Print
بوعلام رمضاني

ما جدوى صالون كتاب الجزائر في ظل إضراب القراءة؟

9 نوفمبر 2018
هنا/الآن

إذا كان من الطبيعي الاعتراف بنجاح صالون كتاب الجزائر المستمر حتى العاشر من الشهر الجاري استنادا لإقبال جماهيري متزايد (مليونان تقريبا بحسب تصريح وزير الثقافة عز الدين ميهوبي لقناة الثالثة الرسمية في حديث أدلى به إلى فريدة بلقسام)، فإنه من الطبيعي أيضا طرح أكثر من سؤال سيكولوجي وسوسيولوجي وثقافي بغرض الكشف عن الشرخ الرهيب الذي يفصل بين الإقبال الجماهيري المذكور على صالون الكتاب وبين الإضراب العام والعلني عن القراءة كما تأكد من ذلك كاتب هذه السطور أكثر من مرة كصحافي مطالب بمعاينة مجتمعه وتفكيك تناقضاته وعاهاته وعوراته بعيدا عن خطاب السلطة التي تخلط عمدا أو عن غير عمد بين الثقافة كتقليد اجتماعي متجذر في الحياة اليومية للمجتمع كما تعكسه صالونات كتاب الدول التي أنشأت مواطنيها على القراءة وبين الثقافة كبهرجة استعراضية وسياساوية لا تمثل حياة اجتماعية لصيقة بالقراءة كطقس لا تختلف أهميته عن أهمية الحاجات الاجتماعية والنفسية والفسيولوجية الأخرى.

لا أحد يقرأ

تأكيدا لصحة تحقيق واقع النشر والكتاب في الجزائر، الذي نشرته "ضفة ثالثة" قبل أشهر قليلة على لسان ومثقفين وإعلاميين ومسؤولي دور نشر، لم تترجم تظاهرة صالون كتاب الجزائر في دورتها الثالثة والعشرين ما يثبت أنها مرآة صادقة تعكس شغف شعب يقرأ فعلا، ويذهب إلى صالون الكتاب تحت وطأة حب كبير للكتاب وليس لأشياء أخرى لا تمت بصلة إلى عالم الكلمة.

وإذا كان من الإنصاف الاعتراف بتحمس الكتاب للتظاهرة المذكورة وتجند الكثير منهم للمشاركة بكافة مشاربهم الفكرية، بمن فيهم الأقلية غير المؤمنة بـ"دين" البوتفليقية الحي والزاحف تحت إشعار جديد، والأغلبية الموزعة بين التأرجح الاستراتيجي والمناهضة التنفسية، فإن الواقع اليومي لمعظم الجزائريين تؤكد أن القراءة لا تشكل هما وجوديا في حياتهم وغيابها يطال حتى شريحة المتعلمين والجامعيين والمثقفين المتقاعدين والكثير من الصحافيين غير القادرين على شراء كتب في ظل غلاء معيشة تدفع الجزائريين الكادحين نحو الرشوة في مستويات إدارية دنيا والميسورين القدامى والجدد إلى حياة مخملية شكليا لا مكان فيها للكتاب في ظل تحول الجزائر إلى بازار كبير في الهواء الطلق يغري بالاستهلاك في كل شيء باستثناء الكتاب. وشعب الأصقاع السفلى لا يقرأ جالسا أو واقفا في كل وسائل النقل وفي المقاهي وفي المتنزهات، كما يحدث مع شعوب العالم الذي عرف كيف يغرس القراءة في الحياة اليومية للمواطنين استنادا لواقع معيشي يوازن بين الحاجات المادية وغير المادية. وكاتب هذه السطور (وبسبب فقره النسبي المؤقت الذي حال دون اقتناء أرخص سيارة)، ركب كل أنواع الحافلات الخاصة التي تغطي الناحية الشرقية للعاصمة والترامواي والميترو وسيارات الأجرة عند الضرورة القصوى، الأمر الذي مكنه من تشريح ركاب كل أنواع وسائل النقل المذكورة اجتماعيا وثقافيا في علاقتهم بالقراءة اليتيمة حتى في عز أيام صالون الكتاب!!

أقسم بالله

ركبت وسائل النقل المذكورة منذ وصولي إلى عاصمة وطني يوم الخامس عشر من سبتمبر وجلست ووقفت أمام الرجال والنساء الذين تجاوزوا سن الثلاثين والأربعين وبجانب الشبان والشابات المراهقين والمراهقات وقضيت ساعات وساعات أحلم مستيقظا بمنظر مواطن يقرأ أو مواطنة تقرأ ولا تتحدث أو تستعمل هاتفها الجوال طوال الرحلة، وللأسف الشديد لم أفلح في مسعاي، وأضحيت حالما فاشلا بكل المعايير. وأقسم بالله أنني شعرت بالحرج لعدة أيام وأنا ألاحظ توجه أنظار كل الراكبين نحو شخص يقرأ الصحف والكتب والمجلات ولا يستعمل هاتفه الجوال إلا للرد على متصليه معتذرا عن الاستمرار مطولا في الحديث احتراما للركاب عكس معظمهم الذين يسمعونك فحوى أحاديثهم المحتشمة والوقحة في الوقت نفسه!

سوسيولوجيا لاحظت أن كل الركاب يتساوون في إضرابهم عن القراءة رغم اختلاف مظاهرهم الخارجية التي تصل حد التنافر الصارخ الذي يعكس تصورات ومقاربات متناقضة حيال الحياة بوجه عام والإسلام بوجه خاص، وهو الدين الذي يعلن صراحة أننا ننتمي لأمة أقرأ باسم ربك الذي خلق!. الركاب الذين يعادون القراءة في بلد صالون الكتاب لا يختلفون في حدة مقاطعتهم للكتاب جالسين أو واقفين وفي حافلة مريحة أو أخرى تلفظ أنفاسها الأخيرة ولا في هندامهم الإسلامي المتنوع، وركاب الحافلات الشعبية وغير القانونية في كثير من الأحيان (القابض يأخذ الفلوس ولا يمنح تذكرة للركاب) الذين يضربون عن القراءة في وسائل النقل ويعبرون عن تدينهم بالقميص أو الحجاب العصري أو بالجلباب السلفي هم أنفسهم الذين اكتسحوا الدورة الثالثة والعشرين لصالون كتاب الجزائر كما حدث في الدورات السابقة في غفلة من المتخصصين غير المعنيين بدراسة الظاهرة التي تقفز إلى العيون كما يقول الفرنسيون، وربما ذلك لم يشجعهم على التفرغ لدراسة الظاهرة التي لا تشوه مفهوم صالون الكتاب ما دامت تعد تعبيرا عن تحول ثقافي واجتماعي عام يتجاوز كل سياقات المناسبات الظرفية. 

العصريون والعصريات لا يقرأون أيضًا

تعبيرا عن حرية اجتماعية ظفرت بها الجزائر بعد العشرية الإرهابية السوداء، كما يرى بعض المحللين، وعن توظيف سياسيوي طال المواطنين المتدينين وغير المتدينين، كما يعتقد البعض الآخر من منطلق افعلوا ما أردتم في غياب القانون والقراءة، لا يختلف ركاب وسائل النقل المذكورة في إضرابهم عن القراءة، والكهل المرتدي قميصا والآخر غير الملتحي لا يختلفان عن الشاب الذي يلبس سروالا هابطا ويزين صدره الجميل بسلسلة ذهبية لافتة وعن المرأة العصرية السافرة التي تجلس امام المتحجبة محرجة في كثير من الأحيان بسبب نظرات معظم الركاب غير المرتاحين لصاحبة المساحيق الناطقة بحرية صعبة الهضم رغم كل ما يقال عن الحرية الاجتماعية المكتسبة.

طوال تنقلاتي اليومية التي أتت على صحتي البدنية والنفسية في حافلات (تمشي كالسلحفاة رغم أنها تسمى السريعة) لم يقع نظري على راكب يقرأ أو راكبة تتصفح مجلة مرتدية سروال جينز أو جلبابا، كما لم أشاهد ملتحيا أو عصريا يفوح بعطر باريسي مزيف يقرأ!. 

لماذا لا تقتدي الجزائر المستعمرة الفرنسية القديمة ثقافيا بفرنسا المستعمر القديم كما فعل مسؤولوها سياسيا منذ الاستقلال؟ أنا الذي يعيش في باريس دون عقدة من خطاب الكثير من الوطنيين الفاسدين، لم أنتظر صالون كتاب وزير الثقافة عز الدين ميهوبي الذي كرم مؤخرا في الشارقة كشخصية السنة، ونظمت معرضا لكتبي على قارعة الطريق مرتديا زي الصباغ أثناء ترميم بيتي. صرخت في وجه المارة متوسلا سرقتها أو تصفحها على الأقل. لم يتوقف أحد لسرقة الكتب كما كان يفعل جان جينيه! الشعب الذي لا يقرأ..... يسرق كل الأشياء إلا الكتب. يا له من اكتشاف.