Print
نبيل سليمان

مدينة منبج ..من فاتيكان الشرق إلى لندن الصغرى

9 سبتمبر 2017
هنا/الآن

 

 

في شهر آب/أغسطس 2016، كان الروائي اللبناني الكبير، الصديق إلياس خوري، في ميني ماركت في حي الأشرفية - حيث يسكن - في بيروت. وبعدما (تبضّع) حمل له الحمولة فتى سوري في الخامسة عشرة، قادم من لندن الصغرى، أي من مدينة منبج كما سمّتها التايمز اللندنية، لكثرة من كان فيها من الداعشيين الأوربيين، أي لهول الرطانة بالإنكليزية وبسواها من اللغات في المدينة التي لقبها المستشرقون ذات عصر بفاتيكان الشرق.

على الطريق من الميني ماركت إلى البيت، كان إلياس قد جعل الفتى السوري عمر يحدثه عن مدينته منبج التي كانت قد تحررت للتو من داعش، وعن أبيه المريض الذي كان مدرساً وشاعراً، وقرر الرحيل عن منبج عندما شاهد الإقامة الداعشية لحد الجلد على من ضُبط يدخّن سيجارة، وهي العقوبة التي تطورت إلى قطع أصابع المدخّن. وقد ردّ الفتى على قول إلياس: منبج تحررت، بالسخرية: تحررت؟ ثم بـ: (سورية ضاعت). ولأن الفتى منبجي، أي من المدينة التي يكتب كل شبابها الشعر، فهو أيضاً شاعر يفاخر بأجداده: البحتري وأبو فراس الحمداني وعمر أبو ريشة.

ليلة كَسَحَر منبج:

أسرعت منبج في أقصى الشمال السوري، قرب الحدود التركية، إلى الزلزال الذي تعيشه سورية منذ ربيع (2011)، فشهدت المظاهرة السلمية الأولى في يوم الجمعة العظيمة (2/4/2011). وفي نهاية تلك السنة شاركت منبج فيما عُرف بإضراب الكرامة، تفاعلاً مع مجزرة الحولة الشهيرة. وبينما أخذت العسكرة المعارضة تأتي على السلمية، رداً على العسكرة النظامية، وعلى نهجها، بدا اعتصام المحامين في منبج (2/6/2012) طلباً للإفراج عن المعتقلين، علامة كبرى. وفي اليوم التالي شهدت منبج المظاهرة السلمية الأكبر، ثم... ثم سيطر عليها الجيش الحر في 19/7/2012، وسرعان ما بطل المثل القائل: ليلة كَسَحَر منبج.

منبج بين دوقلة والعماد الكاتب

خطف الأضواء شعراء منبج الأوائل (البحتري وأبو فراس الحمداني والمتنبي) ولذلك سأمضي إلى آخرين في الظلال أو العتمة، ابتداء بما تتحدث به مصنفات تراثية، وباضطراب، عن شاعرين يحملان اسم دوقلة المنبجي. أما الأول فهو الحسين بن محمد، وثمة من يقول إنه سعيد بن حميد، لم تعرف سنة ولادته ولا وفاته، ولكن يبدو أنه من الجيل الذي سبق البحتري. وهو أول شاعر منبجي اشتهر في عصر الخليفة العباسي المأمون. وقد عرف هذا الشاعر بأنه من أصحاب الواحدة، إذ لم تحتفظ المصنفات له إلا بالقصيدة التي مطلعها: "هل بالطلول لسائل ردُّ/ أم هل لها بتكلّم عهدُ"، وهي القصيدة التي أودت بصاحبها. وقد أقسم أربعون شاعراً أن القصيدة لهم، ومنهم أبو الشيص الخزاعي والعكوك بن جبلة. كما ينسب آخرون القصيدة إلى ذي الرمة. أما أول من نسبها لدوقلة المنبجي فهو ثعلب المتوفى سنة 201 هجرية.

أما (أصل الحكاية) فهو أن أميرة في نجد اسمها دعد، عزمت على ألا تتزوج إلا ممن يكتب بها ولها أجمل قصيدة. وما إن سرى الخبر في بلاد العرب، حتى تسابقت إليها ركبان الشعراء أملاً بالفوز العظيم، لكنهم خابوا جميعاً.

إلى منبج وصل خبر الأميرة النجدية، فكتب دوقلة قصيدته، ويمّم شطر نجد ودعد. وفي الطريق صادف أعرابياً. وبعد المؤانسة سأله الأعرابي عن وجهته، فقال: إلى حمى دعد، فقال: أنت إذن كتبت قصيدتك. فلما أجاب دوقلة بالإيجاب رجاه الأعرابي أن يسمعه إياها. ولأنها أعجبته وحفظ أكثرها، ألح على دوقلة أن يعيد قراءتها، ففعل، حتى إذا حفظها الأعرابي، قتل دوقلة، وأسرع إلى بلاط الأميرة مدعياً أنه شاعر كتب فيها قصيدة، وأمرت، فبدأ يصدح حتى قال:

إن تُتْهمي فتهامةٌ وطني

أو تُنْجدي يكن الهوى نجدُ

عندئذٍ أدركت الأميرة كذبه، لكنها انتظرت حتى انتهى، ثم أمرت: اقتلوه، فإنه قاتل زوجي. ولما سألوها: كيف عرفت؟ أنشدت البيت الذي فضح الأعرابي وقالت: هذا الرجل ليس من تهامة، ولا في لكنته شيء من هوى نجد. ومما قال دوقلة المنبجي في يتيمته:

لهفي على دعدٍ وما حفلتْ

إلا بحرّ تلهّفي دعدُ

فالوجه مثل الصبح مبيضٌّ

والفرعُ مثل الليل مسودُّ

وبخصرها هَيَفٌ يزينه

فإذا تنوء يكاد ينقدّ

بعد ثلاثة قرون يطلع دوقلة المنبجي الآخر: يحيى بن نزار أبو الفضل (486-554) هجرية. وقد انتقل من منبج إلى دمشق في عهد نور الدين محمود زنكي، ومن شعره: "ما منبج مذ غبتَ إلا مقلة

 سهدتْ ووجهك نومها والإثمدُ

 فالليل حين قدمتَ فيها أبيض

 والصبح منذ رحلت عنها أسودُ

 ما زلتَ تدنو وهي تعلو عزةً

 حتى توارى في ثراها الفرقدُ".

أما العماد الكاتب فقد مدح نور الدين زنكي بعدما استولى على منبج، ومن ذلك قوله محرضاً على فتح القدس بعد منبج، وكان الصليبيون مسيطرين على القدس:

"بشرى الممالك فتح قلعة منبج

 فلْيهن هذا النصر كل متوّجِ

 وافى يبشّر بالفتوح وراءه

 فانهض إليها بالجيوش وعرّجِ

 أبشرْ فبيت القدس يتلو منبجاً

 ولَمَنبجٌ لسواه كالأنموذج

 ما أعجزتك الشهب في أبراجها

 طلباً فكيف خوارج في أبرجِ".

منبج الداعشية

رجّ النداء الداعشي الصباح المنبجي: إلى دوّار الشرعية أو دوّار الكتاب أو دوّار البطّة أو أيّة ساحة من ساحات المدينة المكللة بالسواد، لا فرق، فما يهمّ أن يحتشد الأطفال والنساء والشيوخ و... والشباب إن كان قد بقي شاب لم تضمه داعش إلى سوادها، أو لم يهرب منها، أو لم يسجن، أو لم يقتل من زمن إلى زمن.

بعد قليل تمتلئ العيون بالصليب الحديدي أو الخشبي الذي نُصِب منذ يوم أو يومين، إعلاناً عن قطع رقبة وشيك. وفي غمضة عين سيكون المحكوم قد صُلب، ورأسه قد سقط بين قدميه. وسوف يبقى المشهد كما هو يومين أو ثلاثة، قبل أن تحمله سيارة الزبالة إلى... وهذا جزاء المعدوم الذي ضُبط على موبايله نشيد ثوري أو صورة لسافرة، بل ضُبط مرتداً، بل جاسوساً للنظام، بل...

من منبج من رحّب بهؤلاء المجاهدين المهاجرين الذين زحفوا إلى نصرتها - أي إلى نصرة سورية، وربما العراق - من تونس أو ليبيا أو لندن... ودوماً عبر الحدود التركية. لكن ما يقصر عما بين رفّتي أجفان كان كافياً لإغلاق مدينة منبج، أي لإغلاق جامعة ابن خلدون، أو المركز الثقافي، أو تحويل فندق منبج إلى مقر داعشي أكبر، كما كان كافياً لتوقيع المعلمين والمعلمات على أوراق استتابة، أو للالتحاق بالدورة الشرعية، أو لقطع الأصابع التي تضبط قابضة على سيجارة، أو لمصادرة أملاك النازحين، أو لهدم الأضرحة إلا... مسمار جحا!

سنة 2010 قارب عدد سكان منبج المائة وخمسين ألفاً. وفي سنة 2011 رفع النازحون إليها من مطارح شتّى للصراع إلى مائتي ألفٍ. لكن العدد في ظل الخلافة الداعشية تراجع إلى عشرين ألفاً بعد أن نزح منها النازحون إليها وأضعافهم من سكانها.

وهذا ثلج منبج بعد طول غياب، وهذه (ولاية منبج)، ومن لآلئها: هذا سجن النساء: مهجع جماعي وزنازين انفرادية وبطانيات وفرش إسفنجية وحبوب مخدرة و... وسبايا.

لا يجمع المجاهد السبية مع زوجته، فلكل منهما يوم. لكن أحدهم اغتصب السبية أمام زوجته. وللسبية ثياب مزوقة وماكياج، وثمن العذراء الفتية قد يصل إلى ثلاثين ألف دولار. من أين الدولارات؟

مسمار جحا في فضاء منبج

عندما سيطر العثمانيون على الأمداء العربية الإسلامية أقاموا لجدهم الأول سليمان بن قتلمش ضريحاً مهيباً. وهذا الجد الذي أسس الدولة العثمانية سنة 1299 مات غرقاً، فدفن قرب قلعة جعبر القريبة من الرقة، والأقرب إلى الطبقة، والتي غمرتها مياه البحيرة إثر إقامة السد على نهر الفرات.

في عام 1921 وقعتْ تركيا وفرنسا المعاهدة العتيدة التي نصت في مادتها التاسعة على بقاء ضريح الجد سليمان مع ملحقاته، كأملاك تركية. وسمحت المعاهدة لتركيا بالتالي بأن ترفع علمها على الضريح، وأن تعين حراساً له، وهكذا بات لتركيا مسمار جحا في سورية.

إثر الشروع ببناء سد الفرات عام 1968، بدا أن المياه ستغمر مسمار جحا، فتم الاتفاق مع الحكومة السورية على نقل الرفات - المسمار إلى قمة تلة في منطقة قره قوزاق شرقي منبج. وحين احتلت داعش منبج وسوارها، لم يعد تبديل حامية الضريح سلساً، على الرغم من أن مقاتلي داعش كانوا يعبرون الحدود بسلاسة، إلى منبج أو سواها. هكذا نقلت تركيا المسمار إلى قرية أشمة السورية الحدودية، ورفعوا عليها العلم التركي، ووضعوها تحت سيطرة الجيش التركي. وقد شارك في عملية نقل المسمار ستمائة عسكري وستون مدرعة وأربعون دبابة وحفنة من الطائرات.

سوار منبج: أبو قلقل ودابق

ما اقتربت مرة من منبج - مسافراً من حلب إلى الحسكة والقامشلي أو عائداً منهما إلى حلب - إلا عرّجت على (أبو قلقل)، شرقي منبج عشرين كيلومتراً. ففي تلك القرية الصغيرة الفقيرة أودعت مثل كثيرين وكثيرات بضعة من روحي مع فواز الساجر الذي عاد إلى قريته محمولاً على أكتافنا وقلوبنا في 16/5/1988.

في حلب كان لقائي الأول مع فواز، هو العائد لتوه من موسكو، وأنا القادم لتوي من الرقة. وسرعان ما أحكمت الصداقة وثاقنا. ولم تزدها الجغرافيا التي باعدت بيننا إلا وثوقاً.

قبل أن أولد بعقدين على الأقل، عرفت (أبو قلقل) من سوار منبج، بفضل ما كتبت في الجزء الثاني من (مدارات الشرق) عن نبعها وجداول مياهها وعن البستان السلطاني وعشائر الهنادي و.. ولكني لم أرها إلا يوم وداع فواز. ومنذئذٍ ما رأيتها مرة إلا كانت ترفرف عليها واحدة من المسرحيات التي انعطف فواز بالمسرح العربي، بإخراجه لها. ولكن ماذا فعلت داعش بضريح فواز الساجر الذي تتردد هتفته اليوم أقوى منها عندما أرسلها: "قبرنا ضيق... سيقتلنا الضيق".

أما دابق فقد كحّلت عيني بترابها مرة، ولم تكن الحدود التركية يومئذٍ تردّ البصر، ولا الرايات الداعشية. وربما كانت لم تزل كما كانت منذ عام 1516، حين انتزع سليم الأول الخلافة من المماليك وطوبها للعثمانيين، إذ لم أرَ غير بيوت متناثرة في بقاع فسيحة. وكان أبو مصعب الزرقاوي قد أرسل بشارته سنة 2004 بهزيمة الصليبيين في دابق. وبعد عشر سنوات استولت داعش عليها، وهدر الوعد والوعيد بقيامة الساعة كما بشر مسلم في صحيحه.

 

ضباب الغد

ما إن رحلت داعش عن منبج حتى جلست الجدة عوش أمام البيت ودخنت لأول مرة في حياتها، كاشفةً عن شعرها لأول مرة أيضاً: لقد رحلوا.

وهذا حلق لحيته وهذه أحرقت برقعها، إذ لم يعد في منبج من يخيط فمك إن خانك ورمى داعش ببسمة، فكيف إن رماها باحتجاج؟

خرجت داعش إذن، ودخلت قوات سورية الديمقراطية (قسد) و... ولكن (قسد) تطرد من حارة الحزوانة ومن الوادي من ليس سجله المدني في منبج، فلماذا؟ وبعد حين بطول سنة، أي في 1/8/2017، لماذا أطلق (قسد) الرصاص على المتظاهرين ضد انتهاكات المليشيات؟ وماذا يفعل هذا العلم الأميركي وهذا العلم الروسي وهذا العلم الكردي في سماء منبج الغائمة القلقة التي تتوعدها طائرات التحالف الذي تقوده أميركا، والطائرات الروسية، والدبابات التركية، والفيدرالية الكردية؟

أيّ مستقبل ينتظر منبج كما تنتظره سورية كلها؟