Print
مها حسن

وطني شجرة كرز في مجدل شمس

26 أغسطس 2019
أمكنة
لا أعرف كيف وجدتني في بلد أجنبي، أود العودة إلى فرنسا، ولكنني لا أعثر على جواز سفري. قبل أيام، وجدتني في بلد عربي، قام موظف أمن الجوازات، بتمزيق جواز سفري الفرنسي أمام عينيّ.. هذه عيّنة صغيرة من كوابيس تحتل نومي، لتُشكك في شرعية جواز سفري الفرنسي.
على الأرض، تعرضت لمضايقة كبيرة في أحد المطارات، حين أصرّ الموظف، قبل صعودي إلى الطائرة، على أن جواز سفري مزوّر، وأن الصورة الملصقة عليه، ليست صورتي. وأخذ يتحدث مع مسؤوليه عبر الهاتف، بلغة لا أفهمها، يُعلمهم بالواقعة. كنت أكرر له بالإنكليزية: إذا كان هناك مشكلة سأتصل بالسفارة الفرنسية. لم يقبل الموظف بالرد عليّ، كأنه لم يكن يراني أو يسمعني.. انتهى موضوع تدقيق جواز سفري، وسمحوا لي بالصعود إلى الطائرة، تحت نظرات الركاب المرتابين، الذين لم يعرفوا سوى أن ثمة مشكلة في جواز سفري!
لم أعد إلى ذلك البلد منذ تلك الواقعة، ولكنني أيضاً، وفي الواقع، وليس في المنام، استدعيتُ وحدي، من بين مجموعة أصدقاء وصديقات، سافرنا معاً إلى بلد عربي. كان الجميع بالصدفة من جنسيات عربية، إلا أنا. أُخذت إلى غرفة خاصة، وتم استجوابي. كانت الأسئلة ساذجة إلى درجة الفكاهة: لماذا حصلت على جواز سفر فرنسي؟ لماذا أنت فرنسية؟ من أي حيّ أنت من حلب؟.. خرجت من غرفة الاستجواب كما دعوتها، ناجية. قالت صديقتي التي تحمل جنسية ذلك البلد لتهدّئ من غضبي: هذه إجراءات غير رسمية، هؤلاء موظفون يتصرفون وفق عواطفهم. الموظف عربي تضايق أنك تحملين جنسية أوروبية. وروت لي حكاية صديقة جزائرية جاءت مثلي، بجواز سفر فرنسي، فوبّخها الموظف، لأنها متزوجة من فرنسي.
عشتُ دائماً، بين الكوابيس والواقع، هذا الذعر من شرعية جواز سفري. تعرضت لمواقف عديدة، طُلب مني خلالها، في مطارات عربية على الأخص، إبراز وثائق عربية: هوية شخصية سورية ـ شهادة ميلاد... كأن جواز سفري الفرنسي، ليس وثيقة كاملة.
حين أصل مطار أورلي، أو شارل ديغول، أُعامل بحنان غريب، لا أتوقعه في كل مرة، من رجال أمن صارمين، يبتسمون لي، وهم يمسكون بجواز سفري، باعتباري مواطنة مثيلة لهم، نتبادل التحيات وبعض الثرثرات السريعة، وأشعر أن هذا البلد هو ملاذي الآمن، ووطني الكبير.
لكن العالم الآخر، لا يصدق أنني فرنسية. بعضهم يستكثر، وبعضهم يشكك في صحة أوراقي، وبعضهم يعترض أنه يبدو كأنني أتخلى عن جنسيتي السورية.


مفهوم الوطن
منذ ماتت أمي في حلب، إثر قصف بيتنا، وتحوّله إلى أنقاض، فقدت انتمائي لحلب. شعرت أنه لم يعد لي مكان هناك، وبدأ شعوري بالاغتراب يكبر مع الأيام، ليتحول مفهوم الوطن إلى كتلة هلامية غامضة، أو إلى فقاعة صابون تتطاير في الهواء.
يقرّ الفرنسيون بفرنسيتي، لكن "لكنتي" تستوقفهم ويدفعهم الفضول لسؤالي: من أي أصول

أنت؟
هذا السؤال يعيدني لأشعر أنني أعيش داخل فقاعة الصابون، أن أرض الفرنسيين ليست لي، حتى وإن امتلكت حقوق التصويت والانتخابات والمشاركة السياسية كأي مواطن مولود هنا ومنحدر من آباء وأجداد يعيشون هنا.
حين استعمل صديق فرنسي مقرّب جداً، مصطلح: بلدك بالتبنّي، واصفاً علاقتي بفرنسا، أحسستُ بتمييز بين جنسيتينا: هو فرنسي الجذور، كما يقولون بالفرنسية "سوش"، وأنا فرنسية بالتبني، لأن أمي الحقيقية، تبقى دائماً، مهما انتميت إلى هذا البلد، هي هناك، في البلد الذي وُلدت فيه.
يعاني الكثير من الفرنسيين من أصول أجنبية، بينهم نجوم كبار، ارتبطت أسماؤهم بنجاحات حققوها في وطنهم الفرنسي: زين الدين زيدان، كاميليا جوردانا، رشيدة داتي، فضيلة عمارة، نجاة بن قاسم، جمال دوبوز، وغيرهم كثير من الإعلاميين والسياسيين والمثقفين، من نظرة الآخر التي "كلما دقّ الكوز بالجرّة" يتم التذكير بأصولهم الأولى.
أما أنا، ففي الوقت الذي وجدت فيه ملاذي في فرنسا، رغم ما أعانيه من تشكيك الآخرين بشرعية انتمائي، أجد هذا الأمر ضئيلاً أمام معاناتي في سورية، حيث لم أشعر هناك بالمواطنة الفعلية، كالكثير من السوريين الأكراد، الذين عوملوا دائماً كأنهم أغراب.
كنا، نحن الشباب الأكراد، نُحصي أسماء المشاهير من أصول كردية في البلد: حسني الزعيم، رئيس الجمهورية السورية الأولى، أديب الشيشكلي، عدنان بوظو، خالد تاجا، منى واصف، أحمد شوقي، محمد كرد علي... وغيرهم، لنشعر ببعض الشرعية في البلد الذي طمس فيه نظام البعث الانتماءات الوطنية، لصالح الولاء للسلطة الحاكمة.


الوطن البديل
كان يمكنني السكوت على اضطرابات الانتماء، وقلق السفر، والتعرض لنظرات التشكيك في المطارات، حتى لحظة وصولي ممسكة بجواز سفري الأحمر، أمام أي موظف، ألوّح به بقوة. لكن ما حصل يوم الثامن عشر من شهر آب/ أغسطس الحالي، دفعني لأكتب هذا الكلام، لأعتبره وثيقة وشهادة على أن الكتابة تستطيع أن تمنح أحدنا وطناً بديلاً، قد يكون هو الأقوى.
تلقيتُ رابط فيديو، يحمل عنوان: اقرأوا الأشجار. فتحته، وشعرت بقشعريرة الموت والولادة معاً.
ثلاثة شعراء يظهرون في التسجيل المصور: خالد الناصري، صاحب منشورات المتوسط في إيطاليا؛ مروان علي، الشاعر المقيم في ألمانيا؛ ياسر خنجر، الشاعر المقيم في مجدل شمس في الجولان.. يزرعون شجرة، يعلّقون عليها ورقة تحمل اسمي.
المشهد في بدايته أوحى لي بالموت. كما لو أن الأصدقاء، يحفرون قبري، ويضعون عليه اسمي. لكن انطباعي سرعان ما تغير، وأنا أسمع خالد وياسر ومروان، يتحدثون إلي وعنّي: "نحن في الجولان السوري المحتل، على بعد أقل من كيلومتر عن سورية، في قرية الشاعر السوري ياسر خنجر ابن مجدل شمس.. هذه الشجرة نزرعها للكاتبة السورية" يذكر خالد

الناصري اسمي ويضيف: "صار إلك شجرة في الجولان". يعلّق مروان علي: "صرت من أهل الجولان"، فيضيف خالد: "صرتِ جولانية"، ليختم ياسر خنجر الكلام: "عم نستناكي يا مها"!
أراهم يضعون شتلة شجرة الكرز داخل الحفرة، ويهيلون عليها التراب للتماسك. يمسك مروان علي بورقة كُتب عليها اسمي، يناولها للناصري الذي يضع الورقة بين أوراق شتلة الكرز، ويشرح بأن هذا الوضع مؤقت، وأنه سيبدلون هذه الأوراق، بلوحات من السيراميك، تُخطّ فيها أسماؤنا، نحن الكتّاب.
تختلط مشاعري وترتطم بشدة: حفر الأرض، ووضع الاسم، والكلام عن الغائب الذي تُزرع شجرة باسمه، يُشعرني بطقوس الدفن، لكن الهمّة والحيوية والفرح في وجوه الشعراء الثلاثة وفي بحة أصواتهم، يقول إن ما يحدث هو ولادة، ولادة مشروع مختلف، يكرّس مفهوم الانتماء.
لم أكن أعرف أن المشروع قد بُدئ من قبل، وأن شجرتي هي العاشرة، بعد أشجار كتّاب وكاتبات آخرين: صبحي حديدي ـ أمجد ناصر ـ رشا عمران.. لكل كاتب غرسته، حتى يصبح العدد الحالي، عشرين شجرة.
الفكرة انبثقت من مخيلة صاحب المتوسط، الذي يحارب طواحين الهواء، في شعاره المثبّت على "لوغو" الدار، حيث يحلم أن تتحول كل تلك الأرض، في الجولان، إلى حديقة تمثّل ما يشبه التجمع الإبداعي.
مجدل شمس! ينطقها خالد الناصري، وهو يعرّف بياسر خنجر، فتقذفني مخيلتي إلى تفسيرات طفولتي المبكرة لعبارة: مجدل شمس.
كنت أتخيل أن أهل هذه المدينة، يجدلون الشمس. وأعتقد أن مجدل مشتقة من فعل جَدَل، كما كانت أمهاتنا تصنع جدائلنا الطويلة المسترخية على أكتافنا وظهورنا.. في رأسي، كانت تسكن مدينة خيالية، تجلس فيها الشمس في كل صباح، في أحضان النساء، ليجدلوا خصلات شعرها الطويلة. خصلات من ضوء وحرارة، تبعث الفرح.. نساء يغنين ويهدهدن للشمس الجالسة في أحضانهن، يمشّطن شعرها بحنان، وتنفض هي، الشمس، رأسها، بدلال الأطفال، وشعورهم بزهو عناية الأمهات.
اليوم فقط، كبرتُ لأذهب إلى الانترنت وأبحث عن معنى العبارة، لتقول لي المواقع إن مجدل شمس هي كلمة آرامية تعني برج الشمس.
أبحث عن ياسر خنجر في الانترنت، وأعثر على تسجيل متلفز معه حول الفكرة ذاتها: اقرأوا الأشجار.  ليؤكد ياسر على الهوية السورية للجولان. يخفق قلبي، وتطارد مخيلتي الأشجار

العشرين: هل تقتلعها العواصف، هل تجرفها السيول، هل هي بخير؟ أكتب لياسر خنجر، الذي لا يحتاج إلى توصية، ليعتني بالشجرات، لحين أذهب إليها وأسقيها وأطمئن عليها.
أحسست فجأة، وأنا أشاهد الفيديو عدة مرات، أنني أعيش هناك، أو أنني مدفونة هناك، تحت شجرة الكرز.
أجد أن مقدرتي الكتابية عاجزة عن نقل ما أحسّ به من انتماء للشجرة هناك. لشجرة في الجولان. الجولان المحتل، هو لنا، نحن الكتّاب. أشجارنا هناك، تحمل أسماءنا، وتخلّد الكتابة كفعل مقاوم للاحتلال والموت ومحاولة المحو والإلغاء.
أعتقد أن المشروع خلاّق بدرجة غير مسبوقة، مزيج من تكريم الأدب، ورفض الاحتلال، ومزيج من رد الاعتبار لأسماء حُرم أغلبها من إمكانية العودة القريبة إلى الوطن، أغلبهم يعيشون مثلي، نقصاً في الوطن.
نحن نحنّ إلى أوطان فقدناها، فهل يمكن للكتابة أن تكون فعلاً هذا الوطن البديل، الذي يرمم نقصنا العميق. في حالتي أقول نعم، أستطيع أن أهزّ رأسي بثقة، وأنا أعلن أن وطني هناك، في شجرة كرز في بستان في مجدل شمس.
وطني اليوم ضفيرة من شمس، تجدلها الكتابة في بستان كرز، يجلس فيه شعراء وروائيون، يقرأون ويكتبون، ويحاربون طواحين الهواء.