Print
محمد م. الأرناؤوط

"العربي الأسود" في التراث الشعبي البلقاني

14 أكتوبر 2018
أمكنة

كنتُ في الأسبوع الماضي في جولة بالجبل الأسود (مونتنغرو) الذي يفصل ما بين البوسنة وألبانيا، ولذلك نرى فيه تداخل الشعوب واللغات والثقافات. كانت الجولة ممتعة بين الجبال العالية في جنوب البلاد التي تفصل ما بين سهول بلاف Plav وغوسينيه Gucinje وفوثاي Vuthaj وما بين شاطئ البحر الأدرياتيكي.

بين الجبال العالية المغطاة بأشجار البلوط والسرو والصنوبر وغيرها كانت هناك كتلة صخرية بارزة إلى الأمام لوحدها وعندما شاهدني مضيفي، وهو أحد أبناء المنطقة، أتطلع إليها باهتمام قالي لي هذه "صخرة الفتاة" ولها قصتها التي يتوارث روايتها سكان المنطقة منذ قرون. كان مضيفي يقترب من الثمانين وهو سمعها مرارا وتكرارا في طفولته من الكبار الذين كانوا يجتمعون في ليالي الشتاء، عندما يسدّ الثلوج كل الدروب، لرواية الحكايات عن تاريخ المنطقة التي تختلط فيها الحقائق بالأساطير، وإنشاد الأغاني التاريخية التي تمجّد بطولات أبناء المنطقة في دفاعهم عن موطنهم أمام الأعداء على مر العصور.

ولما سألته عن قصة "صخرة الفتاة" رواها كأنه يقرأها من كتاب: كانت القرية (فوثاي) تعيش في سلام وأمان إلى أن هاجمها "العربي الأسود" وقتل من قتل ودمّر ما دمّر ثم رأى فتاة جميلة أعجبته فحاول الإمساك بها فهربت منه إلى الجبل ولاحقها هناك من طرف إلى طرف حتى وصلت إلى قمة هذه الصخرة النائية التي تطل على الوادي العميق. ولما اقترب منها أكثر "العربي الأسود" رمت بنفسها في الوادي لكيلا تقع بيد العربي الأسود، ولذلك سُمّيت هذه الصخرة "صخرة الفتاة".

وفي الواقع إن "العربي الأسود" له حضور قوي في التراث الشعبي للبلقان، وبالتحديد عند البلغار والصرب والبشناق والكروات والألبان. ويختلف هنا الباحثون، وهناك من تخصصّ في هذا الموضوع مثل المستشرق الصربي راده بوجوفيتش الذي خصص له رسالته للدكتوراة "العربي في الأغاني الشعبية الشفوية في اللغة الصربوكرواتية" (بلغراد 1977)، حول هذه الشخصية ودلالاتها الأسطورية والتاريخية والثقافية.

فهناك أولا دلالة اللون أو الارتباط بين العرب واللون الأسود حتى شاع هنا المثل "أسود كالعربي"، وأصبح يطلق حتى عهد قريب على كل عربي "أسود". ومن ذلك كان العبيد السود الذي اشتراهم قراصنة مدينة اولتشين Ulcinj، التي تقع الآن في أقصى جنوب الجبل الأسود ولا تبعد كثيرا عن "صخرة الفتاة"، من سواحل أفريقيا ثم شغّلوهم في سفن القرصنة التي كانت تهاجم السفن والمناطق المسيحية في الجوار كنوع من "الجهاد" الذي يقتسمون غنائمه مع الحكام العثمانيين للمنطقة. وقد بقي من أحفاد هؤلاء "العرب" (السود) في مدينة اولتشين أواخر أحفادهم إلى هذه السنوات، ولا يزال أحفادهم يحملون اسم العائلة "عربي" Arapi تمييزا لهم عن غيرهم. ومن هنا قد تكون الروايات الشعبية عن "العربي الأسود" انعكاسا للذاكرة الجمعية التي تعود إلى عدة قرون سابقة ، حين كانت هذه المناطق القريبة من الساحل بوجود مسيحي وربما تعرضت إلى غارات مفاجئة من هؤلاء السود أو "العرب" في ثقافة المنطقة.

وفي الواقع كان حضور العرب المسلمين في البحر الأدرياتيكي قويا في القرن التاسع وحتى القرن العاشر، وبالتحديد في المناطق الساحلية القريبة من "صخرة الفتاة". فبعد أن فتح العرب المسلمون جزيرة كريت في 827م الاستراتيجية التي تتحكم ببحر إيجه من الجنوب نجحوا بفتح جزيرة صقلية الاستراتيجية في المتوسط، التي تطل على البحر الأدرياتيكي من الجنوب، مما أضعف الوجود البيزنطي في البحر المتوسط بشكل عام والبحر الأدرياتيكي بشكل خاص.

وهكذا مع فتح العرب لـ تارنت Tarent في عام 840م سعت بيزنطة إلى التحالف مع البندقية لطرد العرب المسلمين من المنطقة، إلا أن الأسطول البيزنطي تعرّض إلى الهزيمة في خليج تارنت خلال 840- 841م. ومع هذا النصر فتحت أبواب البحر الأدرياتيكي أمام العرب المسلمين، الذين أخذوا يشنون الغارات السريعة على ثغوره الشرقية/ البلقانية. وهكذا فقد دمروا في سنة 841م قلعة أوسور Osor، وبعد ذلك هاجموا وسلبوا موانئ بودفا Budva وكوتور Kotor وغيرها التي لا تفصل بينها وبين "صخرة الفتاة" سوى سلسلة الجبال العالية المذكورة.‏

وبعد أن سيطر العرب على جزء كبير من جنوب إيطاليا عاودوا هجماتهم على ثغور الساحل الشرقي للأدرياتيكي. وهكذا فقد وصلوا بقوات كبيرة في عام 866 م إلى راغوصة (دوبروفنيك لاحقاً) وأحكموا الحصار عليها. وقد استنجدت راغوصة بالقسطنطينية واستجاب القيصر فاسيل الثاني وأرسل لها أسطولاً كبيراً مؤلفاً من مئة سفينة، مما جعل العرب يفكّون هذا الحصار عن راغوصة الذي استمر خمسة عشر شهراً . ومع أن العرب المسلمين اضطروا إلى أن يتخلّوا‏ عن باري عام 871 م، إلا أن غارات العرب المسلمين لم تتوقف بل استمرت من حين إلى آخر من قواعدها في صقلية. وهكذا فقد سجلت المصادر آخر الهجمات العربية من صقلية على جزيرة كرف في عام 1032م، إلا أن القوات البيزنطية والراغوصية صدت هذا الهجوم وأرغمت العرب العرب المسلمين على العودة إلى صقلية.

صحيح أن العثمانيين جاؤوا بعد ذلك في القرن الخامس عشر وسيطروا على الساحل الشرقي للبحر الأدرياتيكي، وبنوا فيه القلاع والجسور والجوامع والمدارس التي ساعدت على نشر الإسلام بالتدريج حتى القرن الثامن عشر، حين أصبحت غالبية السكان في المنطقة التي تحيط بـ "صخرة الفتاة" من المسلمين، إلا أن التراث الشعبي عن "العربي الأسود" الذي "يخرج فجأة من البحر" (الأدرياتيكي) ليقتل ويخطف لا يزال حيا في الذاكرة وحتى في أسماء بعض الأمكنة في جنوب الجبل الأسود وشمال ألبانيا بشكل خاص.