Print
عارف حمزة

لماذا يكره الكتاب السوريون بعضهم بعضاً؟ (1-2)

25 فبراير 2018
هنا/الآن

قبل شهر آذار/مارس من عام 2011 كانت هناك حروب شخصيّة وخصومات بين بعض الكتاب السوريين، وهذه الحالة طبيعيّة وتنطبق على باقي الكتاب من الدول الأخرى، وذلك لأسباب عديدة، منها الاشتغال في حقل الكتاب والكتابة وتلقي الدعوات إلى المهرجانات أو الترشح  لنيل الجوائز. ولكن بعد ذلك التاريخ تحوّل الأمر إلى حالة عالية من الكراهية، ووصل إلى حد التخوين والمطالبة بسحب الجنسيّة وتقديم الكاتب إلى المحاكمة، فمن السهل، والحال، أن نسميها: الكراهية الدمويّة!

ربّما الذي أشعل الشعلة الأولى، في موقد تلك الكراهية، كان الشاعر والكاتب المعروف أدونيس، الذي فسّر أمر خروج الاحتجاجات على النظام السوري بأنّه احتجاجات تخرج من الجوامع ضد نظام علمانيّ، وبالتالي فهو يقف ضدها، مما أشعل "ثورة جانبيّة" ضد أدونيس في كل مكان، حتى وصل أمر الاحتجاج إلى الدول التي منحته جوائز في ما بعد، كما حدث في ألمانيا العام الماضي، ثم إلى الاستهزاء به والاحتفال بعدم نيله جائزة "نوبل" للآداب في كل أكتوبر طوال الأعوام السبعة الماضية. وفي حالة نوبل، للحقيقة، كان هناك الكثير من الكتاب، حتى قبل عام 2011، الذين كتبوا وسخروا من عدم نيله الجائزة، لتكون حالة سوريّة غريبة، في الاحتفال بعدم نيل المرشّح السوريّ لجائزة نوبل!

لم ينته الأمر عند هذا الحد، بل قام الشاعر والروائي والصحافي السوري إبراهيم الجبين بتوظيف أدونيس كشخصيّة في روايته "عين الشرق" تؤدي خدمتها الإلزاميّة في أحد فروع المخابرات السوريّة، مع ما يُحمّله ذلك من فظائع وسيئات تخصّ المخابرات السوريّة.

لماذا سحبتم السكاكين عليّ؟

من جهة أخرى تعرّض الشاعر نزيه أبو عفش لحملات كبيرة بعد كلّ "بوست" كان يكتبه على صفحته الشخصيّة في فيسبوك، وربّما تقصّد أبو عفش كتابة "بوستات" في مدح الرئيس الروسي بوتين، أو حتى مدح المنتخب الإيراني لكرة القدم، الذي كان سيلعب مع المنتخب السوري، وكأنّه كان يُريد استفزاز المزيد من المواقف، ثم يذهب إلى عزلته في "مرمريتا"، ويعود قبل أيام بدعوة من جمعية "عين الفنون" في دمشق، ليسمع الجمهور "يومياته الناقصة".

"عندما كتبت "ليتها لا تحدث"، نلتُ نصيبي من الشتائم والتخوين، وعندما كتبت "البيت سوف يُهدم"، ردّوا عليّ بأن هذا ليس بيتًا. قلت ليكن جحرًا ولكن لندافع عنه، وعن الأمهات اللاتي ما زلن يبكين على موتاهنّ. وفي المقابل حين كتب منذر مصري "ليتها لم تكن" صفقوا له، فيما سحبوا السكاكين عليّ"، قال صاحب "كم من البلاد أيّتها الحريّة".

في كلّ يوم نسمع عن هجوم جديد، وعن تشهير جديد، وعن مشاة وفرسان يُشكلون جيوشًا من الكراهية المتقابلة. لا نقاش ولا تبادل لأفكار ولا بحث عن حلول وتوافق. الشتائم والوعيد يسيل من الشاشات الزرقاء في البيوت والبلدان البعيدة.

وهذا ما حصل مع الشاعر والروائي سليم بركات، والشاعر والروائي عادل محمود، والمترجمين صالح علماني وثائر علي ديب، والروائي إبراهيم الجبين، والشاعر مروان علي، والروائية سمر يزبك، والكاتب ياسين الحاج صالح، وآخرين كثيرين. بينما لم يسلم الشاعر والفنان التشكيلي منذر مصري من حملات الشتائم، على العكس من كلام أبو عفش السابق، بعد كتابته عدّة مقالات، من بينها مقالته الشهيرة "ليتها لم تكن". بينما كان افتتاح معرض فنّي للفنان وللمعارض السوري المعروف يوسف عبدلكي في دمشق "انهيارًا" لكلّ ماضيه المُعارض، وصلت درجة السباب على صفحات التواصل الاجتماعي وصفحات الصحف.

لقد تعرّض الكثير من الكتّاب والفنانين السورييّن، الذين وقفوا ضد ديكتاتوريّة النظام السوري وضرب جيشه مواطنيه وتجويعهم والتنكيل بهم، لحملات تخوين كبيرة، بدأت مع الموقعين على البيان الذي سُمّي وقتها "بيان الحليب"، الذي أطلقته الكاتبة ريما فليحان عبر صفحتها الشخصية على فيسبوك في 29 نيسان/إبريل 2011، وطلبت التوقيع عليه، والذي طالب السلطات السوريّة بتسهيل دخول الحليب والأدوية لأطفال مدينة درعا المحاصرة، حيث نشرت المواقع الرسميّة والموالية للنظام السوري أسماء الموقعين على البيان، وسمّت تلك القائمة بـ"قائمة العار"، وتمّ الاعتداء على العديد منهم، واعتقال بعضهم، وطردهم من الوظائف، من دون التضامن معهم من قبل زملائهم في الكتابة أو العمل.

كما كانت هناك تُهم جاهزة يتم وصمها، من قبل مَن يشتغلون في حقل الكتابة، للكتاب المُعارضين، مثل الكاتب الأردوغاني، نسبة إلى رئيس الوزراء التركي، والكاتب المأجور بالأموال الخليجيّة، أو الكاتب الإخواني، نسبة إلى الإخوان المسلمين...   

ففي الوقت الذي صرنا نسمع تلك الألقاب البغيضة مثل "شاعر البراميل" أو "نزيه أبو بوتين" أو "الكاتب الداعشي" أو "شاعر الإخوان المسلمين" أو "الكاتب الشحّاذ في بلاد اللجوء"... الخ، صار هناك مصطلح متداول هو: كتّاب الداخل السوري وكتّاب الخارج. أو من خلال مصطلحات طائفيّة، مثل كاتب سنّي أو كاتب علوي أو كاتب درزي...

فخ الثورة وفخ النظام

خلال هذه السنوات الثقيلة افتتحت قنوات تلفزيونيّة عديدة، وصحف ومجلات وإذاعات، ليس لنشر أفكار أو مقالات أو نقاشات جديدة وكتابات جديّة عن الثورة أو الفاشية أو الديكتاتوريّة، بل لنشر الكراهية، وتوزيع صكوك الوطنيّة وسحبها، وكذلك توزيع صكوك الثورية والوطنية على من يوافقونهم الرأي والخيانة والعمالة على ما يختلفون معهم.. تخندق كثيرون وراء فكرتي مع أو ضد الثورة/ مع أو ضد النظام، وسبح مصطلح "الرمادي/ الصامت" بين الضفتين من دون أن يُفكر أحد الطرفين في انتشاله أو إنقاذه أو عدم قتله. تمّ غضّ النظر عن الكثير من الأسماء والكتابات الرديئة تحت راية "مع أو ضد"، في الوقت الذي نسفت فيه تجارب كبيرة تحت تلك الراية أيضًا. 

الفخ التالي، والذي أشعل نار الكراهية، وأبرز فصامات شخصيّة لكتّاب كثيرين، كان الوقوف مع "سلميّة الثورة" أو مع تسليح الثورة لحماية المدنييّن من بطش الجيش السوري الذي ترك الثكنات وهجم على المدن والقرى والجامعات.

جولة واحدة في صفحات مُعيّنة تصدمنا بكمّية الدماء التي تسيل في الخفاء، وتجعل أحدنا يتساءل: كيف ربّى السوريّون كلّ هذه الأحقاد والكراهية ومتى؟

الملف

نحاول في هذا الملف الوقوف على رأي بعض الكتاب السوريين حول سبب الكراهيّة المتفشية بين الكتّاب السوريين؟ هل يتعلق الأمر بما يجري في سوريا، أم يذهب إلى ما قبل ذلك؟ هل وصلت هذه الكراهية إلى الكتابة نفسها، سواء في الرواية أو القصة أو المسرح أو الشعر؟ هل وهناك كتابات تنحو، أو تستخدم أوصافًا أو مصطلحات طائفيّة أو تخوينيّة؟ هل شعروا بشكل شخصيّ بوجود حملة من الكراهيّة ضدهم، أو تعرّضوا للمقاطعة أو رسائل التهديد من زملاء آخرين في الكتابة؟ ألا يمكن وقف حالة الكراهية والعداء والتخوين بين الكتّاب السورييّن؟ وكيف؟

هذه كانت فكرة هذا الملف، الذي اعتذر عن عدم المشاركة فيه العديد من الكاتبات والكتّاب السوريين، لأسباب اكتفوا بالقول بإنّها شخصيّة، رغم اعترافهم بأهمية الموضوع المطروح. هناك ظروف غير شخصية، كما نعرف، تواجه الكتاب السوريين الذين فضلوا البقاء في بلادهم. هنا حصلية الجزء الأول من هذا الملف:

هنا القسم الأول:

د. سعد الدين كليب (شاعر وأكاديمي مقيم في حلب):

ليس أكثر من الديكة في مزابل البلد

أستطيع التوكيد أن ليس هنالك سياسي أو مثقّف أو أديب أو حتى أيّ مواطن سوري لا على التعيين، إلا ودخل في خانة الاتهامات بأنواعها ومستوياتها كافة. فالحدث السوري ليس مجرّد حادث عارض أو مجرّد سحابة صيف حالما تنقشع. إنه زلزال بأعلى الدرجات الممكنة أصاب مجتمعًا هشًّا في تركيبته الاجتماعية والوطنية، مجتمعًا كنّا نظنّه قويًا ومتماسكًا، كلوحات الفسيفساء الحجرية التي كثيرًا ما راقنا تشبيهه بها، وإذ به مجرّد قطع زجاجية ملوّنة ومعشّقة لا تحتاج زلزالًا ولا حتى جبهة هوائية باردة كي تنفرط وتتكسّر قطعًا متنافرة.

فإذا كانت هذه حال المجتمع السوري برمّته، في هذه الحرب القذرة التي لم تنجُ منها مدينة أو قرية أو حارة أو عائلة سورية، فلا غرابة أن تكون حال الثقافة والمثقفين على هذه الشاكلة من التنابذ والتباغض والاتهامات القاتلة. فقد كشفت الحرب فعليًا عن غياب شبه تام لما يسمّى بالهوية الوطنية ثقافيًا وسياسيًا على السواء، فارتدّ الكثيرون من المثقفين والأدباء إلى هوياتهم ما تحت الوطنية كالإثنية والدينية والطائفية والعشائرية والمناطقية، وراحوا يتراشقون بها تكفيرًا وتخوينًا وتهديدًا بالقصاص العاجل أو المؤجَّل. كما تكشّفت لدى الكثيرين منهم أيضًا مخالب ذئبية شخصية تحت أقنعة الموالاة أو المعارضة، و"الوطنية" أو "الثورية"، حتى بات المشهد الثقافي السوري، في الداخل والخارج، أشبه بصراع الديكة، ولا أكثر من الديكة في مزابل البلد!

كان من المفترض أن يكون للثقافة العالمة، على أقلّ تقدير، أثر طيّب في تخفيف ارتدادات الزلزال المدمّر، كأن تمنع الانهيارات الأخلاقية أو تخفّف من حدّة الاتهامات الطائفية، أو تسرّع في رأب الصدع الاجتماعي، غير أنّ شيئًا من هذا لم يحصل للأسف. بل لعلّ العكس هو الذي كان، فكانت الثقافة العالمة لدى بعضهم، وما أكثرهم، أداة تسويغية للتشنّج الاجتماعي والتمترس السياسي والاحتراب الطائفي والقومي، حتى بدت الثقافة الشعبية، بعجرها وبجرها، أكثر تحضّرًا وإنسانية من الثقافة العالمة لدى بعض المثقفين الذين انغمسوا حتى آذانهم في ثقافة الحرب. فرأينا ما رأيناه من تصنيفات واصطفافات واتهامات عبر مجمل التطورات الدراماتيكية في المسألة السورية، بدءًا بالحراك السلمي وانتهاء بالحرب الإقليمية والدولية.

وبالرغم من أنني لا أحبّ الحديث عن تجربتي الشخصية، وهي غنية فعلًا بالاتهامات المضحكة المبكية، لكن لا بأس من القول إنني هوجمت شخصيًا من متطرّفي الموالاة والمعارضة معًا، لأنني كنت ضدّ العنف، وضد السلاح، وضد "الجهاد"، وضدّ الخطاب الطائفي، وضدّ الحرب، ومع الحوار والسلم الأهلي والسلام الوطني، ومع سورية الدولة الديمقراطية؛ هوجمتُ لأنني حموي- نعم لأنني من مدينة حماة !- وهوجمت لأنني بقيت في حلب الغربية تحت سيطرة الدولة، ولأنني لم أترك عملي أستاذًا في الجامعة، وهوجمتُ لأنني لا أرى في خصمي عدوًا، وإنمًا أراه شريكًا في الوطن. هوجمت حتى حين كنت أتنفّس بطريقة لا يتنفس بها هذا أو ذاك من الموالين أو المعارضين أو "الموارضين"! وذلك في الوقت الذي لم يحدث أن هاجمتُ أحدًا بعينه، إذ كنت، وما أزال، معنيًا بالمواقف لا بالأشخاص، وبالمعاني لا بالأسماء.

للأسف لم نستوعب دروس الحرب بالشكل الذي يجعلها دروسًا في السلام، ولم نتعامل مع الحرب إلا بوصفنا أبناءها الموتورين والمشوّهين، لا بوصفنا مثقّفي السلام والحرية والديمقراطية، وأخشى أنّ أمامنا زمنًا طويلًا حتى نفطن إلى ذلك. وإلى أن يفطن الجميع إلى أنّ ثقافة السلام هي الخطوة الأولى في إعادة بناء البلد على أسس جديدة، فإننا جميعًا في خانة الاتهامات القاتلة.

 

خليل صويلح (شاعر وروائي وصحافي مقيم في دمشق):

عنتريات لفظية تنسف مثقفًا بجرّة قلم

أفضّل مصطلح "شجاعة الجهل" في تفسير ما نحن فيه. أن تقتحم الساحة بخردة اللغة لإطاحة الخصم، وإحياء معجم يغطيه الغبار لإنشاء خلائط جاهلية وعصبوية وعقائدية في محاربة عدو مفترض، وذلك باستثمار ميديا متطورة، كأن ترتدي الجينز وتضع على رأسك عمامة! مهاجرون وأنصار على شاشة واحدة في عراك محتدم وانتصارات وهمية، فيما تتلاشى الخريطة تحت وقع فولاذ حقيقي يصهر الأرواح على الهواء مباشرة.

الغارقون في تقليب صفحات المعجم لتفسير ما حدث ويحدث، ذهبوا إلى تمجيد كلمة "ثورة" باعتبارها رافعة لأي نصّ ركيك. نصّ سينجو من أي محاكمة نقدية نزيهة لمجرد أنه مضاد للاستبداد. ولكن ماذا نفعل بكل هذه المدونات التي استنفرت مفردات التخوين والإقصاء والاتهامات عن طريق الكونترول، وعلى بعد آلاف الأميال من المذبحة؟ نحن الذين لم نغادر المكان لأسباب تخصّنا، كان علينا أن نواجه الطعنات داخلًا وخارجًا، ورغم أننا على مرمى أمتار من الدم والقذائف والفزع، إلا أننا في قوائم التصنيفات وجدنا أسماءنا في خانة "الرمادي"، وكأن كل هذا الأحمر مجرد ألعاب فوتوشوب وحسب. 

شخصيًا لم أدخل مقاولات الداخل التي لا تحتاج إلى مهارة في القنص، كما لم تغوني جعالات الخارج. على أن ثبات هذا الكادر لا يعني أنني لم أُصب بسهام الثوريين الطارئين، أولئك الذين خرجوا من صفحات "بريد القراء" في الصحف المحلية إلى واجهات دكاكين الثورة بكامل ركاكتهم وهتافهم المضاد. كان يليق بنا كسوريين مفردة "طوشة" على غرار التسمية التي واكبت أحداث 1868، أو فزعة، أو احتجاج، بما يتلاءم مع المستوى اللفظي المتبادل بين خندقين. ما هو مؤكد بأننا نحتاج ثورة لغوية في المقام الأول، لكن معظم النصوص الراهنة استنفرت معجمًا متهالكًا، وخطابًا طائفيًا مضمرًا، ونفاقًا وزيفًا، بما يتلاءم مع أجندة هذا المنبر أو ذاك، لتمزيق خريطة ممزّقة في الأصل.

ما أستغربه هذه الكراهية الداكنة للبلد نفسه، وهجاء كل ما فيه بالجملة والمفرّق، على أن خلاصة القول "كل إناء ينضح بما فيه". صنابير مفتوحة على الحقد والأمراض المزمنة تروي حقول البغضاء، بدلًا من مديح الغفران، أما منح شهادات حسن السلوك وعدمه فهي من اختصاص مخاتير الأحياء. ككاتب، عليك أن تكتب نصّ الإقامة لا نص العبور المؤقت والطارئ والنيء. أنا شخص خائف، وينبغي أن أكون خائفًا، في هذه المتاهة الجهنمية، لذلك أستغرب من هذا الزحام حول مقعد البطل، ومن تلك العنتريات اللفظية التي تنسف مثقفًا بجرّة قلم، وتمجّد صبيًّا غرًّا بجرة قلم، لمجرد أنه كتب بركاكة عن الاستبداد، من دون أن يخوض معركة واحدة على الأرض. أراقب أولئك الذين طلبوا صداقتي على فيسبوك ثم ألغوها لاحقًا، أكتشف ذلك بالمصادفة، حين أتذكر أحدهم فجأة، فتباغتني عبارة "أضف صديقًا". بكل الأحوال، وبقوة دفع بقايا بداوة قديمة المنشأ، أجد أن فنجان قهوة مرّة كفيل بالغفران، أما النص الركيك فسيبقى ركيكًا، اليوم وغدًا، مهما أضفنا إليه من توابل الثورات.