Print
فريد الزاهي

هل السحر مخْصوص بالمغاربة؟

27 سبتمبر 2018
إناسة
 

لا يزال الأمر الشائع لحدّ اليوم أن السحر أمر مخصوص بالمغاربة، منذ ألف ليلة وليلة وترجماتها الفرنسية والإنجليزية، خاصة من خلال حكاية الدرويش المغربي الذي يجسد الشخصية المثالية للساحر القادر على خرق الطبيعة والأوفاق، وتحقيق الأشياء الخيالية التي تتجاوز الطبيعة والعقل. ولا أدل على ذلك من أنني في رحلاتي المشرقية كما في قراءاتي أدركت أن المشارقة لديهم اقتناع إسمنتي بأن الزواج بمغربية يعني الزواج بساحرة (هذا إن لم تكن عاهراً أو مومساً). وقد صارت هذه التصورات المتخيلة، التي يحملها العرب عن بعضهم البعض منذ قرون تليدة، تصعد للسطح وتجد تجسيدا لها في القنوات التلفزيونية أو في مواقع التواصل الاجتماعي، مما يخلق أحيانا مشكلات عويصة في التواصل. فلقد ظل المغرب حتى حدود مطالع القرن الماضي مجهول العالم العربي، نظرا لانغلاقه الناجم أساسا عن انفلاته من الهيمنة العثمانية. بيد أن المشارقة الذين استقروا بالمغرب منذ مطالع القرن الماضي، وخاصة منهم الأساتذة والأساتذة الجامعيون الذين درّسوا بالمغرب (سامي النشار، عبد الرحمن بدوي، فؤاد كامل وغيرهم) سوف يساهمون في تصحيح هذا التصور الذي، إضافة إلى ذلك الحكم المسبق بأن المغاربة سحرة، يعتبرهم بربرا ومُفرنسين، ولا يتقنون اللغة العربية، وغيرها من الأحكام المسبقة التي ليس هنا مجال تعدادها... وكان أن عثرتُ منذ سنوات على حكم في الأمر، لا هو شرقي ولا هو مغربي، يعود لدراسة أنثربولوجية لها أكثر من مائة سنة...

 

كتاب دوطي عن السحر يعيد الحقيقة للواجهة

بدأت قراءاتي لإدمون دوطي من وقت مبكر. فقد انجذبت لهذا العالم السوسيولوجي والأنثربولوجي، الذي كان بشكل ما تلميذا لدوركهايم ومارسيل ماوس، وهما اللذان منحا للأنثربولوجيا الدينية وأنثربولوجيا الجسد موقعا في المعرفة، وبشكل مبكر، في وقت كانت فيه النزعة الوضعية تضرب أطنابها بوهم العلمية والموضوعية. كان الرجل أستاذا في الجزائر للحضارة العربية التي كان يتقن لغتها منذ نهاية القرن التاسع عشر. وبالرغم من أن رحلاته للمغرب جاءت في إطار كولونيالي إلا أنه ظل مميزا كثيرا عن سابقيه، وخاصة أستاذه غوسطاف مولييراس الذي كان يقوم بالرحلات إلى المغرب من غير ترحال، اعتمادا على مخبرين أكثر من اعتماده على المعاينة المباشرة. بيد أن منهج مولييراس بالرغم من قابليته للنقاش، لا في كتاب المغرب المجهول فقط (الذي ترجمه للعربية صديقي عز الدين الخطابي)، ولكن بالأخص في كتابه عن قبيلة زكارة التي اعتبرها المؤلف مسيحية وهي لم تكن كذلك. 

يجمع إدمون دوطي بين الرحلة على طريقة أستاذه مولييراس والقسّ الفرنسي الأب دو فوكو، وبين الكتابة السوسيولوجية والأنثربولوجية. وحين قررتُ ترجمة كتابه عن السحر والدين، لم أجد من الكتابات العربية عن السحر في العالم العربي سوى النصوص النظرية والتطبيقية القديمة (التي يعتمد عليها كتاب دوطي)، وكتابات محمد أسليم الأنثربولوجية. فلقد ظل السحر مكبوت البحث الأنثربولوجي والسوسيولوجي عموما. والحال أن دوطي قد فتح الباب لهذا الضرب من الدراسات، منذ 1909 (تاريخ صدور الكتاب). لكن يبدو أنه فتحه وأغلقه في الآن نفسه.

فهو قد فتحه، لأنه بحسه النقدي والأنثربولوجي اهتم (على شاكلة معاصره الأنجلوساكسوني ويسترمارك) بقضايا هامشية، رغم أنها فاعلة ومستشرية في جسم المجتمع المغربي كالجن والعفاريت والسحر والكرامات وغيرها. وهو قد دشن بذلك توجها أنثربولوجيا مهما صار تقليدا، بحيث إن الأنثربولوجيا المغاربية لا تحيد إلا نادرا عن قضايا من قبيل هذه، بحيث تغض الطرف عن قضايا فردية تتطلب مقاربة أنثربولوجية كالألم والموت والرياضة وغيرها.

وهو أغلقه لأن دراسته كانت شافية لغليل المتطلع إلى معرفة قضايا السحر. فقد جاء كتابه عبارة عن موسوعة يصعب أن نضيف إليها اليوم شيئا إلا إذا توجهنا لدراسة مجال الممارسات والتحولات في الشعائر والمعتقدات السحرية. فهذا الباحث أحاط بالمرجعيات القديمة وبطرائق السحر وقواعده وحللها أنثربولوجيا، اعتمادا على المرجعيات المتوفرة لديه آنذاك كما على الوثائق والمعاينة، ولم يترك جيبا من جيوب المسألة إلا لمسه وناقشه وحلَّله.

كان السؤال الذي طرحتْه عليَّ هذه الترجمة هو: كيف نعتبر كتابات مثل هذه كولونيالية وهي كشفت عن مجال لا يمكن أن نضبطه وندرك إلا من خلال دراسات من قبيل هذه؟ أليست السوسيولوجيا والأنثربولوجيا عموما في خدمة المعرفة بوصفها سلطة، وبوصفها لا يمكن أن تكون إلا في خدمة السلطة؟


كتاب استثنائي وعابر للزمن

كتبت المتخصصة الفرنسية في الإسلام، لوسيت فالنسي، عن كتاب الدين والسحر في شمال أفريقيا: "إن عمله قاوم بشكل لافت مرور الزمن، وما زلنا نعود إليه للاستفادة". والحقيقة أن هذا الميْسم المدهش، يجعلنا من جهة نحترم العمل التركيبي المتعدد لهذا الباحث، متناسين تحامله مرة مرة على الإسلام (الأمر الذي يبدو ذاتيا وذا طابع إيديولوجي واضح)، ومن جهة ثانية طابعه الموضوعي والموسوعي. وحين وصف جاك بيرك هذا المصنَّف بأنه "كتاب عظيم"، واعتبره "بحثا أوليا، ومن أهم ما كتب إلى اليوم في هذا المجال في المغرب الكبير"، كان يعرف الصعوبات العملية والموضوعية للبحث في أمور شائكة من قبيل هذه، والتي خبرها بنفسه حين إقامته بالمغرب ودراساته العميقة للبنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير. لهذا ألفيناه يصوغ بورتريها رائعا لصاحبه بقوله: "إنه ملاحظ نافذ، ورحالة نبيه، وباحث متفطن لتصحيح المعرفة عبر الخيال، وجدت فيه الإثنولوجيا الإنجليزية والسوسيولوجيا الفرنسية نعْم المطبّق". وما جعل بيرك يكيل المديح لإدمون دوطي هو أن الأعمال التي أنجزت قبله، من مثل أعمال إدوار ويسترمارك وهنري باسي وإيميل لاووست عن المغرب، لا تضاهي عمله لا من حيث طريقة وكثافة جمع المعلومات، ولا من حيث طريقة العرض والتحليل، وهما الأمران اللذان لم يتحققا إلا مع هذا "الكتاب العظيم" لدوطي. 

 لقد كانت الرحْلات الستّ للمغرب التي قام بها إدمون دوطي كافية لجمع المادة العلمية للخوض باقتدار في تحرير كتاب السحر والدين في شمال أفريقيا. وقد وصفته لوسيت فالنسي بأنه "عالم موسوعي (...) لامس الأنثروبولوجيا الطبيعية، وعلم المعادن، وعلم اللهجات، والسوسيولوجيا. إنه عصامي وموسوعي، ويتمتع بموهبة كبيرة". وهو ما أهّله بشكل واضح للتنطع لموضوع مركب ينتمي للمتخيل وللممارسة الاجتماعية في الآن نفسه.


السحر ليس مغربياً، لأن أصوله مشرقية

لا مراء في أن هذا الكتاب دائرة معارف عن السحر في علاقته الوطيدة بالدين كما في تميزه أيضا. وحين نقرؤه قرنا بعد إنجازه، نحس بطراوته. إنه يجيب بشكل عجيب عن أسئلة عابرة للزمن. وهو إن كان يختص جغرافيا بشمال أفريقيا، فإن مرجعياته تشمل العالم الإسلامي برمته. ولا أدل على ذلك من أنه يفند بالملموس تصورا مغلوطا لا يزال المغاربة ضحيته إلى اليوم منذ أن صاغت حكايات ألف ليلة وليلة أنموذج الإنسان المغربي باعتباره ساحرا... فإذا كانت الوثائق التي اعتمدها إدمون دوطي من الرقيات والحروز والتمائم قد استقاها من المغرب الكبير، فإن المؤلفات التي يعتمدها كلها أو أغلبها مشرقية، ولعل أشهرها كتاب السيوطي. مما يدل دلالة قاطعة على أن المصادر "النظرية" للسحر في شمال أفريقيا كانت (ولا تزال) مشرقية، وأن المغاربة قد يكونوا حافظوا عليها بسبب انغلاق بلدانهم كما بسبب تأخر دخول الحداثة إليها.

كتب دوطي بهذا الصدد مفسرا هذا الأمر: "يكون السحرة عموماً أجانب غرباء؛ فلدى الإغريق كانوا ينحدرون كلهم من منطقة ثيساليا وإتروريا؛ ولدى المسلمين في المشرق، إن لم يكن الساحر لا يهوديا ولا نصرانيا فهو من بلاد المغرب. ففي ألف ليلة وليلة، يأتي السحرة دائما من بلاد المغرب. وفي قلب الإسلام، أي في مكة، كان الساحر عموما مغربيا. لكن من الطبيعي أن يكون السحرة في بلدان المغرب كلهم مشارقة. ويعتبر المؤلفون المغاربة لكتب السحر نفسهم تلامذة للمشارقة. فقد كتب ابن الحجاج قائلا: "اعلم أيها الواقف على كتابي أن هذه الدعوة المباركة المستجابة كنت أطلبها نحو عشر سنين وأنا أسأل عنها وأرغب فيها غاية، فبحثت عنها فوجدتها عند رجل من أهل العراق ببغداد، وكان بها خوارق العادات"، وهو ما يدل عليه المثل السائر: "لا أحد نبي في بني قومه". إن هذه "الحقيقة التي يسهو عنها الدارسون لو تدوولت، فإنها ستخفف من الرأي المسبق الذي يجعل من المغاربة سحرة، وهم فقط وارثون لهذا الضرب من المعرفة، من مصادر مشرقية، تبنوها كما تبنوا الإسلام الآتي لهم من المشرق، والمالكية واللغة العربية فأبدعوا في كل ذلك على طريقتهم!

يرتبط السحر إذن بالغريب، كما يرتبط الحكيم (الطبيب) بالوافد. الغريب دائم حامل لسره الذي يستطيع به حل مشكلات أهل البلد. إنه ضرب من الضيافة التي كانت تضفي على الغريب الصفات التي تنقص أبناء البلد. الساحر إذن كما الغريب، يحمل معه دائما الحلول السحرية لمعضلات ابن البلد.