Print
محمد م. الأرناؤوط

لماذا صلب المسيح بثلاثة مسامير فقط؟

27 مارس 2018
إناسة
يعتبر التراث الشعبي مخزنا غنيا بمرويات كل شعب عن أصوله وأساطيره وعقائده وثقافته وأدبه وصورته عن الآخرين، وربما هذا يرتبط بالغجر أكثر نظرا لأن لغة الغجر (مع تعدّد لهجاتها الكثيرة) بقيت غير مدونة إلى النصف الثاني للقرن العشرين (حين وضعت في يوغسلافيا السابقة أبجدية وكتب تعليم اللغة الغجرية، وأخذت تنشر فيها المؤلفات التراثية والأدبية الحديثة). ومن المعروف أن وجود الغجر في أوروبا الشرقية قديم يعود إلى حوالي عشرة قرون وممتد في أغلب دول المنطقة، وخاصة في البلقان، حيث لدينا تقديرات ترفع عددهم إلى حوالي عشرة ملايين.

ولكن المشترك بين هؤلاء الغجر، على الرغم من تكيّفهم مع الديانات (الإسلام والأرثوذكسية والكاثوليكية) والثقافات الموجودة، هو وجودهم منذ الأزل في أسفل القاع الاجتماعي والنظرة الارتيابية والازدرائية تجاههم. ومن هنا رأوا في كل دعوة، من المسيحية المبكرة إلى الشيوعية، تنادي بالمساواة أملا جديدا لهم كان ينعكس في تراثهم بطبيعة الحال.

شاءت الظروف أن أسكن في العاصمة الكوسوفية بريشتينا، قرب حارة الغجر (التي اختفت للأسف بعد حرب 1999) وأن أتعرف على أحد الكتاب الشباب (علي كراسنيتشي)، الذي كان من الناشطين لنشر التراث الغجري وتحرير شعبه من المكانة الدونية، بحضّ الأطفال على الذهاب إلى المدارس والشباب على متابعة التعليم. وعندما أهداني كتابه "حكايات غجرية" ترجمته إلى العربية فورا، ونشرته وزارة الثفافة السورية في ثمانينات القرن الماضي مع مقدمة عن مغزى هذا الكتاب بالنسبة إلى "النهضة الثقافية الجديدة" للغجر.

ومع الجذر المشترك في التراث الشعبي الغجري، الذي يعتبر الأقدم، والذي يعبّر عن أساطيرهم وعلاقتهم مع الآلهة والطبيعة من حولهم، لدينا إضافات لاحقة بحكم التنقل من الشرق (الهند) إلى الغرب (أوروبا) عبر بلاد فارس وبلاد الشام وآسيا الصغرى، وهي تعكس تجاربهم مع المناطق والشعوب الجديدة التي استقروا بين ظهرانيها.

ومن هذا التراث لدينا حكاية شعبية تعكس وجودهم الجديد في بلاد الشام، وبالتحديد في فلسطين، حيث اشتهروا كما في غيرها بمهنة الحدادة، وترقيص الدببة، وإحياء الأفراح بالرقص والموسيقى إلخ. وقيمة هذه الحكاية أنها تعود إلى بداية ظهور المسيح ونظرة الغجر إليه، وتعاطفهم معه، وغيرتهم عليه إلى حد التضحية بأنفسهم في سبيله.

تبدأ حكاية "الحدادون الأربعة" بخبر الحكم بقتل المسيح بتهمة التمرد على الحكم الروماني بسبب دعوته بأن "الناس أخوة" وأن "الخادم والسيد متساويان"، وتكليف جنديين رومانيين بجلب أربعة مسامير للصلب من أحد دكاكين الحدادين: اثنان لغرزهما في يدي المسيح، وإثنان في قدمي المسيح. كان في القدس أربعة حدادين فقط كلهم من الغجر بعد أن طرد الأغنياء من بلاد فارس الغجر، فتشردوا إلى أن استوطن بعضهم فلسطين و"تبنى أحفادهم عادات ودين الفلسطينيين".

توقف الجنديان عند الحداد الأول (أليعازر)، الذي وافق أولا، ولكن عندما سأل وعرف عن المحكوم عليه بالصلب رفض أن يصنع المسامير لأنه تذكّر المسيح عندما مرّ ذات يوم أمام دكانه مبتسما، وعندما سأله من يكون، قال "أنا الذي يأتي ليتحدث مع الناس ذوي النوايا الحسنة"، مما جعل أليعازر يعتبر المسيح من قومه، وهو ما وافق عليه المسيح قائلا "من بني قومك؟ أجل، إذا كنت إنسانا ذا نية حسنة". ولذلك رفض أليعازر بقوة صنع المسافر مما دفع الجنديين إلى قتله.

تكرّر الموقف حين ذهب الجنديان إلى الحداد الثاني (أندوش) الذي كان له زوجة وإثنا عشر ولدا. وعلى الرغم من حاجته الماسة للمال ليطعم أولاده، إلا أنه عندما سأل عن المحكوم وعرف أنه المسيح، تذكّر أن الأولاد رأوه في أحد الأيام فقرّبهم منه على الرغم من أسمالهم البالية، وأعطاهم رغيفا من الخبز كان يحمله تحت ذراعه، ولذلك رفض أيضا صنع المسيح  مما انتهى به الأمر إلى القتل أيضا.

حين وصل الجنديان إلى الحداد الثالث (جوزافي) أيقظاه من النوم وطلبا منه صنع المسامير الأربعة وإلا يقتل قبل المسيح. ولما سمع باسم المسيح تذكر جوزافي أنه شاهده يعظ في المدينة وهو يتكلم "عن زنبق الحقول والعصافير والكرمة والتين"، واستنتج منه هذا أنه غجري "لأنه يعرف النباتات والحيوانات بشكل جيد". ومع رفضه لصنع المسامير، لأنه كان يعتبر ذلك "مشاركة في جريمة قتل"، قام الجنديان بقتله على الفور.

لم يبق في القدس إلا الحداد الرابع (صموئيل) وعندما وصل الجنديان إلى مكانه وجدا ابنه الكبير (غاسبار) الذي تعلم المهنة جيدا. ونظرا لخوف الجنديين من العودة إلى الضابط المسؤول دونما مسامير فقد اتفقا على ألا يذكرا اسم المسيح "لأن كل هؤلاء الغجر يعتبرونه واحدا منهم، وربما يكون هذا صحيحا". وهكذا صنع غاسبار لهم ثلاثة مسامير وبينما هو يصنع الرابع سمع أصوات الحدادين الثلاثة تحذره من صنع المسامير فتملّك الجنديان الرعب أيضا، فهربا مع المسامير الثلاثة التي كان أنجزها غاسبار. عندما أدرك غاسبار الحقيقة حاول أن يلحق بالجنديين ولكن دون جدوى، ولذلك صعبت عليه الحال ومواجهة الناس في اليوم التالي فهام على وجهه.

وبسبب ذلك، كما تنتهي الحكاية، اضطر الجنود في صباح اليوم التالي إلى صلب المسيح بثلاثة مسامير فقط، حيث ثبّتوا مسمارا في كل يد ووضعوا القدمين فوق بعضهما وغرزوا فيها المسمار الثالث.

أما غاسبار فقد بقي هائما على وجهه يحمل دعوة واحدة للناس في كل مكان يحل فيه: اصنعوا المسامير لتجميع صواري السفن، وإقامة هياكل البيوت، ولكن لا تصنعوها أبدا لصلب البشر!