Print
سامي داوود

علم الجمال المَكني: الفلسفة البصرية لتصاميم "كودو" أنموذجاً

23 أبريل 2019
عمارة
"إن ما يؤثر في حواسنا كمادة هو في الواقع تركيز عظيم من الطاقة في فضاء صغير نسبياً". آينشتاين

رغم حداثته، فإنَّ مفهوم علم الجمال المكني يأتي متأخراً قليلاً عن الشروط التقنية المعاصرة التي تعيد مفهمة الواقع بإنتاج منصة كونية لمعايشة المتنافرات. لذلك سيكون جزء من مقتضيات هذا المقال، إلى جانب تدقيقه كمفهوم، استدماجه في آنائه المعاصر، وذلك نظراً لتوافر معطيات كثيرة لهذا التحديث. علماً أنني ضد طرح الأسماء على أشياءٍ غير محمولة بما يمنح هذه الأسماء قاعدتها التعريفية. وبالأساس، فقد ظهر مفهوم علم الجمال المكني مقطعاً بين شرطين، أحدهما إسنادي وآخر مفهومي. بالنسبة إلى الشرط المرجعي الأول لعلاقة الفن بالحياة الاجتماعية وتنظيم المكان، ظهر تصور حول إعادة توظيف الفن في شروط الإنتاج الصناعي المحدَّث تقنياً، وبشكل خاص مع التطورات التي بدأت في الفيزياء الحديثة منذ سنة 1900 مع تقديم ماكس بلانك لفكرته عن الكم والحرارة المشعة. وما تراكم بعدها عبر آينشتاين سنة 1905 حول الفوتون ونسبية مفهوم اللحظة وفقاً لموقع المراقب، وكذلك ارتيابية هايزنبيرغ والتطورات المتلاحقة في المجال الكوانتي، التي أتت بما يمكن تسميتها بالمفاهيم المتضافرة، وليس المجال مخصصا هنا لاستعراضها. لكن يمكن الإحالة إلى العمل البديع لروبرت بلانشه "المعقولية في العلم الحديث" أو أعمال ريخنباخ والفيزيائي ديفيد بوهم الذي أسهب في هذا المجال، حيث لم يعد تصورنا البصري حسيا وحسب، بل ومعدلا بالجانب المعياري أيضا. ولم

يعد المكان والزمان قالبين تقليديين.
بينما يأتي الالتباس الآخر من إحالة مفهوم جمالية المكنة إلى البداية الخاصة بـ "مبولة" دوشامب. تلك التي لا حيلة لي معها، سوى في تكرار أنها لم تكن شيئاً جمالياً وضِعَ في متحف، بل كانت سخطاً وموقفاً من تدهور الذائقة الجمالية آنذاك، والتي كان بإمكانها أن تنظر ـ ولشدّة استلاب التلقي ـ إلى المبولة على أنها عمل فني. لذلك ليست أعمال الـ Ready Made جزءاً من المفهوم الخاص بعلم الجمال المكني. وهي نقطة يطرحها أيضا ريجيس دوبريه في كتابه "حياة وموت الصورة" من دون أن يتوسع فيها بشكل كبير، بل اكتفى بإحالتها إلى فكرة سارتر عن الواقع "سيء النية" ـ وهذه مبالغة من وجهة نظري ـ أي أنها تكون ما ليس هي، وليس هي ما هي. علما أن فكرة سارتر بالأساس تتعلق بمفهوم هيغل عن علاقة الإنسان بحدوده الهوياتية الذي وضعه في القول: "إن الإنسان هو ما ليس ما هو، وهو ما ليس هو" (كاستورياديس: تأسيس المجتمع تخيليا) لجعل تعريف الهوية تعريفا هاربا باستمرار عن محتويات وعاء الهوية. ومحاولة دوبريه إسقاط أو إيجاد خط تعريفي لأعمال الريدي ميد ومفهوم جماليات المكنة، يجعل التعريف مختلطا بما لا يكونه الشيء المعرَّف.
أضف إلى ما تقدم، ظهور تحولات جذرية في العالم السياسي، وهيمنة الأيديولوجيات الشمولية على الفكر وهيمنة منظورها الديماغوجي على الفاعليات الفنية كجزء من هندستها للمجتمع الجديد، حينما كانت كل الأيديولوجيات مأخوذة بابتهالات عبارة "الجديد" في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الغربية وأميركا. لذلك لم تتأخر عودة شعار "موت الفن" الذي استخدمه هيغل في سياق مختلف كليا، وجاءت لدى كل من حركة المستقلين الروسية بقيادة رودشنكو ومالفيتش وتاتلين قبل تفرقهم سنة 1920. وفي حركة الباوهاوس/ دار العمارة الألمانية، والحركة المستقبلية الإيطالية بريادة مارينيتي الذي أشرف على صياغة معظم بيانات الحركة منذ 1909. وقد تطابقت دلالة الموت الجديد للفن لدى هذه الحركات، في عدم فصل الفن عن الإنتاج الاجتماعي، الأمر الذي وافقهم في البداية مالفيتش، قبل أن ينفصل عنهم ويتقدم بمفهوم الحقيقة اللاموضوعية وفصل الدلالة عن الشيء ضمن مجال الحس الخالص. وقد تفاعلت بيانات هذه الحركات المعمارية والأدبية، فأثمرت انعكاسها في المجال البصري. خصوصا مع البلاغة التي كتب بها فرناندو ليجيه كتاباته حول المنطق الجديد لتشكيل الأشياء. وكذلك بدء العمل في مؤسسة الـ آرموري شو بنيويورك 1913 واستقطابها للفنون المعاصرة في صياغاتها الأكثر تطرفاً.
لكن هل يمكن اعتبار مفهوم الجمال المكني مؤسساً من خلال هذه المعطيات دون غيرها؟ سيكون هذا ابتساراً، وذلك لأن إعداد الشكل المكني وإخراجه من جانبه التقني والإعلامي إلى مجال الرؤية الجمالية حدث كحصيلة لتأثيرات متراكمة دون أرجحية. فالحركة المستقبلية تمحورت حول مفهوم السرعة. وقد مثَّلت، وفقا لبول فيريليو، جوهر السرعة، والأثر الذي

أضافته الماكينة في ملاحظة الأشكال وفي حركتها. فحتى عبارات مراينيتي ووصفه للسيارة لا يخرج عن انذهاله بجموح السرعة وتمكن الإنسان من قيادة هذه الدبابة المتوحشة رغم أنه استخدم أيضا عبارة الرونق الهندسي. وبمراجعة بيانات الباوهاوس الألمانية، سيظهر التركيز على المواد التي باتت متاحة لهيكلة العمارة الحديثة بمواد يمكنها أن تعيد توزيع الضوء وموقع النوافذ في الجدار وطبيعة التقوسات. فالأمر حتى معها متعلق بالأثر التقني في المعمار وليس بتناول الماكنات كثيمات جمالية. فمثلما ظهر إيقاع الحركة في اللوحات المستقبلية، جسدت منحوتة "أشكال فريدة من الاستمرارية في الفضاء" 1913 لروبرتو ماتشيني الانحناءات الخطية الممثلة لفكرة التجاوز حيث الكتلة مشغولة في خطوط منحنية، تمثيلاً لفكرة الديمومة والسرعة. ورغم مقاربة هذا العمل بعمل رودان "رجل يمشي" 1907 إلا أنه عمليا لا يخرج عن التصور الذي قدمه رودان حول مفهوم الحركة في العمل الفني، والذي تناول من خلاله فكرة الترتيب المتنافر لأعضاء الجسم من أجل الحركة المفارقة، التي بها تتشكل حركة الأعضاء لجعل الديمومة ممكنة. وهو النص الذي يستعينه مورلبونتي لبحث فكرة الزمن في كل من الصورة الفوتوغرافية والعمل الفني. وخلقت هذه المناخات المقدمة المنطقية لظهور الماكنة كعنصر جمالي في الأعمال الفنية. وكان فرناند ليجيه أول من استخدم عبارة "الجمال المكني" في كتاباته البديعة، بين عامي 1914 – 1928. وقد ظهر من خلال الإنشائية والسوبريماتية الروسية، الأخوان بفنسر وغابو، اللذان قدما منحوتاتهما وفقا لمعادلات فيزيائية ورياضية، وعارضهما مالفيتش بتصوراته عن الحدس الخالص.
ومع ظهور كتاب "التصوير والمكننة" للفرنسي مارك لي بوت في باريس سنة 1973، والذي ترجمه ببراعة حافظ الجمالي/ دمشق 1984، بات لهذا المفهوم هيكل متماسك ونسق معرفي دقيق. فالسياق الذي اعتمده لي بوت، يعود إلى التحولات التي طرأت على مكانة الفنان في النظام الاجتماعي منذ العصر الوسيط الذي صنّفَ الفنانين ضمن فئة العمال المهرة، باستثناء محدد للموسيقيين، بتأثير من فكرة فيثاغورس عن العلاقة بين الرياضيات والموسيقى، ووصولا إلى التحول الكبير في عصر النهضة، وبروز النزعة العقلانية التي قدمت فنانين علماء، كدافنشي وآنجلو وتيتيان ولاحقا كونستابل. إلا أن الخيال الذي قدم تصورات هؤلاء استخدم مبادئ ميكانيكية مجردة، لم تكن لتنفصل عن الجانب الطوباوي للسيطرة على المكان، والذي هو إحدى الوظائف الخاصة بالخيال التشكيلي، كدبابة دافنشي المتهورة وغير القابلة للتطبيق، رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها فرقة تقنية في الجيش البريطاني لتنفيذها قبل سنوات قليلة، إلا أنها فشلت. لذلك لم تكن أعمالهم التي أظهرت تأثيرات ميكانيكية، تمثيلا لبروز الشيء المكني كشيء جمالي، لكنها كانت أحد المؤثرات الحاسمة.
يتناول لي بوت أيضا الكتابات التي قدمها ديدرو لأجل متحف اللوفر، وضمن الفقرات الخاصة بتجميع الحرف اليدوية والآلات، من أجل تقنينها وتحويلها إلى علوم في الموسوعة الفرنسية التي أشرف عليها. وهو يعتمد هذه الورقة لترتيب التمهيد التاريخي الخاص بالموضوع المكني كشيء جمالي. ولذلك يقترح مقولات مفارقة، تمايز بين الفن المعاصر والفن الكلاسيكي، بحيث لا يمكن محاججتهما بالأدوات ذاتها. فيفرق بين الآلة التي يبقى عمل الإنسان جزءا من فاعليتها، وبين المكننة التي تستقل بفاعليتها عن الدور الإنساني، لتنتج تأثيرات غير مرتبطة

بوظيفتها، مستعيداً الوله الذي فرضته المصانع والمكننة على سلوكيات التحسس الفني. وعبر هذه الاستعادة، يضع جانبا الأعمال الفنية التي تناولت المشهد الحديث للحياة الصناعية، من دون أن تنتج معالجات بصرية جديدة لبنية الصورة.
فكما كان الألماني مانزيل صاحب لوحة "المصنع" ملهما لمونيه لرسم لوحة "صهر الفولاذ"، كانت التغيرات الدراماتيكية في عملية الإنتاج الصناعي وإعادة تركيب المجتمع وتنظيم علاقته تتحول، وتلهم الشعراء والرسامين على حد سواء، لاعتماد الوسيط المجتمعي الجديد في السلوكيات الفنية، بدءا ببودلير الذي منحه مفهوم السرعة مفتاحا دلاليا لتعريف الحداثة، أي تخليد الزائل/ العابر، وصولا إلى آبولينير الذي نشر مع قصائده صور الماكنات دون أن تؤدي تلك المؤثرات إلى إنتاج مفهوم مختلف للمنظور.
وهكذا يعتمد لي بوت لوحة "محطة سان لازار 1877" لكلود مونيه، كنقطة مفصلية في ظهور الأثر الحسي للشيء المكني، حيث عالج مونيه دخان القطار باختصارات مشوشة أحدثت خللاً في النظام المنظوري الكلاسيكي في تاريخ الفن. وعبر هذه المادة الأيقونغرافية ظهرت القيم الخاصة بهذا المفهوم. لذلك يفرق لي بوت بين الآلة التي يبقى فعل الإنسان جزءا من فاعليتها، وبين الماكنة التي تستقل وظيفيا وتنتج تأثيراتها الخاصة في المجال المرئي. وهذه التأثيرات هي التي تترسب في الحسية الفنية. وفي المقابل، توجد مجموعة لوحات أخرى قدمها كونستابل بعنوان "توليفات" تناول بها حركة وتحول أشكال الغيوم، ولا تنتمي للمعالجة المنظورية التي كانت سائدة في فنون القرن الثامن عشر. إلا أن موضوعها غير مأخوذ من الماكنات، هذه التي تتوسط المجتمع وتعيد تنظيمه. وأعتقد أنها لهذا السبب لم يعتمدها لي بوت كمؤثر حسي في زعزعة النظام المنظوري.

فلسفة KODO البصرية
لسيارات الكونسيبت أنموذجاً
استغرق نحت هذا الاسم "كودو" في اللغة اليابانية سنة كاملة ليتمكن من تمثيل الفلسفة التصميمية الخاصة بهذه الشركة الغريبة في العالم الصناعي الحديث. فحتى اسم مازدا مشتق من كلمة آهوارا مازدا الزردشتية. وعبارة كودو المؤلفة من ثلاث كلمات تشتغل بطريقة مختلفة؛ هي الحضور النقي، والحركية الحية، والشهوانية، وكلها تجتمع لتؤلف الاسم الذي يعبر عن النبض الذي يبثّ الحياة في الشيء، أي كودو. هذا الانشغال بالاسم، لجعل الهيكل الجمالي للماكينة/ السيارة تعبيرا عن الفكرة الذهنية المجردة، التي تتقاطع عبر هذا المقال مع مقال آخر قدمه ميخائيل شميد بعنوان "سبب الربط"، والذي ترجمه حميد لشهب بدقة. يبدأ شميد مقاله بجملة من قصة لآنغيبور رايخمان تقول "كل شيء يبدأ بالاسم، وبهذا الأخير يبدأ كل شيء"، ليؤسس في سياق المقال الديالكتيك الخاص بالعلاقة بين الرمزي والواقعي، وتأثير اللغة في الجسم، بينما لا تمتلك الماكينة لغة، وإنما تمتلك خطاباً بصرياً يؤسس دلالته عبر الخطوط والبنى الفراغية الفاعلة بها ومعها لتجسيد الجسم الخاص بكتلة الماكينة. ويأتي اسم المجسم الحسي هنا من مصممها الذي يتموقع في مكانة الأب بالمعنى الفرويدي. وهو إذ يضفي على الجسم الواقعي للماكينة اسماً رمزياً، إلا أنه ملموس في القيم الحركية والفراغية المكونة لكتلة المجسم المعدني. وبالرغم من أن اسم كودو هو حصيلة إبتكارية من ثلاثة مفاهيم: النبض،

والحيوية، والليونة، إلا أنه كاسم يتضمنها ويتجاوزها ليؤسس ترميزا لكتلة فراغية مشغولة بنوع من تكثيف الضوء في مساحة مضغوطة نسبياً. ويوفر هذا العمل الفرصة لملامسة حسية بين التصور المجرد والمعادل الحسي له. إنها بذلك ـ أي كودو ـ تأصيل المبادئ المؤسسة للتراث التصميمي لهذا المُنتِج، والتي تجعل من وجود الفكرة محسوسا في المجسم البصري باستقلالية عن الجانب الوظيفي.
ولأن التصميم جاء مرفقاً بنحت خاص يكثف الحركة التي تحملها السيارة، فإن النحت المرافق يمثل الكتلة وقد تحللت إلى طاقة خالصة مضروبة بالسرعة. وهيكلها محزز لدرجة أنها خالية تماما من الخطوط. وهو التجسيد ذاته الذي تحمله السيارة في هيكلها المنحوت وفقا لكشط رقيق لأثر السرعة في الكتلة. لذلك تظهر المنطقة التي تحمل أبواب السيارة إنبعاجا منحنيا يستمر إلى الامتلاء المكور لمؤخرة السيارة. ويتيح هذا الإنبعاج الجانبي للهيكل، عبور الضوء مع حركة جسد المتلقي في حالة سكون السيارة. تتحول حركة المراقب إلى السيارة الساكنة، لتجعل الإحساس بديمومة الحركة ممكناً عبر الضوء الذي يتحول في تفاوت العلاقة بين جسد المتلقي مع النقاط المحورية المتغيرة في الهيكل المنبعج، دون وجود خطوط تحدّها. قد يقول قائل إن الضوء أيضا خط، وهو خط كفعل وليس كجوهر. لذلك تستمر حركته في حزمة طيفية متحولة تبعا لحركة المراقب على جانبي هيكل السيارة دون أن تعود إلى نفس النقطة خلافا لمبدأ اللامتناهي. فهذا تصور آخر كلياً. الفكرة هنا هي العبور المستمر.
فتنويع مسارات تحول كتلة السيارة يرتبط أساسا بحركة المراقب. لذلك يتناوب الضوء على البدن المعدني في انعكاسات شعاعية متحركة، تضفي، تبث الحركة في السكون. وهذه هي الديمومة الأقرب إلى تصور رودان عن الحركة في الجسم، بناء على تنافر وضع العناصر. وهي الهيكل الجمالي الأكثر تمثيلا لجماليات المكنة التي يعتمدها هذا المقال بتجرد كلي عن كل عامل تقني آخر.