Print
بوعلام رمضاني

"ملحمة قناة السويس":رمزية تاريخية وحضارية رغم الإيديولوجيا

4 مايو 2018
أمكنة

كما كان منتظرا، يشهد معرض "ملحمة قناة السويس" إقبالا في مستوى آمال جاك لانغ، رئيس معهد العالم العربي بباريس، الذي عرف كيف يحول معرضا جديدا إلى حدث ثقافي يحمل رمزية تاريخية وحضارية وسياسية شاملة يختلف حولها الزوار إيديولوجيا ويتفقون على قوة وأصالة وخصوصية مقاربتها فنيا وتقنيا وجماليا.

المعرض، المستمر حتى الخامس من أغسطس/ آب، سيمكن كافة أنواع الزوار من التمتع والانتشاء بصريا وسمعيا وروحيا حتى الثمالة بأجواء ساحرة تعكس مقاربة قوية بدقتها العلمية العامة والبيداغوجية الخاصة. إنها المقاربة التي "تجبر" الزائر "الثوري"، المناهض للبطش غير الإنساني المرادف لتاريخ ما سمي بملحمة قناة السويس، على إسقاط العامل الإيديولوجي ولو إلى حين وعلى مضض أثناء تجوله عبر مختلف أروقة المعرض ـ الحدث الذي سخرت له إمكانات هائلة وظفت في الوقت المناسب لتحقيق هدف سياسي غير مباشر يضرب في صلب الدبلوماسية الثقافية، ولعل خدمة السيسي المستفيد الأول والأخير من حيث يدري أو لا يدري لانغ خير دليل، وفرنسا التي باعت مؤخرا السلاح للقاهرة بشكل غير مسبوق هي أيضا فرنسا التي أصبحت قوة ثقافية مؤثرة في أكثر من بلد عربي برعاية ودعم مؤسسات تجارية وصناعية غير محايدة سياسيا.

فكرة فرعونية 

دليل صحة استفادة السيسي من المعرض جاء في كلمة افتتاح جاك لانغ للمعرض، والتي سرد فيها سياق بروز فكرته الفرعونية حينما حل ضيفا جالسا خلف القاهر المصري الجديد الذي فاز مؤخرا بنسبة 97% في بلد سجن الإخوان المسلمين باسم محاربة الإرهاب وغيرهم من المعارضين غير الإسلاميين، وذلك بمناسبة افتتاح القناة الجديدة الموازية لقناة السويس من الجهة الشرقية، يوم الخامس من أغسطس 2015، وهو نفسه اليوم الذي سيسدل فيه الستار على معرض باريس الاستثنائي الثقافي بعد أربعة أشهر.

ويجدر الذكر أن وهج المعرض سوف ينتقل إلى متحف مارسيليا بين 17 أكتوبر/ تشرين الأول و31 مارس/ آذار 2019، قبل أن يحط رحاله في المتحف القومي للحضارة بالقاهرة، بمناسبة الذكرى المئة والخمسين لافتتاح القناة، وسينتهي مسار المعرض بالإسماعيلية في شكل متحف يحمل اسم قناة السويس نفسها.

قال لانغ متحدثا عن تاريخ فكرة تنظيم المعرض: "تبادرت إلى ذهني وأنا أحضر الحفل فكرة ندرة البلدان التي استطاعت مثل مصر أن تدهش العالم على مر الزمان بضخامة إنجازاتها العملاقة حتى أصبحت صفة فرعوني تطلق على كل ما هو ضخم يفوق المقاييس العادية. قلت لنفسي ساعتها إن الأمر سيكون رائعا في حال تصورنا تظاهرة ثقافية تمثل هذه الاستمرارية لأقدم دولة في العالم، وتجسدت الفكرة أمام عيني القناة ذاتها التي بدأها سنوسرت الثالث ثمانية عشر قرنا قبل الميلاد لكي يربط بين البحر المتوسط والبحر الأحمر وبين الشرق والغرب مرورا بالنيل".

وباسم تجاوز خلافات الماضي (كما قال ماكرون أثناء زيارته للجزائر التي تشبه مصر بانقلابها على الشرعية وتختلف عنها بقبولها الإخوان المسلمين وعدم اتهامهم بالإرهاب)، أضاف لانغ يقول: "لا يسعى معرضنا لتقديم الرواية الفرنسية لتاريخ القناة بل الرواية الفرنسية المصرية المشتركة تماما كما يمكن لشعبين صديقين أن يفعلاه أيا كانت خلافات الماضي. لقد تقاسمنا لحظات هامة كالافتتاح الذي أقامه الخديوي إسماعيل بحضور الإمبراطورة أوجيني في إنجاز يرمز إلى نهضة مصر، وتواجهنا خلال العدوان الثلاثي الذي قامت به فرنسا وبريطانيا وإسرائيل عام 1956 بعد قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس. لقد ولت الأزمنة الغابرة ونحن نوجه اليوم أنظارنا نحو المستقبل الذي سيكون فيه للقناة والمنطقة الاقتصادية التي تتطور حولها دور بالغ الأهمية". لانغ نفسه عزز قناعته في ملحق مجلة "لاكسبرس" الذي صدر بتاريخ 28 مارس والذي وضع في متناول الزوار مجانا بعد وقوفهم في نهاية مسار المعرض وجها لوجه أمام قناة السويس في شكل شاشة ضخمة ثلاثية الأبعاد وإحصاءات وأرقام يراهن عليها السيسي للدفع بعجلة الاقتصاد المصري رغم أنها مقارنة بالماضي لم تعد تعتمد على المبادلات التجارية الدولية بحرا، كما أشار إلى ذلك الصحافي القدير كريستيان ماكاريان في سؤال تعليقي محرج إلى لانغ.

تباهي لانغ، وزير الثقافة والتربية السابق، بأن المعرض ـ الحدث أضحى قويا وحاسما مجددا من خلال مساهمة كلود مولار، المشرف العام على معرض قناة السويس، وجيل غوتييه، مستشاره في معهد العالم العربي. الأول أحد مؤسسي مركز جورج بومبيدو الثقافي المعروف وتعليم الفنون في المدارس وأشرف على معرضي قطار الشرق السريع وحدائق الشرق، والثاني أستاذ ودبلوماسي سابق في كل من الجزائر والمغرب والعراق والبحرين ولبنان ومصر ومترجم روايات علاء الأسواني. وبوقوف الرجلين خلف لانغ من جديد، تتبين قيمة العلم والمعرفة في بلد يعطي الأولوية للكفاءة وليس للولاء الأعمى ويضع الرجل المناسب في المكان المناسب خدمة للشعب والوطن وليس للحكام.

مدخل مسرحي

وسينمائي ساحر

يبدأ المعرض في أسر الجمهور منذ الوهلة الأولى بستار أحمر يسبق دخوله إلى قاعة سينمائية واسعة ومتوازنة سينوغرافيا بالشكل الذي يسمح له بمتابعة ملحمة تاريخ قناة السويس بصوت الصحافي التلفزيوني الشهير فريدريك ميتران، الذي كان وزيرا للثقافة أيضا. يتوقف الجمهور مطولا في البداية لقراءة اللمحة التاريخية المختصرة باللغات الفرنسية والعربية والإنكليزية معززة بخريطة تغطي جغرافيا الملحمة المصرية، وليطلع على قصة أوبرا عايدة لفيردي التي قدمت متأخرة يوم 24 ديسمبر/ كانون الأول 1871 بطلب من الخديوي إسماعيل باشا بدل الفاتح من سبتمبر/ أيلول 1869 بمناسبة افتتاح أوبرا القاهرة وقبل أيام قليلة من افتتاح قناة السويس.

وعايدة، أميرة حبشية أسرها الجيش المصري وجلبها لخدمة ملك مصر الذي أراد مكافأة رداميس، قائد جيشه، فأعطاه ابنته ليتزوجها، لكن رداميس وقع في حب عايدة، الأمر الذي أودى بحياة العاشقين. وتأخر عرض أوبرا عايدة بسبب حصار باريس الذي حال دون وصول أوغست إدوار مارييت بالأزياء والديكور، ومارييت هو مؤسس علم المصريات إلى جانب شامبليون والذي تدين له مصر باكتشاف أبو الهول قرب سقارة التي دفن فيها، وبتأسيس متحف مصر.

يطول "تسمر" الجمهور، الذي ما زال فرنسيا وأجنبيا في معظمه حتى ساعة كتابة هذه التغطية، جالسا على مقاعد صممت بشكل دائري وظيفي يتوسط مجسد تاريخ قناة السويس بشكل يمكنه من مشاهدة شريط ملحمتها من كل الزوايا بأريحية كاملة، ومن التمتع بتعليق جمع بين الصوت الرخيم والإلقاء المحسوب والسردية الشاعرية والصورة الأخاذة. لم يخرج المعلق فريدريك ميتران عن الدور الذي كان منتظرا منه بقراءته نصا كتب بأسلوب مدروس يشحن العاطفة ويغيب العقل، متجنبا الخلفيات الاستعمارية لتاريخ قناة السويس، وممجدا قدرة الرجال على صنع الملاحم بروح تجريدية!

ويصعد الجمهور بعدها إلى الطابق العلوي بواسطة درج "منهجي" يؤرخ بالصور والأرقام واللوحات التشكيلية والتحف والمخطوطات بطرق فنية أخرى تضمن سعادة بصرية خالصة شاملة. وبفضل المقاربة السينمائية والمتحفية والتوثيقية والمسرحية السينوغرافية المحكمة، يتعرف الزوار على تاريخ ملحمة قناة السويس، وعلى كل الشخصيات الأجنبية والمصرية الحاكمة التي صنعتها أو الأخرى التي حضرت كضيوف، ومن بينها الأمير عبد القادر الجزائري، وعلى كل مظاهر البذخ والعظمة التي ميزت حفل الافتتاح جامعا كل ممثلي الأديان منفصلين عن بعضهم البعض في منصات خاصة.

متعة شاملة

يعيش الزائر، وهو يتقدم مكانيا وزمانيا، لحظات متعة شاملة ومثيرة بكل المعايير على أكثر من صعيد، متلقيا درسا تاريخيا يضمن المعرفة والتسلية وحتى التطهير بشتى أشكال الإبهار البصري والسمعي الذي لا يدفع بالضرورة إلى غسل دماغي أوتوماتيكي يغطي على ظلم الرجال وعلى استعبادهم الناس الغلابة وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا إلى الحد الذي يؤدي إلى موتهم عطشا ورميا بالرصاص تحت شمس حارقة لا تطاق، كما تبين لاحقا بعد التمتع باحتفاليات افتتاح قناة السويس في أجواء مخملية تفوق كل تصور.

تتلاحق وتتطور أحداث الملحمة الأسطورية إيجابا وسلبا فستستمر في تجسيد تاريخ مصر وجوانب معينة من تاريخ العالم منذ عصر الفراعنة، مرورا بالعبودية الجديدة التي تلته عند شق القناة بفرض السخرة، وصولا إلى الورشات المعاصرة وأعمال شق القناة الجديدة وتطويل القديمة ضمن عرض متسلسل ومدروس وغني بكل أشكال التعبير التقليدي والتكنولوجي الحديث، الأمر الذي زاد من تجدد حجم وإيقاع ونوعية متعة شاملة ومعرفة تاريخية كاملة لملحمة امتزجت من خلالها دموع ودماء وآلام بؤساء عبيد شقوا قناة خدمة لمصالح طغاة ومغامرين ومكيافيليين محتلين قادتهم المصالح الاقتصادية الأبدية متخفين تحت رداء حداثة مزدوجة المعايير، كما هو مستمر حتى يومنا.

أهم شخصية ميزت افتتاح قناة السويس كانت الإمبراطورة أوجيني، التي وصلت إلى المكان كضيفة شرف على متن يخت النسر، ووجدت في استقبالها الخديوي إسماعيل جنبا إلى جنب مع ممثلي العوائل الملكية الأوروبية ومبعوثي السلطان العثماني والإمبراطور النمساوي، وكانت أجواء الاستقبال أكثر من خرافية على إيقاع أبواق أوبرا عايدة، وبهذا الاستقبال دخلت قصة قناة السويس مباشرة في تاريخ العالم وهي القصة التي كانت قد بدأت منذ أربعة آلاف عام وغطتها كل مراحل مسار المعرض البديع.

تبدأ هذه المراحل من عهد الفراعنة حتى جمهورية البندقية (1850 قبل الميلاد - 1505 ميلادي)، ونقرأ ونحن نصعد سلم مسار المعرض أن فكرة ربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط تعود إلى زمن الفراعنة وجسدها سنوسرت الثالث (1878-1762 ق. م)، بعد أن أمر بربط البحر الأحمر بالنيل بقناة عند الزقازيق في الدلتا، شمال القاهرة حاليا، وأعيد ترميم القناة في عهد بطليموس الثاني نحو سنة 250 ق. م، وخضعت للتعديل وإعادة التعمير على مدى الألف عام التي تلت، ولا سيما في عهد عمرو بن العاص، في سنة 640 م، والذي جعل منها قناة أمير المؤمنين، إلى أن أمر الخليفة جعفر المنصور بردمها تماما منعا لأي امتدادات من مصر إلى مكة والمدينة. في بداية القرن السادس عشر، واجهت البندقية منافسة البرتغاليين في الشرق بعد اكتشاف فاسكو دا غاما سنة 1498 طريقا جديدا يلتف حول أفريقيا في رأس الرجاء الصالح. ومضت البندقية في محاولة شق قناة تصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر، ولم ينجح مبعوثها لدى السلطان العثماني، وتم التخلي عن المشروع بسبب نقص التمويل اللازم. وتتوضح لدى الزائر في هذه المرحلة أهمية القناة من خلال ورشات المناظر البانورامية لبرزخ السويس ومساره بين النهرين ووصول ماء البحر المتوسط لبحيرة التمساح في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 1862.



من الحداثة الباشوية إلى الإفلاس

من خلال أرشيف جمعية أصدقاء ذكرى المغامر والدبلوماسي ديلسبس وقناة السويس - والمكون من منحوتات وصور فوتوغرافية ومخططات ومطبوعات ولوحات ورسوم مختلفة -، يتابع الزائر مسار المعرض متوقفا عند مرحلة مصر الحديثة التي تعكس سياق استعادتها قواها (1797 - 1849) انطلاقا من 1806 تحت حكم محمد علي باشا ومن خلفوه بعزمهم على الاستقلال شيئا فشيئا عن الباب العالي من خلال استقدام الخبراء الفرنسيين، ومن بينهم ديلسبس، الذي تحمس لمشروع القناة البحرية الذي درسه مهندسو بونابرت انطلاقا من المخططات التي وضعها الإيطالي لويغي نيجريلي (1799 - 1808) والسان سيمونيون. بعد تردد محمد علي باشا في تبنيه، انطلق حفيده محمد سعيد في مغامرة مع ديلسبس تواصلت حتى سنة 1869 بفضل جهود الخديوي إسماعيل باشا، ابن شقيق محمد سعيد وخليفته على رأس ولاية مصر سنة 1863.

بعد أن ركبت مصر قطار التقدم والحداثة وحلول زمن التفاؤل والابتهاج، حسب إسماعيل باشا، الذي قال إن مصر لم تعد بأفريقيا بل بأوروبا، دارت العجلة بعد إفلاسها، وحلت السيطرة الأجنبية عليها ودخل الاحتلال العسكري الإنكليزي عام 1882 وأضحت القناة، التي اعتبرها حكام مصر والأوروبيون إنجازا اسطوريا، رمزا للهيمنة الاستعمارية لدى المصريين. لم تذكر الصيغة هكذا في الملف الصحافي بل كما يلي: "ورغم ذلك، استمرت الحياة وشيدت المدن وزرعت الأراضي".

مات عطشا في بلده

من أقوى اللحظات المؤثرة في مسار المعرض، من وجهة نظر إنسانية بعيدة عن القراءة الإيديولوجية الغربية التي تعودنا عليها، متابعة العشرات من الزوار شريط الفيلم الذي يصور العبودية التي تعرض لها الآلاف من المصريين "الغلابة" الذين ماتوا عطشا وتحت وابل من الرصاص وهم يحفرون قناة "عقدة المنافسة الغربية" لاحقا بين الفرنسيين والانكليز. الزوار - الذين لم يقعوا فريسة فخ الإبهار الفني المغري والآسر بترسانة مؤثراته ونجوا من الفخ الإيديولوجي لديلسبس الذي قدمه المعلق ميتران كمغامر فقط -، وقفوا مطولا أمام لقطة سقوط الممثل القدير أحمد بدير ميتا عطشا ومقتولا برصاص حارس مصري مثله ببلده، وبذلك يكون قد استراح نهائيا، كما جاء في ترجمة حوار أبطال فيلم "شفيقة ومتولي" لعلي بدرخان.

ولعل هذا المشهد الغارق في تراجيدية يونانية يكفي وحده للكشف عن الوجه الآخر لحداثة مصرية وغربية مزعومة، وهي الحداثة المزيفة التي تخدم الأجنبي قبل العربي، ودفعت بمحمد سعيد باشا للجوء إلى السخرة لتجاوز نقص اليد العاملة وإلى إجبار نحو 25 ألف فلاح مصري على العمل في ظروف غير إنسانية بأدوات بدائية، وتكللت المحرقة الباشوية التي تكلف بها الأنيق الأرستقراطي ديلسبس بهلاك الآلاف من الفلاحين الغلابة، وإذا كان عددهم لم يقدر بشكل محدد، فإن الملف الصحافي تضمن جملة: "وقد شارك 1.5 مليون مصري في أعمال شق القناة، توفي منهم عشرات الألوف بالكوليرا بشكل رئيسي". عقدة التنافس بين القوى الغربية دفعت بالإنكليز إلى مواجهة الفرنسيين في الأرض المصرية الواقعة على الطريق نحو الهند. وخلافا للغة فريدريك ميتران الوردية والشاعرية والرومانسية، أضحت سيطرة الأقوى هي لغة عنف مسار ومصير قناة السويس التي عرفت تعطلا عدة مرات، ولا سيما في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1809 بدعم من الدولة العثمانية، ثم عند وفاة محمد سعيد باشا بعد أربعة أعوام، غير أن الخديوي إسماعيل أمر بمواصلة الأشغال الشاقة بدعم من نابليون الثالث. استمر شق القناة على يد فرديناد ديلسبس صاحب الشركة العالمية لقناة السويس (والذي ظهر صاحب ذوق هندامي كبير في صورته الضخمة مثله مثل الإمبراطورة أوجيني) بين عامي 1809 و1869، وحصلت مصر عند الانتهاء من شقها على حصة 44 في المئة من رأسمال الشركة العالمية لقناة السويس البحرية لصاحبها ديلسبس، وحصل 21 ألف مساهم فرنسي على 56 في المئة. وأمام إفلاسها عام 1875، اضطرت مصر لبيع حصتها لبريطانيا، التي استعادت نفوذها على طريق الهند، وانتهى صراع القوى العظمى عام 1882 بنص اتفاق اسطنبول على: "حيادية القناة معلنة حرة ومفتوحة أمام كل السفن التجارية والحربية أثناء الحرب والسلم بغض النظر عن العلم الذي ترفعه".

وتكللت الأشغال الشاقة، التي انطلقت عام 1855 ودامت عشرة أعوام، بإنشاء بنى تحتية فتم تأسيس مدن بور سعيد شمالا، والإسماعيلية وبور توفيق لتحاذي ميناء السويس عند جنوب القناة. ويستمع الزائر عند هذه المحطة إلى شهادات تؤكد كيفية طرد السكان الأصليين وتوطين موظفي الشركة العالمية في المدن الجديدة. كل التطورات المذكورة بدت حية ومتحركة بالصوت والصورة والكلمة واللوحة، الأمر الذي زاد من متعة الزوار ومن دهشتهم وثقافتهم التاريخية. واستمر وهج المسار التاريخي للمعرض ـ الحدث لاحقا مع مراحل سعي مصر إلى الاستقلال (1914 - 1945)، بعد أن ثار المصريون ضد الاحتلال البريطاني عام 1919 والذي تكلل باستقلال جزئي وبدستور برلماني، غير أن التبعية بقيت قائمة بحكم بقاء قناة السويس تحت حماية البريطانيين مدة 20 عاما، ولم تغير معاهدة لندن التي نصت على استقلال المملكة المصرية عام 1936 شيئا من الأمر الاستعماري الواقع.

صوت عبد الناصر يصدح

لأن المعرض إيديولوجي تاريخي، كره أم أحب أنصار الملحمة الإنسانية التجريدية وأسرى الصنعة الفنية الساحرة والمبهرة، تظهر مصر الرافضة للاحتلال الأجنبي مع وصول الزعيم عبد الناصر إلى الحكم عام 1952 وبعد إلغاء مصطفى النحاس المعاهدة المصرية - البريطانية لعام 1936.

في اعتقادي الشخصي، كان صوت عبد الناصر وهو يصدح عبر أرجاء المعرض من خلال شاشة عملاقة معلنا تأميم قناة السويس وزارعا في نفوس الشعب لهيب الثورة والوطنية ومنددا بالاستعمار البريطاني، من أقوى لحظات المتعة الإنسانية الهادفة التي تناقضت في جوهرها وبعدها ورمزيتها مع متعة مشاهدة افتتاح قناة السويس! لقد وفق المنظمون في تصور شاشتين مزدوجتين بشكل يسمح بالوقوف عند الشاشة الأمامية لخطاب الزعيم القومي العربي الذي راح يساند كفاح الشعب الجزائري بالتوازي مع نضاله لتحرير بلده، ثم الجلوس مطولا قبالة الشاشة الخلفية لمتابعة جانب من فيلم "ناصر 56" الذي يظهر فيه النجم الراحل أحمد زكي في دور الزعيم وهو يناقش قرار تأميم قناة السويس لاستعادة عزة مصر. ولم يضِع الزوار وقتهم وهم يكتشفون قائدا عربيا لم يقدمه إعلامهم إلا كدكتاتوري لاحقا وتحالفت ضده إسرائيل وفرنسا وبريطانيا لفرض عدوان ثلاثي بغيض بعد تأميم قناة مصالحهم قبل كل شيء!

رجل الأعمال الجزائري السعيد مقدول، الذي قابلناه مصادفة مشدودا لشاشة خطاب عبد الناصر، عبر لـ"ضفة ثالثة"، عن تأثره إلى حد بعيد بقوله: "أعرف اليوم وأكثر من أي وقت مضى لماذا يحارب الغرب الزعماء العرب والمسلمين والأجانب والأفارقة الذين يريدون التحرر من سيطرته. وبومدين - الذي أرسل السلاح لمصر لمواجهة إسرائيل كما فعل عبد الناصر لمساعدة وطنه ضد الاستعمار الفرنسي - واحد من الزعماء الذين نفتقدهم في زمن الحكام الجدد الذين يخدمون غربا يحارب اليوم أردوغان الذي ما زال صامدا في وجه غرب لن يمل من محاولة تركيعه وإزاحته، كما أزيح عبد الناصر وبومدين ولومومبا وسنكارا وآلندي وناكروما ومرسي والمرزوقي وبن بركة وآخرون يرفضون غربا يتوقف وجوده على استغلال ثروات الشعوب المستضعفة كما فعل مع قناة السويس".

هنريات، التي كانت تدفع الكرسي المتحرك لزوجها المقعد على طريقة عبد العزيز بوتفليقة، جلست جنبنا لتستريح قليلا من عناء جولتها المضنية ولتتابع الممثل الكبير الراحل أحمد زكي في دور عبد الناصر البطل. بعد قراءتها كلام عبد الناصر أسفل شاشة الفيلم راحت تتمتم بروح ديغول مقارنة بينه وبين عبد الناصر من حيث لا تشعر، فتجاوب معها السيد مقدول بصوت مرتفع وبلغة فرنسية متعمدة لإسماع الزوار الأجانب رأي مثقف أمازيغي حزين لزمن الحكام العرب الحاليين المنبطحين لغرب يقارب رياح الديمقراطية كما تشتهي سفن مصالحه الاستعمارية، على حد تعبيره.

استمرت متعة الزوار ونمت ثقافتهم التاريخية قبل الوصول إلى المرحلة الأخيرة من مسار المعرض الساحر، ومن بينهم الطالبة الجامعية التي راحت هي الأخرى أسيرة خطاب عبد الناصر التحرري، وخاصة بعد أن عرفت الأسباب التي دفعت بالغرب إلى محاربته، الأمر الذي أكدته حرب 67. طال وقوف الطالبة على مرآنا، وراحت تسجل بعض النقاط عند محطة "قناة السويس والحروب بين مصر وإسرائيل" (1956/ 1975)، وعززت فضولها المنهجي بالاستماع لمعلقي حربي عام 1967 و1973 في علاقتهما بالأهمية الحيوية والمصيرية لقناة السويس من جهة والصراع الفلسطيني العربي مع إسرائيل من ناحية أخرى. 

نهاية سيسية محتومة

كانت المحطة المذكورة فرصة أخيرة لزوار راحوا ينهون مسار نزهتهم الثقافية بإسعاد كل حواسهم وخاصة البصرية منها قبل الوصول إلى المحطة النهائية المحتومة، التي بدت باهتة وخافتة الأثر، وكشفت عن قناة سويس سيسية موسعة.

بعد فيلم "ناصر 56" لمحمد فاضل، زال تاريخ الصمود والانتصار المؤقت والعابر وجاءت لحظة الانكسار الجماعي عبر شاشتي فيلمي "أحلام صغيرة" لخالد حجار و"رصاصة في الجيب" لحسام الدين مصطفى، وبقدر ما سعد بعض الزوار وخاصة السياح الأجانب، باكتشاف سينما مصرية ولت لكنها بقيت راسخة في العقل والوجدان الجماعيين، بقدر ما تأسف البعض الآخر لمصير أمة لم تعد خير ما أخرجه الله للناس!

كما كان منتظرا منطقيا وبيداغوجيا، خفت وطأة سحر المعرض شكلا ومضمونا بحكم استنفاد جمالياته المبهرة ووصول الزوار إلى محطة أخيرة باهتة مقارنة بما شاهدوا وسمعوا وقرأوا من صور وخرائط ومخطوطات وأفلام ومنحوتات وتعليقات ووجوه ولوحات تشكيلية ومجسمات تطلبت جهدا ضخما ومقاربة علمية محكمة. جسدت المحطة الأخيرة القصيرة زمنيا تاريخ افتتاح الرئيس السيسي للقناة الجديدة الموازية لقناة السويس من جهة الشرق يوم السادس من أغسطس عام 2015 بهدف السماح جزئيا بازدواجية ملاحية في الاتجاهين وبالتالي إلغاء تناوب السفن في العبور علاوة على تعميق القناة الموجودة على طول 37 كيلومترا على مستوى مدينة الإسماعيلية. وأظهرت الصور والجداول المرفقة بإحصاءات وتعليقات، أن طول القناة الجديدة يبلغ 72 كيلومترا وكلفت نحو 3 مليارات يورو. قرأ الزوار المعجبون بالمنقذ السيسي معلومات تقول إن "القناة الجديدة قد حققت لمصر سنة الافتتاح إيرادا بمبلغ 5.3 مليارات دولار ويتوقع أن تحقق 13.2 مليار دولار انطلاقا من عام 2023، فصارت السويس العمود الفقري لمصر الغد".

وقوف الزوار بسرعة عند المحطة النهائية غير المبهرة فنيا، والتي سيطرت عليها التعليقات المنتظرة على رجل مصر القوي سلبا وإيجابا، لا ينقص شيئا من روعة معرض توفرت فيه كل شروط النجاح الفني والمهني، بغض النظر عن القراءة الإيديولوجية التي يمكن أن يختلف حولها أنصار وأعداء لانغ والسيسي ومرسي.

إن زيارة معرض "ملحمة قناة السويس" واجب لمن يدعي حب التاريخ والسياسة والفنون، والمولع بالاكتشاف الإنساني غير العادي، بعيدا عن كل الألوان والتخندقات الإيديولوجية الممكنة.