Print
صقر أبو فخر

أماكن غيّرت أسماءها فضاع تاريخها

11 يوليه 2019
أمكنة
خضعت أماكن تاريخية لا تُحصى لعملية غير واضحة البدايات والدوافع والغايات هي تغيير الأسماء وتحويل تلك الأماكن إلى غير ما كانت عليه. ولا ريب أن تقصي أسباب تلك الظاهرة يحتاج عدة بحثية متعددة الاختصاصات كالتاريخ وعلم الآثار وعلم الاجتماع وعلم السكان، خصوصاً الهجرات البشرية التي تحمل معها عادة تغيرات جمة في المكان ومسمياته، وفي السكان وطرائق عيشهم وعقائدهم الدينية أيضاً. وهذه العملية التاريخية الدائبة تؤدي، في معظم الأحايين، إلى إضاعة تاريخ المكان، وإلى قطع التواصل التاريخي بالبدايات الأولى، ولا سيما للناس الذي عاشوا في المكان نفسه على امتداد حقب طويلة، وتبدلوا بين حقبة وأخرى. وعلى سبيل المثال فإن أوغاريت العظيمة تسمى اليوم رأس شمرا، ومملكة ماري صارت تل الحريري، وإيبلا باتت تل مرديخ، وهيرابوليس غدت منبج، ودورا أوروبوس أمست تل الصالحية. وهذه الأماكن تقع كلها في سورية. وفي العراق لا نعثر على مدينة كالخو الأشورية المشهورة، بل على وارثتها بلدة النمرود التي قامت فوقها، وكذلك عربايا القديمة التي بدلت اسمها إلى مدينة الحضر الجديدة. وهاتان الحاضرتان دمرتهما الضباع المقروحة التي خرجت علينا باسم "داعش" المهين للإنسانية وللحضارة. وفي ليبيا توارت قورينيا، وهي واحدة من أعظم مدائن التاريخ القديم، فصارت شحات (أنعم وأكرِم)، وكذلك باتت لبتوس ماغنا تدعى لبدة أي فروة. وأعتقد أن خضوع أسماء الأماكن لتبدلات في أسمائها هي عملية ربما تكون
طبيعية في سياق الهجرات والتقلبات السكانية وسيطرة شعوب على شعوب وتغيير اللغات والديانات. فمصر، على سبل المثال، غيّرت ديانتها مرات عدة؛ من عبادة رع وآمون وآتون إلى المسيحية فالإسلام. وفي خضم هذه التغيرات تغيرت أسماء الأماكن بتغيير السلالات الحاكمة. والمعروف أن مصر انتهت كدولة مصرية مستقلة منذ الألف الأول قبل الميلاد، وقُضِيَ على اللغة الهيروغليفية منذ النصف الأول من القرن السادس الميلادي، وضاع مفتاح الكتابة بها حتى جاء شامبليون وفكّ رموزها. ومنذ الألف الأول قبل الميلاد تعاقبت على حكم مصر سلالات شتى: اللوبيون ثم النوبيون والأشوريون والفرس والبطالسة والرومان والعرب والمغول والفاطميون والأيوبيون والشراكسة، ثم العثمانيون فالألبان من أسرة محمد علي. وخضع العراق وسورية كلاهما للعملية ذاتها، الأمر الذي أضاع أسماء المواقع التاريخية، وصار ربط الماضي القديم بالحاضر السقيم عملية صعبة جداً. فمدينة بئيروت مثلاً يعتقد البعض أنها البيرة في فلسطين، أو بئيروتا قرب حماة في سورية، أو بئيروت جنوب أوغاريت في سورية (وهي الواردة في رسائل تل العمارنة في مصر)، أو بيروت الحالية في لبنان. فمن يعرف حقاً أي مدينة هي بئيريوت القديمة؟

أسماء ساخرة
لنترك التاريخ والتواريخ والمؤرخين لذوي الاختصاص، وننعطف إلى أسماء بلدات وقرى في لبنان جَهدَ سكانها بقوة ومثابرة لتغيير أسمائها لأن فيها، بحسب رأيهم، ما يثير السخرية أو العيب. والمؤكد أن ثمة حكايات في كل قرية تفسر لماذا أُطلقت تلك الأسماء الساخرة أو المعيبة على المكان. غير أن تغيير الأسماء، ولو في ما بعد، لا يعني، في المحصلة، إلا قطع الصلة بتاريخ المكان قطعاً باتاً. مثلاً غيّروا اسم قرية عيتا الزط في لبنان الجنوبي إلى عيتا الجبل. والزط هم النَوَر أو الغجر. وقد تسربت كلمة الزط إلى اللغات الأوروبية في صورة "جيتان"، أي الراقصة الغجرية التي تظهر على عُلب السكائر الفرنسية من ماركة "جيتان". وقرية الواطية في لبنان الشمالي صار اسمها المطل، أي المكان المشرف. وقرية حمّارة في البقاع اللبناني بات اسمها في سنة 1968 المنارة. وعلى هذا المنوال صارت قرية "الإسطبل" في

البقاع تدعى الروضة، ومثلها قرية "إسطبل" في قضاء جزين التي دُعيت منذ سنة 1960 عين المير. والخربة تحولت إلى برج الملوك، واليهودية إلى السلطانية، والذنيبة (مصغر ذنب) إلى مرج الزهور، ودَنَبو (أي ذَنَبه) إلى عين الذهب، وقمل في قضاء زحلة صارت الكرمة خلافاً لما تعنيه باللسان السرياني، أي العفن والتفسخ والفساد (أنظر: أنيس فريحة، معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية، بيروت: مكتبة لبنان، 1972). وعلى هذا الغرار بلدة البساتين في قضاء عاليه في جبل لبنان التي شهدت حوادث دامية في تموز/ يوليو 2019، كان اسمها "الفساقين" (من الفسق)، ووادي الزينة كان اسمها الأصلي وادي الزانية.
حسناً، ما دام الناس يرغبون في تغيير أسماء بلداتهم التي تثير السخرية أو العيب، فلماذا أحجم كثيرون غيرهم عن تغيير أسماء بلداتهم التي تثير القهقهة والامتعاض معاً؟ ففي سفوح جبل صنين في لبنان هناك قرية تدعى "رايحة جايي"، وفي جنوب لبنان قرية تُسمى "أبو علي المزنطر"، وفي شمال لبنان قرية الواوي (ابن آوى)، وفي سهل البقاع قرية تدعى "عين فجور"، واسمها بالسريانية لا يعني الفجور، بل العين الآسنة أو العين المتدفقة. وفي إقليم الخروب من أعمال منطقة الشوف قرية تدعى "المحتقرة". أما في سورية فنعثر على قرية الفاطسة في الرقة، والمقروصة في الجولان، وعاهرة في جبل العرب (تحول اسمها إلى عريقة)، والمبعوجة في ناحية السلمية من أعمال حماة. وفي مصر عثرنا على تل المسخوطة، وفي الكويت على المهبولة، علاوة على قرية زوج بغال في الجزائر، وموقع الخرانا الأثري في الأردن.

مزارات ودببة
في لبنان دير يدعى "دير القطين". والقطين ليس مثنى القط، بل التين في لهجة بعض أنحاء لبنان وفلسطين، أما بالسريانية فهو الضيّق والرفيع. والعجيب أن في دير القطين ذاك يقوم

"مزار سيدة البزاز"، أي مزار شفيعة المرضعات. وهناك جورة القطين أيضاً. ومن مضحكات الأسماء قرية "طير زبنا" في لبنان الجنوبي التي غيّرت اسمها في سنة 1968 إلى "الشهابية" تيمناً بالرئيس فؤاد شهاب. وطير زبنا تعني بالسريانية حظيرة الزبل أو الروث، ومثلها قرية طير دبا، أي حظيرة الدببة.
إذاً، ثمة أماكن تاريخية غيّر أهلها أسماءها إلى أسماء عادية، وهناك أسماء غير تاريخية تركوها كما هي مثل قرية النبي كيكي في سورية، وتل النبي مندو الذي يقوم فوق مدينة قادش القديمة المشهورة. فلماذا ضَوَتْ قادش العظيمة فصارت تل النبي مندو؟ وهل هناك حقاً نبي يدعى " مندو" وآخر يدعى كيكي؟ الأغرب أن مواقع كثيرة تُنسب إلى "أنبياء" مجهولين، وربما كانت مزارات لرجال صالحين عبروا في الأزمنة الماضية فصاروا عند العامة أنبياء، واندثر الاسم التاريخي لمصلحة أنبياء بلا نبوة، وغير مسطورين في أي مرجع أو مصدر أو كتاب. وعلى غرار هؤلاء وقعنا على قرى في لبنان اتخذت الأسماء التالية، النبي رشادة، النبي ركاب، النبي زعور، النبي سباط، النبي سميلي، النبي شمليخ، النبي صافي، النبي كزيبر، النبي ميش، النبي عثمان، النبي نجّوم (نبع)، النبي جليل عند بلدة قانا، النبي عويضة (مزار يهودي في منطقة مرجعيون). ولكل نبي من هؤلاء حكاية لا رأس لها في التاريخ ولا ذنَب، وإنما عقائد شعبية مسخوطة ومبعوجة بلا أصل أو أساس.