Print
حسام أبو حامد

الربيع العربي بين موجتين: دروس الماضي ومستقبل التحوّل الديمقراطي(3)

28 نوفمبر 2019
هنا/الآن
نتابع ملفاً بدأناه في "ضفة ثالثة" نتناول فيه المقارنة بين موجتي الربيع العربي (أو نسختي الربيع العربي)، ومدى استفادة كل من الشارع والنظام من دروس الموجة الأولى، وانعكاسات ذلك على فرص الموجة الثانية.

ألسنا مجددا أمام السؤال: ماذا بعد سقوط الأنظمة والنخب التي سيطرت على السلطة حتى الآن؟ هل بلورت تلك الموجات التي لا تزال بدون رأس سياسي ملامح العقد الاجتماعي الذي ستقوم عليه دولة المواطنة؟
توجهنا بهذه التساؤلات إلى عدد من المثقفين العرب؛ باحثين وكتاباً، شاركوا معنا مشكورين في طرح آرائهم تعميقاً لفهم الموضوع، وتعزيزاً للنقاش المستمر حوله. فيما يلي الجزء الثالث منه:



حسام ميرو (شاعر وباحث سوري، مدير تحرير دورية ملفات أسبار):
الحراك الاجتماعي مدخل إلى الحداثة
كان اشتعالُ ثوراتٍ تُطالب بالديمقراطية في العالم العربي أشبه بالمستحيل، ليس فقط بالنسبة لرجل الشارع، بل أيضاً بالنسبة لمفكرين عرب، كان مبضع نقدهم يعمل نظرياً في أكثر من اتجاه، لمقاربة قضايا التنوير والحداثة وما بعدها، حتى بدت بعض تلك السجالات أقرب إلى المبارزة الفكرية الشخصية، كما في السجالات التي دارت بين المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، وعددٍ لا يستهان به من المشتغلين بقضايا الفكر العربي، حول مشروع الجابري "نقد العقل العربي".
حَمل عقدُ التسعينيات من القرن الماضي، وتحديداً في سنواته الخمس الأولى، صدماتٍ وآمالاً عديدة، فمع سقوط الاتحاد السوفييتي السابق، بَدا أنّ الفكر نفسه بحاجة لإعادة نظر، مع طرح اشتراكيين مشرقيين قضايا الإصلاح في الفكر الاشتراكي، على غرار البيريسترويكا، من أجل تحديد موقع نظري وعملي جديد للأحزاب الثورية الاشتراكية.
أيضاً، انهار النظام الدولي، وذهبت منظمة التحرير الفلسطينية، وسورية، إلى التفاوض مع إسرائيل، في أوسلو ومدريد، في محاولة لاستدراك نتائج انهيار الكتلة الشرقية، بعد أن فقدا شرعية الدولة السوفييتية المنهارة، والتي كانت قد دخلت مرحلة من الاضطراب والفوضى.
في تلك الفترة، ربما، كان الصحافي والكاتب رياض نجيب الريس الوحيد تقريباً الذي تجرأ على عنونة مقال له بـ"قطار الحرية يعبر إلى الشرق"، في واحدة من أعداد مجلة "الناقد"، وعلى الرغم من أنه كان يتحدث عن وصول الحرية إلى أوروبا الشرقية، لكنه كان من الواضح أنه كان يقول إنّ القطار سيصل، ولو متأخراً، إلى عالمنا العربي.
بالمجمل، إنّ معظم البلاد التي طالتها النسخة الأولى من الربيع العربي هي الأنظمة التي حكمتها النخب العسكرية، تحت غطاء أيديولوجي قومي، وكان قد مضى على حكمها عقود عديدة، من دون أي تحديث للدولة والمجتمع، بل كانت قد عَمِلت على تفريغ الدولة من أي مضمون حداثي، كما عَمِلت على جعل الفئات الاجتماعية في وضع تَساكن، مع بتر أي إمكانية للتفاعل الحيوي فيما بينها.


إن تاريخ الأنظمة السياسية والدول يقول إنه، في الأعمّ الغالب، تسقط الأنظمة والدول من داخلها، وهو ما كان قد جرى في الاتحاد السوفييتي السابق، فلم تَحمِه قوته النووية من الانهيار تحت ضربات الفشل الاقتصادي، وسوء الإدارة، والفساد، وإقصاء المجتمع لمصلحة الحزب، كما أنّ الخطاب الأيديولوجي لم يتمكن من الوقوف في وجه الحاجة إلى التغيير.
إذاً، ليس العالم العربي خارج نطاق قوانين التغيير، لكن أيضاً ليس فاقداً للخصوصية، فقد كانت النسخة الأولى من موجة الربيع العربي قاسية ومُكلفة، فالأنظمة السياسية الحاكمة أخذت شرعيتها من تبعيتها غير المباشرة للكولونيالي بصيغ متعددة، كما أنها تحوز فائض قوّة عسكرياً وأمنياً، راكمته خلال عقود، وقد تبدّت أبشع صور استخدام هذا الفائض في سورية.
النسختان الأولى والثانية من الربيع العربي هما محصلة منطقية لنهاية النظام السياسي الشمولي الذي حكم المنطقة، في ظل أوضاع الحرب الباردة، واستمرّ من دون أن يتكيف مع معطيات العولمة، وثورتي التقانة والاتصالات، بل هرب إلى الأمام في تبني اقتصاد نيوليبرالي في مجتمعات ذات اقتصاد ريعي، منخفض الإنتاجية.
ما يميز النسخة الثانية أنّ الاحتقان الشعبي يطال بشكل مباشر دولا أصابها الفشل (بالمعايير الدولية للدول الفاشلة)، بالإضافة لخضوعها المباشر أو غير المباشر للنفوذ الإيراني، كما في لبنان والعراق، مع ملاحظة أن النظام السياسي الإيراني هو نفسه يشهد احتجاجات داخلية ضده منذ سنوات، وهو قد أصبح مُفارقاً للحظة ولادته، وعاجزاً عن التكيّف مع العالم، ومع متطلبات شعبه.
ما هو مهم التأكيد عليه هو أنّ العالم العربي ينهي مرحلة تاريخية تمتد إلى ما قبل ولادته من رحم السلطنة العثمانية، وهي إنهاء الدولة السلطانية نفسها، التي كانت قد لبست ما سمُي "الدولة الوطنية"، ويدخل في عصر جديد، باحثاً عن المغزى الحقيقي لمفاهيم مثل الدولة والسياسة والديمقراطية والكرامة والمواطنة والحقوق الفردية والجماعية وشكل نظام الحكم، وفي خضم كل ذلك هو باحث عن معنى وجوده الإنساني خارج دائرة الاستلاب والشمولية، معبّراً عن توق إلى الحرية، بل وعن تصميم على تحقيقها.
من غير المؤكد أن نجاحات كبيرة يمكن حصادها بسرعة في حركة التاريخ، كما أنها تبقى مرهونة بعوامل كثيرة، منها خصوصية التجربة، لكن ما هو مؤكد أن العالم العربي ينتمي اليوم، وللمرة الأولى، إلى عصر الحداثة، ليس عبر حركة النخب، بل عبر الحراك الاجتماعي الكبير.


حيّان جابر (كاتب فلسطيني):

عن الخلل المستمر

تعيش المنطقة اليوم تجليات موجة ثورية جديدة ذات ملامح أكثر وعيا ونضجا سياسيا وثقافيا مقارنة بالوضع السائد في أثناء الموجة الثورية الأولى، غير أن الاتكاء على هذه الملامح، والاحتفال بها منذ الآن، خطيئة سياسية وثقافية، لأننا ما زلنا نشهد تطورات الموجة الثورية الثانية، التي قد تمضي نحو مزيد من الوعي السياسي إن تمكنت من بناء تنظيمها السياسي المعبر عنها، والقادر على إدارة نضالها بالشكل الأمثل حتى تأسيس الدولة التي تنشدها. أو قد تشهد نكوصا وتقهقرا ثقافيا وسياسيا ومعرفيا، يتمخض عنه الفشل في هدم صرح المستبدين والفاسدين، والانجرار خلف صراعات فئوية مضللة وخطيرة.
طبعا لا نقصد بذلك إثارة المخاوف، أو وضع العصي في دواليب الحركات الثورية، بقدر ما نحاول التنبيه إلى خطأ الاعتماد على بعض المقولات الرومانسية الثورية، التي تعتبر الحركة الثورية عملية ميكانيكية ذات مسار صاعد حتمي ووحيد، سوف يصل إلى نهايتها الحتمية، مهما تكالبت عليه القوى الرجعية وقوى الثورة المضادة، ومهما استفحل إجرام المجتمع الدولي والإقليمي في مواجهتها من جهة، ومن جهة أخرى مهما تشظت الحركة الاحتجاجية إلى مجموعات مناطقية متباعدة ومتباينة من حيث الأهداف والغايات، ومهما تشبثت بعفويتها وتسامحها تجاه جميع الأصوات الناقمة على النظام دون التدقيق بغاياتهم وأهدافهم وتوجهاتهم، التي قد لا تختلف بجوهرها عن النظام القائم. إذا تتجاهل هذه النظرة الرومانسية خطر انحراف الحركة الثورية عن مسارها وأهدافها، فهذا يفسح المجال أمام قوى الثورة المضادة كي تمتطيها وتوجهها بما يخدم مصالح الممولين والداعمين.


طبعا لا يخفى على أي منا حجم التطور والنضوج السياسي الذي تُعبّر عنها ثورات الموجة الثانية، كما تعرف إعلاميا، وخصوصا فيما يتعلق بالوعي الوطني الجمعي، ورفض التدخلات الخارجية، وتحييد مجمل القوى السياسية التقليدية والرجعية سواء أكانت جزءا من منظومة الحكم، أو من منظومة المعارضة التقليدية المدعومة خارجيا، والذي كتب وسيكتب عنه الكثيرون وهم محقون. لكن ينبغي علينا أيضا أن نسلط الضوء على أبرز جوانب الخلل المستمرة منذ بداية المرحلة الثورية وحتى اليوم، لتخوفنا من تأثيرها السلبي على الحركة وعلى مستقبل المنطقة، كغياب الرؤية أو البرنامج الوطني المعبر عن تطلعات الشعوب، وبالتالي غياب القيادة التي تمثله؛ حيث يتصاعد خطر هذا الخلل في ظل تصاعد بعض الأصوات المندفعة التي تتغنى بعفوية الحركة الاحتجاجية وفوضويتها، على اعتبارها عنصرا من عناصر قوتها الحالية والمستقبلية، وعلى أثر الأصوات المستعجلة التي تدفع، بقصد أو دون قصد، نحو فرض أي قيادة سياسية وتنظيمية دون مراعاة حاجة الشعوب والثائرين إلى تعزيز أجواء النقاش والحوار السياسي الحدثي واليومي، الثقافي والتنظيمي، قبل أن يتمكنوا من خلق هياكلهم ومجالسهم الثورية الحركية والسياسية.
عفوية الحركة الاحتجاجية، وغياب الرؤية السياسية الشاملة والواضحة، يعدان أبرز سمات الانتفاضات والثورات العربية حتى الآن، من دون أن نغفل بعض الاستثناءات القليلة جداً على مستوى إدارة الحراك وتوجيهه، وخصوصا في التجربة السودانية، وبدرجات أقل بكثير في كل من تونس والجزائر، حيث تميزت الثورة السودانية بإدارة مركزية موحدة للحركة الاحتجاجية، مما أكسبها زخما شعبيا وقوة ميدانية تمكنت من فرض ذاتها بصورة واضحة على كل من الدولة العميقة، والمجتمع الدولي، والإقليمي. إلا أن غياب الرؤية الواضحة والشاملة سياسيا واقتصاديا ودستوريا للثورة عموما، ولدى قيادة الثورة ممثلة بقوى الحرية والتغيير؛ أو غياب التوافق على رؤية موحدة بالحد الأدنى، ساهم في تخفيض سقف المطالب وفرض التعلق بحلول غير ناجزة وغير مكتملة، متخفية خلف بعض الشعارات الفضفاضة كحكومة مدنية ودستور ديمقراطي، غير قادرة، رغم أهميتها، على تقديم تصور واضح لحل المشاكل والأزمات التي يعيشها السودان، والتي ثارت الجماهير من أجلها. وهو ما يفرض علنيا الإشارة إلى أهمية تعزيز الحوارات والنقاشات الشعبية السياسية والثقافية حتى تنضج وتتمخض عن برنامج وقيادة ثورية تحظى بثقة ودعم الشارع.


سعاد قطناني (إعلامية فلسطينية):
ربيع لم ينته...
لم تكن الأصوات وهتافات الربيع العربي التي خرجت في نهايات 2010 وقرر الاستبداد العربي على امتداد بلاد القهر كتمها، سوى البداية، وكانت التعبير المشترك عما عاناه ويعانيه المواطن العربي من قهر واستبداد على امتداد الجغرافيا... وظل شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" هو الهتاف الأثير لشعوب كسرت حاجز الصمت، وكان هذا الشعار وما زال الأكثر جوهرية في التعبير عن إرادة الشعوب.
خلال ما يقرب من تسع سنوات ونحن نرقب إخفاقات أغلب الانتفاضات الشعبية بتحقيق مطالبها واحدة تلو الأخرى، ونتحسس حلمنا وهو يصير خريفاً أمام أعيننا، ونعاين المآلات المرعبة لأجمل ما حدث في هذا البلاد التي عانت من دوام الاستبداد وكأنه أبدية لا تنتهي.
تحسست الدول الواقعة في المجال الجيوسياسي لبلدان الثورات آفاق ومستقبل نجاح هذه الثورات وتأثيره عليها، فنسجت التحالفات الإقليمية والعالمية محاولة حرف أهدافها ومآلاتها ونجحت إلى حد بعيد.


لم يكن في الحسبان ما حدث في مصر بعد أن ابتكر المصريون شعار "يسقط يسقط حكم العسكر"، ديمقراطية ناشئة تتهشم تحت صلابة الدولة العميقة، وتحالفاتها الخليجية، وهشاشة وضيق أفق الحكام الجدد، ليصعد ديكتاتور جديد والجميع يصفق.
لم تسلم الثورة في اليمن ولا ليبيا من المجال الجيوسياسي وتعقيداته في رسم التحالفات وتأثيرها على مآلات الثورة، فلم يكن في الحسبان أن يذهب اليمن الجميل إلى قتل وقتال واقتتال فمجاعة وموت.
لم يخطر ببالنا ونحن نسمع اللكنات الليبية وهي تصيح ضد معمر القذافي أن تصل مآلاتها إلى احتراب وحرب، ويوميات كر وفر، في بلاد تعفرت بالخوف والموت والتراب.
وضمن هذا المشهد، تبيّن للمواطن العربي نفاق "ديمقراطية" الغرب حيث تحالف هذا الغرب المتحضر وساند وتواطأ لاستمرار الاستبداد في بلادنا، ولم تتغير هذه المعادلة إلا بحسب ما تتضرر مصالحه.
أما تونس فظلت رغم تعسر مساراتها هي الاستثناء العربي الوحيد في طريقها نحو الديمقراطية، وظلت هي وحدها تحكمنا بالأمل، رغم دروب الألم التي نعايشها لحظة بلحظة.
في سورية حيث يبدو التأثير الجيوسياسي مكثفاً بوجود الاحتلال الإسرائيلي، وامتداداته الإقليمية والدولية، ما إن خرجت أولى هتافاتها حتى بدأ الرسم لمآل أفظع، لأن أي تحول ديمقراطي حقيقي في هذا البلد سيغير كل معادلات الصراع في المنطقة، ويشعل كل ما كان مسكوتا عنه تحت شعارات المقاومة الكاذبة، فطغى صوت البارود على ورود غياث مطر، وغطت الرايات السود والصفر والخضر على مستقبل الثورة، وحرفت مآلاتها، وصار السوري يحمل ثورته كجرح في القلب، ويمشي كي لا يموت الحلم ولا تموت الثورة.
في بدايات الحراك وثورات الربيع العربي كانت الشعوب تمضي إلى هدفها ولا تتحسس المجهول... هي تعي مطالبها ولا تدرك مدى العنف الذي سيسلكه المستبدون، أما اليوم فهي تعرف أنه رغم الأثمان الباهظة التي دفعها الشعب في سبيل القضاء على الفقر والحرمان والاستبداد، فهذا الحراك ليس سوى حلقة أولى في سلسلة الثورات التي ستصل الهدف.
وبالرغم من أن الطغاة لم يرتدعوا، ومارسوا سياسة الإنكار والقمع، استمرت الشعوب بالاحتجاجات، وقامت بموجة أخرى من الثورات، وظلت أمواج الحرية تعلو وتمتد. أعاد السودان إلى الأذهان هتافات بلدان "الربيع العربي" الأولى التي لم تغب يوماً عن الذاكرة: "الشعب يريد إسقاط النظام"، ثم ما لبثت هذه الشعارات الأثيرة أن شكلت جزءاً من حكاية السودان فسمعنا صوت كنداكا سودانية، وسمعنا هتافها في كل مكان "الطلقة ما بتقتل يقتل سكات الزول"، وامتدت الشعارات والهتافات وتبلورت حتى وصلت إلى "رص العساكر رص.. الليلة تسقط بس"، وسقط البشير!
وأعاد الجزائريون ألق لحظة الحلم. احتجاجات جماهيرية تعود للشارع رفضاً للعهدة الخامسة التي بدأت بشعار مستوحى من هتاف "الشعب يريد إسقاط النظام": "الشعب لا يريد... بوتفليقة والسعيد"، ومع قرارات السلطة القائمة التي لم ترتق لمطالب الشعب ارتفع شعار "يتنحاو قاع" لإسقاط جميع رموز النظام والانتقال إلى مسارات ديمقراطية، وصولاً إلى هتافات تدعو لفتح ملفات الفساد بشعار "أيها القاضي.. ما رانيش راضي"، تعبيراً عن رفض الحلول الهلامية.
وفي لبنان الذي انتفض على فقره وتغول الطغمة السياسية الطائفية الحاكمة، بدأ الحراك باحتجاجات مطلبية، وما لبث أن وصل إلى المطالبة بإسقاط الحكومة كاملة دون استثناءات، فكان شعار "كلن يعني كلن"، اختصاراً لكل الشعارات السياسية وانتفاضة على واقع طائفي استمر لعقود.
وابتكر العراقيون شعار "شلع قلع" في ساحة التحرير، ليعيد تشكيل عراق يشبه العراقيين بلا محاصصات وبدون طائفية.
ومع عودة الشباب للشوارع في موجة الربيع الثانية، عادت الروح للساحات، وعادت النداءات، وعادت الشعوب تعيد لهذه البلاد نسغ الحياة رغم الموت المتربص عند كل زاوية يختبئ وراءها حاكم.



إياد الدليمي (كاتب وصحافي عراقي):
الثورة بناء متراكم.. العراق بين ثورتين (1)
عندما هبت نسائم الربيع العربي عام 2011 على تونس ابتداءً، ومن ثم مصر وبقية البلدان العربية، لم يكن العراق بعيداً عن التأثر بها على الرغم من الطبيعة المغايرة للعراق بعد 2003 عن بقية بلدان الربيع العربي.
العراق، كانت الحكومة منتخبة والبرلمان منتخبا، وتجري انتخابات تشريعية كل أربع سنوات منذ الاحتلال الأميركي، ورغم ذلك كان هناك شعور لدى شريحة من العراقيين أن كل تلك الآليات إنما هي تكريس لديكتاتورية من نوع جديد، يمكن أن نطلق عليها اسم ديكتاتورية الصناديق، فهي تعمل بكل آليات الأنظمة الديمقراطية إلا أنها بالمحصلة لا تفرز إلا سلطة من نوع واحد، وشكل واحد، وربما حتى من حزب واحد، وفق أسس محاصصة طائفية أسست لها سلطة الاحتلال الأميركي.
هذا الشعور المبكر بكذبة الديمقراطية التي جلبتها دبابات المحتل الأميركي، كان محصوراً إلى حد ما في الطبقة المتعلمة التي تتصدر تيارا مدنيا، يرى أنه هُمّش في ظل ديمقراطية العراق الجديد، وهو تيار مدني وجد في ثورات الربيع العربي عام 2011 فرصته من أجل النزول إلى الشارع، فكانت التظاهرات العراقية في شباط/فبراير من ذلك العام امتدادا للربيع العربي، شملت العديد من المدن العراقية، قبل أن تجابهها القوات الحكومية بالقمع والاعتقال وتسليط البلطجية عليهم. ورغم كل هذا الترويع؛ استمرت التظاهرات قرابة الشهرين.
ثم كانت تظاهرات المدن ذات الغالبية السنية عام 2013، والتي استمرت لعام كامل، قبل أن تقمعها الحكومة بقسوة، وما أعقب ذلك من دخول تنظيم الدولة الإسلامية للعديد من تلك المدن، وإعلانه خلافته عليها.
وما لبثت التظاهرات والموجات الاحتجاجية أن عادت بعد توقف استمر لأكثر من عامين، هو عمر وجود تنظيم الدولة في مدن شمال وغرب العراق، ولكنها هذه المرة كانت تظاهرات مطلبية غالباً ما تخرج في فترة الصيف بسبب تردي الكهرباء والخدمات الأخرى، وصولاً إلى تظاهرات 2019 والتي تمثل الموجة الثانية من الربيع العراقي.
ولعلنا هنا يجب أن نشير إلى أن التظاهرات التي يمكن أن نطلق عليها تظاهرات ثورية بمطالب سياسية واضحة في العراق، تمثّلت في الثورة العراقية الكبرى، كما أطلق عليها منسقوها عام 2011، وأيضا انتفاضة تشرين 2019. وما بينهما، كانت تظاهرات في غالبها تظاهرات مطلبية اجتماعية أكثر منها تظاهرات ذات بعد ووعي سياسيين.
في الثورة العراقية الأولى، كان تأثير ثورات الربيع العربي واضحاً، ويمكن القول إنها كانت امتدادا لهذا الربيع، ورغم امتدادها في العديد من المدن العراقية، إلا أنها لم تنجح في تحقيق مطالبها التي تمثلت في تغيير النظام السياسي، وإلغاء المعاهدة التي وقعت مع الولايات المتحدة الأميركية، وإغلاق القواعد العسكرية الأميركية في العراق، ولكنها كانت شرارة لها ما بعدها، خاصة في ظل القمع الكبير الذي جوبهت به من سلطة يفترض أنها سلطة منتخبة.

في العام 2019، ورغم أن موجات ثورية عربية اندلعت في السودان والجزائر وحققت جزءاً من مطالبها، فإن العراق لم يتأثر بهذه الثورات، وإنما هذه المرة رسم لنفسه مساراً خاصاً، بعد أن أدركت القوى المجتمعية أن الوضع العراقي بحاجة إلى ثورته الخاصة.
جاءت ثورة تشرين 2019 شعبية مطلبية، بلا قيادة حزبية أو سياسية أو دينية كما جرت التظاهرات السابقة في العراق، وركزت على إجراء تغييرات شاملة في النظام السياسي العراقي.
في 2011 كان ما يزال بوسع العراقي أن يتأمل تغييرا من قبل الطبقة السياسية والحزبية الحاكمة والدينية الداعمة للنظام السياسي، بينما الحال في 2019 اختلفت بالكامل، فقد خرج العراقيون بتظاهرات أطلقوا عليها اسم الثورة منذ يومها الأول، فلم يعد باستطاعتهم الصبر على نخبة سياسية حاكمة طالما كذبت عليهم وقدمت الوعود تلو الوعود من دون تنفيذ.
ويمكن أن نجمل في هذه القراءة التحليلية السريعة، مجموعة من العوامل التي كان لها تأثير بالغ في اندلاع ثورة 2019 العراقي، منها:
تراكم الخبرات لدى الشارع العراقي في التعامل مع الطبقة الحاكمة، وفسحة الحرية وحرية التعبير التي توفرت للعراق خاصة عقب 2016، والفضاء الإلكتروني الذي أتاح للعراقيين التواصل بشكل أكبر وموسع مع العالم الخارجي، ونمو تيار مدني فرض نفسه على الشارع العراقي وبات رقماً صعباً دفع بمقتدى الصدر وتياره الشعبوي إلى التحالف مع هذا التيار الذي يمثله الحزب الشيوعي العراقي في انتخابات 2018، والفساد المالي الذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة، وانتشار البطالة التي بلغت نحو 42% بحسب لجنة الاقتصاد والاستثمار في البرلمان العراقي، وفشل الأحزاب السياسية وخاصة إسلامية التوجه في الاستجابة لطبيعة وتحديات مرحلة جديدة في عراق ما بعد "داعش".
كل هذه الأسباب وغيرها الكثير شكلت مرتكزات لثورة عراقية الهوية تجاوزت الطائفية والعرقية والإثنية، ورفعت شعار "نريد" في محاولة لاستعادة هوية وطنية جامعة، كادت أن تتلاشى في ظل سيطرة أحزاب الإسلام السياسي وتبعيتها المطلقة للخارج.
وبغض النظر عما يمكن أن تحققه ثورة تشرين العراقية، إلا أنه يمكن القول إنها نجحت في إيجاد أرضية مشتركة بين العراقيين، أرضية تصدعت كثيراً بعد 2003، وكادت أن تؤدي إلى تقسيم البلاد، كما أنها أعادت الكرة إلى الشارع بعد أن صودرت إرادته طيلة 16 عاماً، هذا ناهيك عما أرسلته هذه الثورة من إشارات إلى الخارج، وتحديداً الإقليمي، بأن عملية السيطرة على العراق لن تكون سهلة، وهو ما دعا إيران، اللاعب الإقليمي الأبرز في الساحة العراقية، إلى تحسس رأسها خاصة وأن هناك شعوراً بالخوف من ارتدادات ما يجري في العراق على الداخل الإيراني.

(1) كتبت هذه الشهادة قبل انطلاق "انتفاضة البنزين" في إيران (المحرر)