبو ظبي السينمائي 2008، وفيلمان قصيران وثائقيان بصريان كمخرج، كما قام بكتابة أفلام قصيرة لمخرجين آخرين، من بينها فيلم "صباح بارد في نوفمبر" الحاصل على جائزتي الجمهور ولجنة التحكيم من المهرجان العربي الفرنسي، وفيلم "الببغاء" الحاصل على منحة روبرت بوش الألمانية للسيناريو وجوائز أخرى، إضافة إلى نشره عديد المقالات النقدية والكتابات الأدبية في صحف ومواقع محلية وعربية.
في مستهلّ صفحة عسّاف على فيسبوك عبارة تقول: "الشغف هو الأثر الذي يجب أن تتبعه" Passion is the trace. فهل ترجّل شغفه قبل الأوان أم أنه ذهب يبحث عنه في فضاء آخر؛ فضاء قد يعثر فيه على أبيه الذي رحل على ما يبدو تاركاً أسئلة حيرى قضى رفقي عمره يحاول الإجابة عنها؟