Print
أحمد عبد اللطيف

القاهرة الجديدة: مدينة الاستغراب وثقافة "الكومباوند"

12 سبتمبر 2019
عمارة

بالعودة إلى ابن إياس في "بدائع الزهور في وقائع الدهور" يمكن فهم لماذا اختار العرب مدينة القاهرة لتكون عاصمتهم الإسلامية بديلاً عن الإسكندرية التي كانت عاصمة الدولة الجريكورومانية. إنها مدينة تقع بين جبل المقطم ونهر النيل، جبل كان مكسواً بالنبات والأشجار، فتبرع بزرعه لجبل بيت المقدس استجابة لإرادة الله، فقرر الله أن يعوضه فزرع فيه أو حوله أولياء الله الصالحين، حيث تحول لمدفن لهم؛ والنيل الذي تدور الحكايات حول قدسيته، أحد نهري الجنة، شريان الحياة لبلدان النهر.
من الفسطاط، الاسم الأول للمدينة والمستقر الأول لعمرو بن العاص، وحتى القاهرة الفاطمية، تمددت القاهرة نحو الشرق، صوب الجبل، وحين اتسعت الدولة شيدت أسواراً وأبواباً لتفصل أهل السلطة عن الشعب، لتحمي السلطان من يد الرعية ومطالبهم وتمردهم. شيّد صلاح الدين القلعة لتكون مقراً للحكم، في دلالة أولى لهذا الانفصال، ووعد محمد علي أن يعيش في قصر بين الناس هاجراً القلعة حين اختاره الناس، لكنه لم يحتمل أكثر من عام وعاد إلى القلعة.
والخديوي إسماعيل اختار قصر عابدين، بوسط القاهرة، ليكون مقراً للسلطة، ربما أدرك أن انفصال محمد علي عن الناس كان سبباً في جنونه وزوال سلطانه. وعمل إسماعيل على صنع "القاهرة الخديوية" التي يتميز معمارها بالشوارع الواسعة والبناية العالية والأسقف المرتفعة والزخارف الأوروبية، من رسومات وتماثيل. على عكس المعمار الإسلامي السابق: الشوارع الضيقة، البيوت المنخفضة لكن الواسعة من الداخل، بصحن ربما يضم نافورة أو يفسح لها مكاناً، والحلي والزخارف مثل الأرابيسك والمقرنصات. عمارة إسماعيل كانت إعلاناً عن عصر جديد، انفتاحاً على أوروبا وتسليماً بزمنها، بعصر النهضة والحداثة التي بدأت من الفكر وبلغت المعمار. لكنها في القاهرة كانت حداثة مزيفة، أخذت القشرة والسطح وتركت العمق والجوهر. لكننا أمام سلطة أنهت زمن الأسوار، وبداية من إسماعيل غدت هذه الجدران من الماضي، فالملك أو السلطان أو الخديوي بات يعيش مع الشعب، حتى لو كان خلف حراسه.
هذا التحول المعماري: الميادين والشوارع الواسعة، رافقه انفتاح أيضاً في المجتمع، بعثات للطلبة إلى فرنسا، مدارس للبنات. المطبعة التي عملت مع محمد علي، ظلت تعمل على نطاق أوسع، وربما كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" لرفاعة الطهطاوي، كنتاج لهذا الزمن، هو أحد أهم الكتب التي طرحت سؤال الهوية ووقف على الفروقات الثقافية بين مصر العربية الإسلامية وأوروبا العلمانية المتمثلة في فرنسا (كتاب "الساق على الساق" من الكتب الهامة في هذا السياق). لا يمكن فصل التحول المعماري عن الحرية، عن الزخم المجتمعي والسعي للأفضل، عن وجود نخبة ثقافية تتفاعل مع العالم وتروم الاستفادة من خبراته. تبقى القاهرة الخديوية كترميز لهذا الفكر، كما بقي معمار القاهرة الإسلامية كملخص لفكرة السلطان عن السلطة.


توسع عمراني، معمار فقير
من الطبيعي أن تتوسع المدن ما دام ذلك في الإمكان، خاصة مع الزيادة السكانية. من هنا ظهرت قاهرة خلف المقطم، فصارت المدافن، التي كانت على حافة المدينة، في وسطها. تخيل: المقابر وسط المدينة، الموتى محاطون بالأحياء في كل مكان. اضطر الرئيس عبد الناصر لقطع جبل المقطم، لقسمه نصفين حتى لتبدو قلعة صلاح الدين فوق جبل منفصل، ليتوسع في القاهرة شرقاً، في مد لخيط الأسر الإسلامية السابقة على محمد علي. أي معمار اختارت دولة عبد الناصر؟ بناية بلا صلة بالمعمار الإسلامي ولا بالمعمار الأوروبي، بناية خالية من أي زخرفة أو جمال، مجرد صب لإسمنت فوق حجارة، بلا ميدان كبير يمكن أن يكون متنفساً للمدينة. لا يمكن أن نَصِفه بالمعمار القبيح، لكنه المعمار المتقشف، الوظيفي، معمار لا يراعي البعد النظري. بطريقة ما، يمكن أن نسميه معماراً اشتراكياً، يسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية. هذا النوع من المعمار هو الخطوة الأولى في اتجاه الإسكان الاجتماعي، إسكان الطبقة الوسطى الجديدة، حيث البيوت الضيقة ذات السقف المنخفض، بالتوازي مع ظهور الإسكان العسكري للضباط وصف الضباط. لقد عكس النسق المعماري فلسفة ثورة يوليو، السعي لطبقة واحدة لا يعلوها إلا طبقة الضباط، وخلق مجتمع متشابه يسود فيه التعليم المجاني ليغطي الجميع ويحاول إتاحة الفرص بالتساوي، لكنه لا يترك مساحة للحرية ولا يهتم بالبعد البصري.


من العشوائية للكومباوند
السياسة المعمارية ستزداد سوءاً مع الوقت، سيتوسع الإسكان الاجتماعي كماً لكنه سيكون علامة قبح وعدم احترام للمواطن (الفقير في هذه الحالة، طبقة موظفي الدولة). في التسعينيات ستزداد

العشوائية، البنايات غير مشطبة الواجهة، حيث انتهت عند الطوب الأحمر، البنايات التي غزت الأرض الزراعية ضد إرادة الدولة، القمامة التي باتت منتشرة في كل مكان مع غياب ملفت للحاويات، توسع المدينة في غرب الجيزة (6 أكتوبر) كان طوق نجاة، لكن المعمار سيطر عليه الطابع الاجتماعي الفقير، حتى البنايات الأهلية اتخذت نفس الشكل. الأكاديمي صبري حافظ التفت إلى هذا التوسع العمراني وهذه العشوائية، وربطها بالأدب المكتوب في فترة التسعينيات. توصل حافظ في دراسته إلى أن الكُتّاب باتوا بلا أمل بعد انهزام القضايا الكبرى (يقصد بها القومية العربية) فراح أدبهم في اتجاه الهم الفردي والاجتماعي لا السؤال السياسي، وبالفعل جسّد بعضهم، بحسب حافظ، هذه العشوائية العمرانية.
التوسع العمراني في شرق القاهرة (لربط القاهرة بمحافظات القناة) تحقق منذ بداية الألفية. ظهرت بالتوالي مدن مثل الرحاب ومدينتي والشروق، كضواح من أجل طبقة الأثرياء، وتوسعت الجيزة في المقابل بهدف ربطها بمحافظتي الفيوم والواحة البحرية، فاتسع حي 6 أكتوبر. مع هذا التوسع ظهر "مجتمع الكومباوند"، لتظهر من جديد مدينة الأسوار العالية. ورغم أن هذه المدن ظهرت في نهاية عهد مبارك، إلا إنها اتسعت منذ ما بعد ثورة يناير. لقد أدى الانفلات الأمني، التالي للثورة، إلى إثارة الخوف في الطبقة الوسطى العليا (التي تضاءلت وانكمشت) والطبقة العليا، فكان خيارهما هو المدينة المسوّرة. كما ساهمت الدولة في هذا الاتجاه بنسبة كبيرة، إذ باعت الأراضي بأسعار رخيصة لرجال الأعمال (في صفقات فساد ورشوة) وساهمت بتوصيل الخدمات من ميزانية كان يجب أن تخصص للفقراء ومحدودي الدخل، لتوفر لهذه الضواحي كل الخدمات. وفي الوقت الذي ادعت فيه الدولة أنها تفعل ذلك من أجل التنمية، كان الجميع يعرف أنه ليس بوسع أحد العيش في هذه الضواحي، باستثناء الأثرياء. و"مجتمع الكومباوند" في خلال سنوات قليلة بدأ يفرز ثقافته، ثقافة التبرؤ من الثقافة العربية واللغة العربية، وتبني الثقافة الغربية واللغة الإنكليزية كلغة للكلام، وثقافة التعالي على الساكنين خارج ضواحيهم المعزولة. ضمت هذه الضواحي المدارس الدولية والجامعات الأجنبية، ودعماً له، لهذا المجتمع الثري على هامش القاهرة الثقافية الفقيرة، دعت الدولة لإنشاء "العاصمة الإدارية" حتى توفر لهم كل الخدمات، بطريقة تبدو كهجر الزوجة الأولى من أجل الزوجة الجديدة.
لا يحتاج سكان القاهرة الجديدة، المقيمون في الكومباوندات وخلف الأسوار، إلى الخروج من ضواحيهم، ولا يحتاج أبناؤهم إلى الاحتكاك بالساكنين خارج الأسوار. هذا النوع من التوسع العمراني أفرز معماره، بنايات على شاكلة الشاليهات والفيللات، وبنايات أنيقة من خمسة طوابق، ومساحات خضراء واسعة، وأندية رياضية. أحياء كان يستحقها سكان القاهرة جميعهم، لكنها خُصِصت فحسب للأثرياء، ومن أجل حمايتهم كان يجب رفع الأسوار والبوابات. بطريقة ما، يتشابه الأثرياء اليوم مع أهل السلطة في الدولة الإسلامية، قلاع يحيط بها حراس لحمايتهم من الشعب. الفارق الجوهري أنهم من أبناء الشعب، وليسوا من أهل السلطة، وإن كان أهل السلطة يعيشون بينهم.
كانت القاهرة، بالطبع، تتميز من قبل بأحياء راقية، أحياء احتفظت لنفسها بمعمار مميز وحياة

هادئة، مثل الزمالك والمعادي والدقي ووسط البلد، مقارنة ببقية الأحياء. لكن هذه الأحياء كانت مفتوحة على الأحياء الشعبية، كان يمكن دخولها والتجول فيها والاختلاط بأهلها والتعليم بمدارسها، سواء الحكومية أو التجريبية ثم الخاصة. هذا النوع من الاختلاط كان يخلق نوعاً من الألفة. لم يشعر سكان هذه الأحياء الراقية بالغربة في التعامل مع الطبقات الشعبية، ولا العكس. كانت المسألة محصورة في إدراك كل طبقة للفوارق الاجتماعية والثقافية بدون أن يحدث ذلك صداماً، كانت المعاملات اليومية بها نوع من الرضى والاحتياج، تأدية خدمات مقابل أموال، أبواب رزق مفتوحة وخدمات تقدم تفتح بيوت الفقراء. حتى التعالي الملحوظ في أبناء الطبقة العليا كان يمكن السخرية منه والضحك عليه، حتى كان يتحول مع الوقت إلى مراهقة فكرية.
كل ذلك لن يتحقق مع "مجتمع الكومباوند"، ففي الوقت الذي ظنوا فيه أنهم تحرروا من المجتمع، كانوا في الحقيقة يسجنون أنفسهم خلف أسوار لا نهائية، وحين تأتي لحظة الاضطرار للخروج والتعامل مع المجتمع الأصلي سينتبهون إلى أنهم صاروا غرباء بالفعل. لقد تعلموا لغة ليست لغتهم، وثقافة ليست ثقافتهم، وربما تكون نيويورك أقرب إليهم من القاهرة.
لقد خلقت ثقافة الكومباوند مجتمعاً مشوهاً، بلا هوية، يعيش بهوية متبناة، بأقنعة صغيرة لا تليق على وجوههم الكبيرة، فلا تغطي إلا أعينهم، فلا يرون لكنهم مرئيون. هذا ليس تنوعاً في طبقات المجتمع ولا في ثقافته، إنما خلق مسوخ تتبرأ من أصولها، وإذا كان الآباء (وهم اليوم لا يزالون في الثلاثينات والأربعينات) يمكنهم التفاعل مع مجتمع يرفضونه لكنهم تربوا فيه ويفهمونه، فالأزمة ستكمن في أبنائهم الذين ولدوا مسلوخين من ثقافتهم، فالأسوار التي اختارها آباؤهم ليعيشوا خلفها ليست فحسب أسوار الكومباوندات، إنما أيضاً الأسوار النفسية. ففي عقيدتهم، كل من يسكن خارج الأسوار ليس من طبقتنا، ولا من مجتمعنا، إنهم الأوباش الذين يعارضون السلطة ويتذمرون منها ويسعون لهدم الدولة، إنهم الأوباش الذين يسعون لامتلاك ما لا يعملون من أجله، إنهم اللصوص الذين يهددون سلامنا داخل كومباونداتنا المسالمة، داخل مدينتنا الفاضلة.
وسكان خارج الأسوار، فيما يفكرون؟ كيف يرون سكان خلف الأسوار؟ بالنسبة لهم، ليسوا إلا أتباع السلطة والذين نهبوا خيرات البلد، أصحاب جوازات السفر الخاصة أو مزدوجة الجنسية، الذين يعيشون بجانب المطار ليسهل عليهم الهرب. وسواء كانت رؤيتهم حقيقية أو نصف حقيقية أو مجرد فهم خاطئ، فالأسوار خلقت هذه الأجواء العدائية، حيث ثروات البلد تروح في بناء عاصمة جديدة لفئة محدودة، فيما تحتاج القاهرة التاريخية إلى نصف هذه الميزانية لإعادة رونقها والقضاء على عشوائياتها وتنظيف شوارعها. سكان القاهرة "القديمة" لا يفهمون مَن أصحاب الأرض التي تبيعها الدولة (الممثلة في السلطة العسكرية) لطبقة الأثرياء، فالأرض أرض المواطنين مع ذلك لا يملكونها، السلطة تفرض نفسها كمحتل، وأصحاب الأرض يعيشون بلا بيوت أو في بيوت مهددة بالسقوط في أي لحظة.لا يمكن قراءة العمارة في القاهرة الجديدة، إذاً، على ضوء أناقتها باعتبارها نقطة لصالح النظام، إنما نقطة تؤخذ عليه، لأن المعمار هنا ليس معماراً عمومياً يفيد منه المواطن، إنما صارت الدولة شركة استثمارية، وصار المواطن مجرد زبون.
في هذا التحول ثمة أدب جديد سيظهر، سيكون أدب الكومباوند، سيختلف بالتأكيد عن أدب التسعينيات العشوائي، وسيختلف عن أدب أول الألفية الثوري، وربما يكون سؤاله الأكبر هو سؤال العزلة، هذه اللعنة التي فرضتها عليهم الأسوار والبوابات والحرس.