Print
روان الجبر

آنا كارينا.. انطفاء نجمة في سماء السينما الفرنسية

23 ديسمبر 2019
هنا/الآن
في 14 ديسمبر/كانون الأول الجاري، وفي أحد مشافي العاصمة الفرنسية باريس، بصحبة زوجها الرابع المخرج الأميركي دينيس بيري، توفيت الممثلة الفرنسية الدنماركية الأصل، آنا كارينا، النجمة الساطعة في سماء السينما الفرنسية بموجتها الجديدة، عن عمر يناهز 79 عاماً، ونعاها وزير الثقافة الفرنسي فرانك ريستر معلناً أنه بعد رحيلها تفقد السينما الفرنسية إحدى أساطيرها، وتصبح يتيمة.

ولدت أنا كارين بلارك باير في Solbjerg، إحدى مدن الضواحي على الساحل الشرقي للدنمارك، في 22 سبتمبر/أيلول 1940. غادر والدها العائلة عندما كانت فتاة صغيرة، وكانت والدتها مصممة أزياء للملابس المسرحية. قدمت الفتاة إلى باريس، وفي بداية حياتها المهنية المبكرة عملت عارضة أزياء ومغنية كباريه، وسجلت أغنيات حققت نجاحا، متعاونة مع الممثل والمخرج وكاتب الأغاني والملحن سيرج غينسبورغ، وصعد اسم آنا كارينا خلال الفترة الذهبية للموجة الجديدة في السينما الفرنسية في الستينيات، التي ترافقت بانقلاب نسائي عبر إطلاق مجموعة متنوعة من الأفلام التي تقدم الشخصيات النسائية مركزا للأحداث، بدءا بفيلم ليوي ميل "الأحبة مع زازي في المترو" الذي يروي مغامرات مراهقة في باريس مع عمها غريب الأطوار.
استطاعت كارينا أن تصبح أشهر نجمات هذه الموجة التي تمردت على القوالب التقليدية السينمائية، وعملت مع صانعي أفلام مشهورين مثل: جان لوك جودار، وفرانسوا تروفو، وجاك ريفيت، ولوتشينو فيسكونتي، وأخرجت فيلمها الخاص "العيش معاً" (1973).


الموجة السينمائية الجديدة
بعد الحرب العالمية الثانية، ورحيل الاحتلال الألماني عن فرنسا، تمسك الفرنسيون بتقاليدهم وتراثهم، أما الشبان الأصغر سناً فكان لهم رأي آخر. بعد التحرير، وتخلص السينما الفرنسية من رقابة المحتل، تزايدت شعبية السينما، وكان للأفلام الأميركية الهوليوودية، التي منعت من العرض في سنوات الاحتلال، النصيب الأكبر من الشعبية.
لم تبق السينما حديث الشارع الفرنسي وحسب، بل أيضا كانت موضوعا للصحف والمجلات، واكتسبت مجلات فرنسية متخصصة شهرة واسعة (أهمها الشاشة، دفاتر سينمائية، والمطالعة)، وانتشرت ظاهرة النوادي السينمائية التي لم تقتصر مهامها على عرض الأفلام بل أيضا شملت التدريب على المهارات والفنون السينمائية، وعقد الندوات وإلقاء المحاضرات. وفّرت هذه المنصات أدوات للنقد الفني السينمائي لإدارة نقاش منتج على صعيد الحركة السينمائية وتطورها.
في العام 1957 نشرت مجلة الإكسبريس الفرنسية تحقيقا أظهر أن معظم الشبان الفرنسيين (ما بين 18 و20 عاما) ينظرون بشكل مختلف إلى مجتمعاتهم وإلى المستقبل، وأعلنت المجلة أن "موجة جديدة" قادمة لا محالة. عاد التعبير ليظهر في "الإكسبريس" مجددا في مقال للصحافية الفرنسية فرانسواز جيرو، ثم في كتابها الذي نشرته في العام التالي، ليتداول المصطلح في مهرجان كان السينمائي عام 1959، وتستقر دلالته عند تيار من السينمائيين الشباب، بلغت حركتهم ذروتها ما بين عامي 1958 و1964، واستمرت حتى بداية السبعينيات.
لم يخل الأمر من معوقات أمام تطوير السينما الفرنسية تمثل أهمها بارتفاع الكلفة الإنتاجية للأفلام السينمائية المصنوعة داخل الستوديوهات، مقارنة بظروف فرنسا الاقتصادية في السنوات الأولى ما بعد الحرب. وبالإضافة إلى تمردهم على التقاليد الاجتماعية، حاول هؤلاء السينمائيون من الموجة الجديدة ابتكار أساليب فنية وإنتاجية غير تقليدية، مستفيدين من التقنيات الجديدة كآلات التصوير المحمولة الخفيفة، والأفلام عالية الحساسية للضوء، وتقنيات الصوت المتنقلة، للتحرر من جدران الستوديوهات وكلفتها الإنتاجية العالية، وشروطها البيروقراطية والربحية والاقتصادية. هنا تحديدا نلمس تأثرهم بالواقعية السينمائية الإيطالية، حيث استلهموا أفكارهم من الشارع، واعتمدوا على الممثلين غير المحترفين أو حتى غير المعروفين لتقليل كلفة أعمالهم الفنية، لذلك لم يعجب هؤلاء السينمائيون الشباب بالسينما الأميركية الهوليوودية ذات الكلفة الإنتاجية العالية وأسلوبها في السرد الانسيابي التقليدي، لكنهم أعجبوا بالسينما الصامتة وكلفتها الإنتاجية البسيطة، لا سيما أعمال شارلي شابلن (1889 - 1977)، وديفيد وارك غريفيث (1875-1948)، وڤكتور سيوستروم (1879- 1960)، وجوزيف فرانك كيتون (1895 –1966). أما كوميديا المخرج الألماني آرنيست لوبيتيشس (1892 – 1947) فكانت نموذجا لكتاباتهم السينمائية وبنائهم الدرامي.
وفر دعم الحكومة الديغولية للثقافة الفرنسية، وأموال الاستثمارات التي منحها "دستور الجمهورية الخامسة"، دفعة لعملية الإنتاج السينمائي، وكان المنتجون ينتقون بعناية المخرجين الجدد للوقوف خلف الكاميرا. فبعد أن أحتل كاتب النص أو المنتج أو الستوديو الهوليوودي حجر الزاوية في النظرية السينمائية، احتل المخرج مع الموجة الجديدة عصب هذه النظرية المركزي، وخرج مخرجو أفلام الموجة الجديدة من حالة الأفلام القصيرة إلى الأفلام الطويلة في أواخر الخمسينيات، ومن خلال فيلمه "وخلق الله… المرأة"، والذي لعبت بطولته مارلين مونرو (زوجته لاحقا) وكان أول فيلم طويل للموجة الجديدة، أثبت روجر فاديم الكاتب والمخرج الشاب (28 عاما) أن الميزانية الصغيرة التي وضعها مخرج يقوم بعمله الأول، لا تقف عائقاً في وجه نجاحه. لقد أصبح الإخراج إبداعا فرديا يتيح للمخرج فرض شروطه الخاصة للخروج عن المألوف، والتصوير بالميزانية المتاحة، والكاميرا المحمولة، وتقنيات الصوت الديناميكية.


على طريق الشهرة والزواج
عام 1957 بدأت كارينا العمل في عرض الأزياء، وتعرفت إلى مصممة الأزياء الشهيرة كوكو شانيل (غابرييل بونور شانيل)، التي اقترحت عليها تبني اسم بطلة رواية تولستوي "آنا كارنينا" وعرضت عليها دورا في أحد أفلام الموجة الجديدة ("Breathless" 1960) للمخرج جان لوك جودار، الذي يبدو أنه رأى كارينا في إعلان تجاري لصابون بالموليف، ووجدها مناسبة للقيام بمشاهد تعر يتضمنها الفيلم، لكن كارينا رفضت الدور.
بعد  شهور تلقت منه برقية يسألها عما إذا كانت تريد أن تلعب دورها في فيلمه القادم "الجندي الصغير" (1960) الذي يروي قصة عميل من الحزب اليميني يجد نفسه متورطاً في صراعات الجزائر، والذي قال عنه جودار (مجلة كاييه دو سينما، العدد 109، يوليو 1960): "إنها قصة عميل سري فرنسي يرفض أن ينفّذ مهمة، لكنه في آخر الأمر يفعل ذلك بعد أن يمر ببعض المحن، من بينها اعتقاله وتعذيبه على يد شبكة منافسة (..) إنها قصة رجل يشعر أن صورته المنعكسة في المرآة لا تتطابق مع صورته الحقيقية، رجل يعتقد أن النساء لا ينبغي أن تتجاوز أعمارهن الخامسة والعشرين، رجل يحب موسيقى هايدن، رجل يرغب أن يكون قادراً على شق طريقه بالسكين، رجل فخور جداً بكونه فرنسياً لأنه يحب جواشيم دو بياي ولوي أراغون، رجل لم يكبر بعد ولا يزال صبياً صغيراً.. لذلك اخترت للفيلم عنوان (الجندي الصغير)". وافقت كارينا على لعب دور البطلة الى جانب الممثل ميشيل سوبور. لكن عرض الفيلم تأخر حتى العام 1963 بسبب حظره في فرنسا لما فيه من تصوير جرافيكي للحرب الجزائرية. وبسبب هذا التأخير، قدمت أول ظهور لها في فيلم جودار "المرأة هي المرأة" (1961)، وحصلت عنه في العام نفسه على جائزة أفضل ممثلة في مهرجان برلين السينمائي، وهو أيضا العام الذي تزوجت فيه كارينا، ابنة العشرين عاما، من جودار، بعد أن كانت ملهمته وبطلة فيلميه حتى ذلك التاريخ.
ورغم طلاقهما بعد أربع سنوات، تابعت مسيرتها الفنية واستمرت قصة حبهما وزواجهما تحوزان من الشهرة والاهتمام تقريباً ما نالته أفلامهما المشتركة. وقالت لمجلة "دبليو" في عام 2016: "أفكر فيه حبا، لا كراهية. لقد كانت قصة حب رائعة. كنا معا لمدة سبع سنوات ونصف السنة. إنه شيء لا ينسى، والناس يتحدثون عن ذلك طوال الوقت. إن أعظم شيء في العالم أن تحصل على هدية كهذه ".


عالم سعيد رغم كل شيء
مع كل الشهرة لم تكن حياة كارينا مريحة بالقدر الكافي، ولا سيما زواجها الفاشل من جودار، وعلاقتهما المضطربة والتي وصفتها ذات مرة في مقابلة مع مجلة فوغ عام 2016 بأنها "كانت قصة حب رائعة حقاً، لكنها منهكة بالنسبة لشابة صغيرة، فقد كان يغيب دائماً. قد يقول إنه ذاهب لشراء السجائر، فلا يعود إلا بعد ثلاثة أسابيع". أما عن محاولتها الانتحار وإقامتها لفترة قصيرة في مصحة عقلية فتقول كارينا لصحيفة الغارديان عام 2016 "كان هناك الكثير من محطات الصعود والنزول في حياتي، وكانت محطات النزول هابطة جدا ومنخفضة جدا".
زواجها من بيير فابر ودانييل دوفال انتهى بالطلاق أيضا، وفي عام 1982 تزوجت من دينيس بيري، الممثل والمخرج الأميركي، ورغم انفصالهما عام 1994 استأنفا العلاقة في السنوات الأخيرة. ومع أنها عملت بعد انفصالها عن جودار، الذي لعبت بطولة سبعة من أفلامه، مع عدد من المخرجين أتيت على ذكرهم، إلا أن ارتباطها به ظل حيا طوال حياتها، فقالت لصحيفة التايمز في عام 2016: "لم نعتقد أبداً أن الأفلام ستكون مشهورة جداً لفترة طويلة"، وأضافت "لقد كنا سعداء للقيام بالأشياء. كان أكثر بوهيمية (*). كنا نعلم أننا كنا نفعل شيئاً ما أعجبنا، ولم يكن مثل أي شخص آخر. كان عالما سعيدا".

* شاعرة وناقدة فنية سورية

(*) البوهيميون أساساً هم المهاجرون الغجر الذين قدموا من رومانيا مارين بمنطقة بوهيميا، وانتشر المصطلح في فرنسا منذ القرن التاسع عشر الميلادي ليشير إلى أي كاتب أو فنان يميل إلى اتخاذ سلوك أو العيش بنمط حياتي غير مألوف، قصداً أو عن غير قصد.