Print
بوعلام رمضاني

أسبوع ثقافي في بيروت العنقاء

19 أكتوبر 2019
أمكنة

رغم أن معظم اللبنانيين يجمعون على أن بيروت لم تعد بيروت سويسرا العرب وبيروت الحرية والنشر والإبداع بمختلف أوجهه، إلا أن العاصمة اللبنانية تبقى في جوهرها وفي لبها وروحها شيئا لا نجده في بقعة عربية أخرى، لأن الحضارة التي عرفتها منذ الكنعانيين والفينيقيين مرورا بالحضارات الأخرى وبالحروب بين الإخوة الإعداء وبين إسرائيل ووصولا إلى السلام الحالي الهش ليست ككل الحضارات الأخرى، وإذا كانت بيروت قد منيت بهزائم شتى على أصعدة أخرى، فإن عبق تاريخها لم يتغير وما زال يفوح في كل أرجائها بالسلام المطلوب الذي عاد قبل فترة قصيرة بعدما عرفت نزيفا جديدا ما زالت آثاره بادية للعيان.
بيروت العنقاء خرجت مجددا من الرماد، وزيارة قصيرة العمر تكفي للوقوف على أديم أرضها التي ما زالت تتنفس الثقافة رغم التراجع الكبير الملاحظ مقارنة بماضيها التليد الذي عشته في عز المراهقة عبر مخيلة رمت بي مبكرا في أحضان شعرائها وفنانيها وإعلامييها الكبار.


مكتبة علياء

كانت مكتبة علياء الواقعة في الحي الأرمني القريب من الأشرفية الموعد الثقافي الأول الذي مكنني من قضاء حوالي ساعة رفقة عادل ابن أخي الطالب في العلوم السياسية ببيروت محاطا برفوف الكتب العربية والفرنسية والإنكليزية التي تقرأ على إيقاع الموسيقى وتحت إضاءة خافتة تزيدها الشموع رومانسية تفرض عنوة على قراء متيمين بالقراءة والكتابة وبالنقاش الحر والهادئ في جو فني بديع. الحي الأرمني يحيل زائر بيروت إلى الحي اللاتيني الباريسي، وفيه تتجول متمتعا بمقاهيه الحميمية والساحرة بأجوائها الفنية وباللوحات التشكيلية المعلقة على جدران أروقة صغيرة مصممة ببساطة متناهية، ويحدث أن يقع نظر الزائر الفضولي والباحث عن الخصوصية على إبداع فني لا يخطر ببال العادي من الناس، وهذا ما حدث مع كاتب هذه السطور قبل وصوله لمكتبة علياء ببعض الأمتار حينما وجد نفسه قبالة نصف سيارة من نوع "سيمكا 60" والتي تحول نصفها الأمامي إلى أريكة جلدية من النوع الراقي. في مكتبة علياء، يناقش زوارها أسبوعيا كتابا يتم الإجماع عليه، كما يجتمعون للتمتع بموسيقى الجاز التي يبدو أنها إحدى سماتها الفنية، وللتمتع بأجواء مكتبة علياء يجب أن لا تكون فقيراً. الحي الأرمني الواقع في بيروت الشرقية وتحديدا في جميزة  يقودك وأنـت تغادره إلى أزقة ضيقة تعج ببنايات قديمة وجديدة في الوقت نفسه تعيد الزائر الجزائري إلى حي حيدرة المخملي الذي يسكنه كبار القوم من الحكام المدنيين والعسكريين والخالي من الروح الفنية خلافاً للحي الأرمني، وإضافة إلى عبق التاريخ  تقتحم رائحة الياسمين أنف المتجول وتكتمل متعته التواقة إلى السكينة والأسر الأبدي لكل ما هو جميل لحظة الاستراحة في بهو فندق ينطق بصمت متعلم فضل هذا المكان ليقرأ تحت نور القمر والإنارة الخافتة مرتديا سروالا قصيرا في ليلة خريفية وبدردشات جانبية لا تقلق القارئ الغارق في بحر لحظة حضارية يعلم وحده والله مدى عمقها.



فاديا أحمد في بناية قناصي الحرب الأهلية

شاء القدر أن أقيم في بيروت بفندق برج الصنوبر المطل على خط التماس الذي خلد الحرب الأهلية اللبنانية المأساوية، وهو الخط الذي يمثل  شارع الاستقلال اليوم ومتحف بيت بيروت الذي تحول إلى مركز ثقافي بعد أن كان مكانا مثاليا للقناصين أثناء الحرب، كما حكت لي المصورة فاديا أحمد التي قضت طفولتها في أليكانت الإسبانية قبل أن تقيم نهائيا مع والديها في بيروت التي تخلدها اليوم  في معرض صور بديع بكل المعايير. ومتحف بيت بيروت ليس البناية الوحيدة التي تؤرخ لحرب الإخوة الأعداء، وبناية صحيفة "النهار" الشهيرة بقيت هي الأخرى شاهدة على الحرب الأهلية الطاحنة، ويمكن للجالس في مقهى "مات" بحي أسواق بيروت أن يتأمل البناية المنحوتة بآثار الرصاص متحسرا على حرب أسدلت ستار الدماء والدمار والدموع لكنها لم تسدل ستار المذهبية التي ما زالت معششة في العقول والقلوب.  ما يلفت انتباه المارة في متحف بيت بيروت وهم يعبرون الطريق من شارع محمد الحوت الذي يقع فيه مسجد الخليفة عثمان بن عفان، تحول بنايته إلى مجرد هيكل إسمنتي جرده القصف الجنوني من مظهره المعماري الأول، وتزداد آثار الحرب وضوحا وتجليا في داخل البناية التي رممت لكي تصبح مركزا ثقافيا حافظ مسؤولوه على الكتابات الغرافيتية للقناصين الذين عبر بعضهم عن حقهم في الشذوذ الجنسي وفي الإلحاد كما بينت ذلك جملة القناص جيلبير. رفقة المصورة فاديا الفرانكفونية المسلمة المنفتحة على الآخر المختلف بحكم التربية التي تلقتها من والدين يؤمنان بقيم التسامح والتعايش في ظل الاختلاف الديني والفكري على حد قولها، وقفت عند صورها التي تراوحت بين نزعتي الروح التشكيلية التي أرخت للبيوت البيروتية والثانية التسجيلية التي نطقت بحس عالي التعبير والدقة عن رهافة وشفافية التعبير والتأويل كما عكسته صورة فوضى وتعقد وتشابك الوضع اللبناني من خلال كوابل كهربائية صاعقة تحت سماء ملبدة بالغيوم لا تليق ببيروت الأنوار الضاربة في تاريخها الجغرافي والفكري والفني والتي تحولت إلى ديجور فوت الضوء على الجميع.
يقف الزئر لمعرض السيدة فاديا الذي انطلق في التاسع عشر من الشهر الماضي والمستمر حتى غاية العشرين من الشهر الجاري عند صور الصيادين البيروتيين الذين يعودون لصدارة الحدث الثقافي هذه الأيام في بيروت بقوة لافتة من خلال المعرض الذي يحتضنه كورنيش بيروت في الهواء، وهو الكورنيش الذي أعادت الفنانة المصورة فاديا قراءته من منظور سيكولوجي وسوسيولوجي وسميولوجي شامل يعبر بعمق عن المعاني التي يمثلها الصياد وهو معزول عن مجتمع بأكمله قبالة بحر يعد خلاصه في كل الفصول والأوقات وأفقه غير المحدود ويخاطبه بلغة لا يعرف أسرارها وألغازها إلا هو، ولعل معاني التأمل والصبر والمثابرة والأمل والسعادة ولو باصطياد سمكة واحدة أحد معاني معجم لغة مفتوحة على عشرات التأويلات والتعابير. بيروت فاديا وكما كان منتظرا هي بيروت دمار الذاكرة الفردية والجمعية رغم خطب ورمزية مساجد وكنائس السلام والتعايش وليس الحرب والحرق، وصور الدمار الذي طال البناية التي تعرض فيها هي نفسها صور بنايات أخرى التقطتها عدستها بروح بناءة وإيجابية ومتفائلة كما بينت ذلك صورة البناية التي شوهت بفعل القصف ورممت بشكل فني يعكس حسا تشكيليا متقدما. سعدت أكثر من أي وقت مضى وأنا أتجول رفقة السيدة فاديا، حينما وقع نظري على صورة تختصر لبنان التعايش الديني الذي تناساه سادة المصالح غير الدينية، ومثلت الصورة منارة مسجد محمد الأمين وصليب كنيسة القديس جورج في حلة تشكيلية تتجاوز المعنى الوجودي والفني للصورة لتعانق الأفق الميتافيزيقي الذي تعكسه غيوم تشكل لوحة طبيعية وربانية في الوقت نفسه الأمر الذي يفرض التعايش العقائدي في بلد يرزح تحت نير أكثر من مذهب. لأن تجاور مسجد محمد الأمين وكنيسة القديس جورج والتصاقهما كتوأمين يفرض على السائح وعلى العابر أمامهما وقفة حتمية... كان لزاما على كاتب هذه السطور أن يؤرخ مثل الفنانة المصورة فاديا لرمزية تختزل بيروت وهذا ما فعل عند التقاطه صورة تاريخية شهد عليها سكون الليل ونور القمر في ليلة حالمة.

 

شربل، جوزيف وسامي وشجون مشتركة 

دليل خروج بيروت من الرماد، أكدته لقاءاتي مع الباحث والناقد الفني والأدبي والجمالي شربل داغر، والدكتور الإعلامي المعروف سامي كليب، وجوزيف بوعقل صاحب دار نشر الفارابي. بغض النظر عن اعتبارات سياسية تفرضها علينا أمتنا المهزومة والمشتتة رغم ادعاء بعضها الانتصار، يمكن القول إن لقاءاتي مع هؤلاء بعد انقطاع دام حوالي ربع قرن تشكل وحدها وحدة عربية تفرض نفسها علينا أكثر من أي وقت مضى قوامها ثقافة إنسانية تتجاوز الانتماءات بمختلف أنواعها الضيقة التي نتشبث بها باسم الموقف الأيديولوجي على حساب التلاقح الفكري البناء والمثمر الذي لا يتحقق دون التحاور بالكلمة بكل أنواعها وليس بالرشاش والدبابة كما يفعل قادتنا دون استثناء. حول هذا المبدأ وعلى أساسه كانت لقاءاتي مع شربل وسامي وجوزيف، وكانت البداية في حي ساسين بمقهى ستارباك مع شربل الذي ترك باريس عام 1994 ليعود مثل سامي والآلاف من اللبنانيين لبناء لبنان العنقاء بعد أن شردتهم حرب الإخوة الأعداء كما شردت العشرية السوداء كاتب هذه السطور. مع شربل الذي حاورته "ضفة ثالثة" مؤخرا حول كتبه التي قاربت السبعين، تحدثنا عن الجزائر التي تشغل بال أحرار العالم وتقض مضاجع القادة العرب والغربيين على السواء، وحول تقهقر فرنسا السياسي والثقافي واقتصار حضورها الفكري الداخلي على كتاب أصبحوا يقضون حياتهم في استديوهات تلفزيونية لتمرير رسالتهم الأزلية والأبدية الوحيدة ألا وهي الدفاع عن إسرائيل بأظافرهم ومناقرهم والتنديد بالمهاجرين وبالمسلمين الذين يهددون صفاء العرق الأوروبي ويزرعون الرعب فقط على مدار الساعات والأيام والفصول. شربل مثل سامي ربط علاقات حميمية خاصة مع الجزائر من خلال شخصيات أدبية وفكرية كثيرة، والأول كان طالبا عند المفكر الراحل محمد أركون وربط معه علاقة حميمية إثر تخرجه من جامعة السوربون أما سامي فقد زرع اسمه في دنيا الإعلام العربي بشكل استثنائي وكانت له صداقات كبيرة وقوية مع كتاب وصحافيين جزائريين كثر مثل شربل، وهو يستعد مبتهجا للمشاركة في صالون كتاب الجزائر كما يستعد طفل في عمر الزهور للاحتفال بعيد الأضحى خلافا لشربل الذي عبر عن أسفه لعدم تمكنه من التنقل إلى الجزائر بسبب ارتباطات هامة مسجلة منذ مدة في رزنامة هاتفه الجوال. الشجون السياسية والفكرية المشتركة، كانت أيضا موضوع دردشاتنا حول أشهر الأكلات اللبنانية التي طلبها سامي خصيصاً لضيوفه الدكتورة والكاتبة الأردنية فدوى نصيرات والشاعر اللبناني والباحث في الشؤون التركية محمد نو الدين والإعلامي العراقي أمين ناصر. خلافا للقائي مع شربل الذي كان جادا في عمومه بحكم سيطرة الوضع السياسي الجزائري على النقاش، أقحم سامي الدعابة في جلستنا بعد ان قرأ علينا بيتا من شعره العذري الأمر الذي أثار إعجاب الشاعر نور الدين المؤهل أكثر من كل الضيوف لإبداء رأي نقدي موضوعي، وأدت أشعار سامي العاطفية إلى فتح نقاش خفيف حول تعامل الرجل العربي مع المرأة الأمر الذي أدى إلى تسابق محموم حول تنكيت تراجيكوميدي. اللقاء الذي تم في مطعم ليلى بالمجمع التجاري "أ بي سي فردان"، لم يكن في واقع الأمر من أجل الأكل ما دام قد تحول إلى ندوة مرتجلة طغى عليها الهم السياسي المشترك انطلاقا من لبنان وسورية مرورا بالجزائر ووصولا إلى العراق التي انتفضت مثلها مثل الجزائر وتونس واليمن ومصر. مع تزايد وتيرة النقاش الفكري، لم يعد بالإمكان التمتع بالأكل اللبناني اللذيذ بعد أن انتقل الضيوف من مناقشة ملفي الصراع في سورية والجزائر إلى ملف العراق، وهكذا غيرت النجومية معسكرها بعد أن التحق بنا الإعلامي أمين ناصر، وحتى لا يفسد جو اللقاء وتموت الشهية اضطر كل الضيوف إلى لعب دور "الجنتلمان" بمهارة وبعفوية لافتتين. رغم تناول أمين ناصر الكلمة في الأخير، يمكن القول إن سامي قد سيطر على النقاش وخاصة بعد أن اضطر لشرح موقفه بإسهاب من الصراع في سورية ردا على سؤال الشاعر محمد نور الدين الذي أهدانا بدوره إصداراته الأخيرة، ولم أعد إلى الفندق يومها سعيدا بكتب الشاعر نور الدين فحسب، بل وأيضاً تعمقت معرفتي الفكرية والأدبية بكتب الإعلامي سامي. هكذا أسدل الستار على رحلتي الأسبوعية لبيروت، والتي كانت أكثر من مفيدة كما ترون بغض النظر عن هوامش اتفاقنا او اختلافنا مع كل الذين التقيتهم حيال بعض الإشكاليات السياسية والفنية والأدبية المعقدة أو البسيطة.
ولن أختم يومياتي في بيروت العنقاء دون العودة إلى سهرتي الفكرية والفنية الحالمة في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية.


بناء وتدمير المعالم الأثرية

ندخل معهد بيروت للشرق أو المعهد الألماني للدراسات الشرقية الواقع في حي زقاق البلاط الهادئ كما ندخل قلعة أثرية تفرض التأمل والتساؤل والإعجاب لما تنطق به من تاريخ حضاري، ودخول القلعة القصر لحضور نشاط ثقافي  ليلا يزيد المكان سحرا ورونقا  لحظة عبور الحديقة الأندلسية الغناء التي تتوسطها نافورة يلتف حولها الجمهور لتعميق النقاش المحاضرات أو الندوات أو المعارض أو الأفلام وللتعارف كما حدث لكاتب هذه السطور وهو ينتظر دوره في طابور مأدبة عشاء بيروتي تمت على مرأى أضواء حالمة وقمر حنون، ولولا الطابور لما تبين أن البروفيسور كلوس بيتر هاس، مدير متحف الفن الإسلامي في برلين، من المعجبين بالمفكر الجزائري الراحل الكبير محمد أركون.
يعد معهد بيروت للشرق الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى عام 1961 واحدا من المعاهد العشرة للعلوم الإنسانية المتواجدة في الخارج والذي أصبح تابعا لمؤسسة ماكس فيبر منذ 2003، وتعتبر مكتبته الضخمة التي حضرنا فيها ندوة المعالم الأثرية التي دمرتها الحروب روح المعهد بحكم استقبالها منذ عام 1963 الباحثين والمستشرقين من كل دول العالم والطلاب الدارسين في العلوم المتعلقة بالشرق الأوسط والدول العربية بشكل أساسي. تضم المكتبة أكثر من 130 ألف مجلد تشمل موضوعات متعددة منها الأديان ومعظمها يدور حول الدراسات الشرقية والعلوم الاجتماعية والسياسية وعلوم المرأة والمجتمع والتاريخ والجغرافيا والآداب والرحلات وعلوم أخرى كالطب والهندسة، كما تضم المكتبة الصحف والمجلات والخرائط، وتبلغ نسبة الكتب باللغة العربية 60 في المئة، و40 بالمئة باللغات الألمانية والإنكليزية والفرنسية، أما الكتب المعروضة باللغتين الفارسية والتركية فهي قليلة ولم تحدد منشورات المعهد نسبتها في المطوية الإشهارية. بفضل عادل ابن أخي الطالب الذي يدرس العلوم السياسية في بيروت التي فضلها لتعلم اللغة العربية عن القاهرة وتونس والرباط وعمان، كنا من الأوائل الذين دخلوا يوم الفاتح من أكتوبر/تشرين الأول مكتبة معهد الشرق للاستفادة من ندوة تدمير وإعادة بناء المعالم الأثرية التي راحت ضحية الحروب في لبنان وسورية والعراق، ولم تسع قاعة الندوة للجمهور الكبير الذي اختلطت من خلاله الوجوه الألمانية البيضاء والعربية السمراء الأمر الذي  دفع  بمسؤولي المعهد إلى الاستعانة بشاشة مكنتنا من متابعة المحاضرة محاطين برفوف مكتبته الضخمة. انطلقت الندوة التي نظمت بالتعاون مع الجامعة الأميركية ومركز الفنون والعلوم الإنسانية وجمعية الشبان الألمان والعرب، بمداخلة الكاتب والفنان التشكيلي العراقي عابد القادري الذي عزز مداخلته بصور ولوحات عكست فداحة التدمير الذي طال معالم تدمر الأثرية ومعالم عراقية شهيرة وكانت مداخلته مناسبة لعرض أعماله التي جسدت التعذيب الوحشي الذي سلط على المساجين. الفنان والمصمم ألفريد طرازي جمع هو الآخر بين الشرح الوافي للآثار التي دمرتها الحروب في لبنان وسورية والعراق وبين فن الغرافيك الذي مكنه من توظيف ما أسماه بـ"أركيولوجيا الحاضر" أو علم آثار الحاضر، واستطاع مثل الفنان التشكيلي القادري أن يشد الحضور بصور ناطقة بحجم الدمار الذي طال الذاكرة الثقافية الجماعية. وتنوعت الندوة وأخذت طابعا أدبيا وروائيا تحديدا بمداخلة الروائية اللبنانية هدى بركات التي لم تتمكن من التحدث باللغة الإنكليزية التي عادة ما تستعمل في مثل هكذا لقاءات يحضرها جمهور أجنبي يجيد لغة شكسبير وليس لغة سيبويه وموليير، وكما كان منتظرا كانت مداخلتها هامة ومؤثرة في بيروت التي دفعت ثمن حرب الإخوة الإعداء بسقوط مئتي ألف قتيل و17 ألف مفقود و400 ألف جريح.
بيروت التي يقال إنها تقهقرت ثقافيا ما زالت تقاوم بأمثال الناشر جوزيف بوعقل صاحب دار الفارابي الذي عبر في لقاء قصير معنا عن حزنه لتراجع القراءة في لبنان أيضا وخاصة في أوساط الشبان الذين أصبحوا ينظرون في هواتفهم النقالة حتى لحظة تحدثهم إلى أقرب الناس إليهم ويكتبون بلغة ركيكة رسائل تقتل اللغة العربية. هناك دور أخرى ما زالت تنشط في بيروت العنقاء وللأسف ضيق الوقت لم يسمح لنا بزيارة دور نشر أخرى محترمة مثل رياض الريس والآداب والطليعة.

بيروت لم تعد بيروت سويسرا العرب وبيروت الحرية والنشر والإبداع بمختلف أوجهه