Print
محمد بنيس

ضوْءُ القُدس: طوبَى لمن آمنَ ولمْ يرَ

13 فبراير 2017
أمكنة

1.

في اللحظة التي حلّقت الطائرةُ فوق سوريا، وهي متوجهةٌ إلى عمّان، أحسستُ، صدفة، أنني لستُ ابن بَطوطة. وقبل أن يرتدَّ إلي طرفي استحوذتْ عليَّ مشاهدُ هذا الرحّالة المغربي القديم، وهو يزور القدس أكثر من مرة. اختلافي عن ابن بطوطة كان الزمنُ مصدرَه أساساً. غوايةُ الرحلة من بلَد إلى بلَد، أو انفلاتُ لسَانه بين اللغات الغريبةِ عنه، هو القادم من داخل أسوار طنجة، أو  لباسُه المتبدِّلُ حسب الحضارات التي استقبلتْه، أو ثقافتهُ الفقهيةُ المزركشة ببعض أبيات الشعر المتداولَة آنذاك، أو تنقّلهُ في السفن وعلى البغَال والجِمَال، كلها امّحَتْ من مُخيلتي. إنه زار القدس. وأنا المسافر إلى عمَّان، لمشاركة الفلسطينيين احتفالهم بالذكرى الثالثة للانتفاضة، لنْ أزورَ القُدس. زمنان متباعدان ومتجافيان.

بين عمَّان والقدس مسافةٌ تقلُّ عن تلك الفاصلة بين المحمّدية والرباط. معَ ذلك لن أزورَ القدس. في هذا الزمن تُمنع عنّي زيارة القدس، أو يُمنعُ اختراق معْبَر من المعابر إلى سهول وتلال فلسطين، التي لا أستطيع تذكّر طُيوبِها، تراباً ونباتاً. مَا تراكم في خلاياي من صُور فلسطين يجعل من طيوبها استثناءً على البسيطة. أرضٌ تشبَّعت بماء الرحمة. والدم المسفوحُ عليها، من الأنبياء إلى الشهداء، تركَ لها السّواقي والنُّهيْرات تتنفسُ بذَوْب المسْك والعنبر واللبان.

لو كنتُ ضوءً أو هواءً لانتقلت إلى هناك، مع أول قطرات الشّفَق، أرافقُ الأشْجَار إلى مائها، والسماءَ إلى أبدية يتحسّر عليها الفانون. ثم أهيّئُ للودَاع طقوسَه في الوقت المناسب، بين جبل التجربة ودرب الآلام، بعد أن أبلغَ أحياء القدس القديمة وأتطهّر بجَذْبة، تحت فوانيس المعابد والأضرحة، وعلى رأسي عِمَامةٌ خضراءُ من كتّان سيعرفني بها أحفادُ أجدادي من المغاربة في حَيّهم، وأنزلَ ضيفاً على سلالة الكنعانيين. أما الطيوب التي كانت ستُصاحبني فلعلّها طيوب الدّفْلى والوزَّال والزعتر، أو لربما تلك التي أعشقُها أكثرَ بين سوريا ولبنان، القهوةَ بالهيل، بمحاذاة أزهار الياسمين.

فاس تُلازمُني، منذ الطفولة الأولى، بطيوبها وألوانها. قرنفلٌ، سوْسَنٌ، مسكُ الليل. ثم ذلك الغنباز الذي ترفعه الشراجبُ والسطوح هبَةً للشمس. ولكن فلسطين أتذكّرها باللغة وقليلٍ من الصُّور. أبوابٌ تتسامى في الهواء. قباب يُولَد من داخلها ضوْءٌ رحيم. أسوارٌ لمَنازلَ ومدن، لصوامع وأبراج، لأضرحة وأديرة، تختزن ذاكرة المتعاقبين على الحَمْد والشّكر. وأنا مُستودَعُ الطيوب التي تغزوني. الطيوبُ جيشٌ لا يَقتُل. بحكْمةٍ تنفذ إلى المناطق الخفية في الجسد. وهناك، في العتمات المجْهُولة، تَشِمُني بضوْئها. لا غرَّازةَ ولا إبرةَ ولا سُخام. نسيجُ الخلايا يَهتبل بالهلاك، عصفاً يُشوّش الأنفاسَ حتى تكْتسيَ بسكينة لا هوادةَ فيها. بهذا ينتسبُ كلُّ بلد، في جسَدي، إلى طُيوبه. وفلسطينُ لغةٌ وقليلٌ من الصور.

الطائرة تستعدُّ للهبوط على أرضية مطار عمَّان، وابنُ بطوطة في القدس حالةٌ مُشعْشعة. دفءٌ يلفّ العينين. وأصابع يدي على حافّة ما يهدِّدها. مَرة بكَى عزيزي كمال بُلاطة وهو يزورُ معي فَاس. قال لي إنه في فاس يتجوّل بين أحياء القدس. لم أهجُمْ على بكائه. دفءُ العينين، الآنَ، يُغالبني. لفاس جغرافيةٌ تتدافع في صدْري. والقدسُ غمَامة بها تجرِّب خطواتي مواطئها.

سأكونُ، بعد هنيهة، قريباً من القدس. وسأتأكد من أنني لَنْ أزُورها، هذه المرة. هناك جنودٌ مستعدون ليمنعوني من ذلك. علَى هذا النَّحو تتحدَّد مهمَّتهم. بالزيّ العسكري الكاكي والرشاش ينبؤُونني بالمنع. من غير تبادل كلام. هناك حواجز، وسيارات عسكرية، وصفارات إنذار، ومكبر صوت يرفعه أحد الجنود. هذه كلّها ستكون جاهزةً عند اقترابي من الحدود، ومع ذلك فهيَ قابلة للاشْتباه. العَلَمُ بمفرده لن يتّسع للرّيب. العلَمُ المنصوبُ على الحدود، من عمود لعمود، هو اللغة العليا للمَنْع. العلم معناه، أسلاكٌ عازلة، فيالقُ مصطفّة على طول الاحتلال. ورؤية العلَم يَجْلِدُ سماءَ فلسطين. لن تُؤجّل مناحةَ الفرْق بين لغة تصِفُ وعلم يحْتلّ.

محرّكات الطائرة، التي تتوقف، تُضاعف رهْبتي. هل بإمكاني مُشاهدتُهم ومشاهدةُ شيء من التراب ؟ هلْ أعبّئ أنفاسي باليَسِير ممّا قد يصلني منْ طيوب ؟ وكيف لي أن أشاهدَ الفلسطينيين العابرينَ من ْ ضفّة إلى أخرى ؟ أيُّ فنَاء سيتملَّكُني ؟ وبأيّ عيْن سأنجرفُ  مع هذه القيامة إلى متاهها ؟ بأيِّ يد سأسلّم ؟ وبأيّ كلاَم سأنطق ؟ أعضائي تهْدأ تماماً، تَنْضبط للعَواصفِ والزّمْهرير. صمتي يطوفُ بأزمنة أعرفُها جيّداً. والكلامُ حفرةٌ باردة. مع كل كلمة أزدادُ انجذاباً إلى غور اللغة. صمتي رحيلٌ حُرٌّ في الغيَاب. وتمامُ الهدوء جهة مُستعِرةٌ لقلقٍ بدون تخُوم.

 

 

2.

 

بمجرد نُزولي من الطائرة أحاطتْ بي كلماتٌ نبهتْني على أنني، حقّاً، هناك، قريبٌ من فلسطين وضيفٌ من ضيوفها. بعضُ ذلك الصحو الشفّاف، الذي يتغشّى الجسَد بَغتةً، حلَّ في أعضائي، والشُّعَل المسْتَترة انتصَرتْ لكُبَّتها. في المكانيْن معاً أتركُ لجَسدي أن يَسْهرَ حتى يَسْهَر. وأنا قريبٌ من هناك. شيءٌ بين الشطحة والشّهقة يضوِّئُ كلمَاتي. انفلاتُ رائحة القهْوة بالهِيل من مدار اللّيْل والحجر. وانحدارٌ مشاكسٌ إلى سَديم الروح.

سأنحدرُ مَعكِ أيتها الروحُ إلى حيث تُقيمين منذ أزمنتكِ المفجعة. سأخلعُ الحذَاء والجواربَ لأكون حافيَ القدمين. سأطأُ الترابَ على عادة أجْدادي، عندما كانوا يُشرفُون على أرض يجلّلها تسبيحُ الأموات وملائكتُهم. سأتقدمُ قليلاً منَ انتعاشات شاحبة لعلّ الهوَاءَ يَسْبيني. سأسْتبسلُ في مُعارضة ما فرضوه منْ جفاف. سأحْتفي بالشّهْوة المريبة. سأخلدُ في ظُنوني. سأفتح أزرارَ القميص لتستجْمع دقاتُ قلبي قسطاً من عناء العابرين بينهم وبينهم. سأحرّرُني من رجْع تُمليه عليَّ اللغة بمجرَّداتها. لن يكون لي العبُور. سأمنحُ قامتي للبُعد أو للسَّاهدين بحوض الضفتين. سأسْعَى بين زيتون وصفصاف وبُرتقال ورُمانٍ وضوءٍ وأطفال. سأخلُو بالشّهيد محمولاً على الأكتاف. سأمتنعُ عن سؤال مَنْ أنتَ يا كوكبَ هذه الأرض. سأُنصت إليكَ، فقط، لتختبر الروحُ دمَ لُغتك. لن أجرؤَ على أكثر من ذلك. أنتَ أكبرُ من مَرْكبك المحفُوف بحرية شهادتك. علَمٌ فلسطيني وزغاريدٌ وأنتَ لا تموت.

انشدِّي أيتها الروحُ إلى حَرْب اختيارك واخْرُجي من رجفةٍ تتولاّكِ كلّما اقتربتِ من حدود ليستْ لهُم. انسلّي من أيِّ قصبة تَعْصَاكِ حين تَقتربين منهُم ومنهُم. وبرقصة السّلوان انشغلي. هذه جهة لا انعطافَ لها. ضوءٌ يتوالد من عطشٍ، يَتوالدُ من أبْهاءِ وشومٍ، يتوالَد من خيمة راحلةٍ، يتوالد من كوكبها الذريّ.

حُلّي أيتها الروحُ عُقَداً بالكيِّ ثبّتوهَا فيكِ وانْسَربي تحْتَ ملاءة الأزمنة. شاهدي واشْهَدي. ضعِي جمرةَ الحناء على أهبتكِ، فلن تُغافليني الليلة على مَشارف عمّانٍ. وأنا قنوعٌ بأن لاَ حاجةَ لي أبعدَ من قراءةِ صمْتٍ ما زال يسكُنني.

 

3.

 

مباشرةً، بعد الجُمل الأولى التي تبادلْناها، نحْنُ الثلاثة، إلياس ومحمود وأنا، أعلنت:

- لي رغبةٌ في زيارة الحُدود. أريد أن ألتقيَ بالقَادمين من الضفة. وأرى مَا هناك أيضاً.

-لا بدّ أن نذْهبَ، قال إلياس.

- ممكنٌ جداً، قال محمود.

- ومتى نذْهب ؟ استأنفَ إلياس، وهو يتناولُ جرعة من القهوة.

- غداً، غداَ، في الساعة الحادية عشرة أو الثانية عشرة. ما رأيكما ؟

- جيّد، قلت.

- أمِّن لنا سيارة. نتحرّك بحُرية. نلفّ ونشُوف، قال إلياس.

- لا، قال محمود. ثم أضاف : نتوجّه إلى الجسْر، وبعده نتوجّه إلى مكَان على شاطئ البحر الميّت، نقْضي النهار، ونظلّ هناك حتّى المَغيب، فتوقَدُ أضواءُ الشاطئ المقابل في فلسطين، وأضواءُ أريحَا والقُدْس. كل الأرض ستوقَدُ أضواؤها.

- سترَوْن. سأمْشِي على الماء، وستُؤمنُون. طوبَى لمن آمنَ ولمْ يرَ؟ قال إلياس.

- ولكن أخْشَى ألاَّ أعُود. نداءُ الأرض أقْوى منّي. قد أتركُكما وأستمرّ في السير باتجاه الدّاخل، قال محمود. صمتنا معاً، إلياس وأنا.

دفءٌ للعينين في شُرودهما. وتسربَ خيطٌ من الضوء بين الأشفار. لم يكن لي بدٌّ من مقاومة موْجةِ الدفءِ المفاجئ. فأنا أُهزَم بسرعة أمام وَصايا الاتّزان. عفويةُ محمود تنقلني، بمفرَدها، إلى حَالة جسَد شعْب بكامله. كلمة واحدة تختزلُ معْجَم العذابات. حالةُ الاستجابة لنداء الأرض تركضُ إليها كتاباتٌ ولا تبلغها. عفويةُ شخص مثل محمود تملك سعة لغة التولُّه. ولا دحْضَ لما يقوله . قد يصلُ إلى هناك ولا يعُود. لكَ الحق، يا محمود. قد لا تَعُود. اذهبْ في يقينك واكْسُ عظامي بحَالَتك. احْمني منْ زمهريرٍ لا أدري مصْدَره.

وإلياس يُريد المشيَ على الماء. يريد السطوعَ في الدهشة الخالصة. مسيحٌ سيجرّب حظّ المَسيح. على ماء البحر الميّت. هو لا غيره. إلياس، القادمُ من ديْر الطفولة، سيترنّم بسُريانيته العتيقة. ويمْشي على الماء. مخلوقاتُ البحر ستدقّ أجراسَها. ستتبعه قطعانُ الغَنم والمَاعز. ستظلّله أشجار اللّوز. وأعلامٌ بألوان قوْس قُزح ستلتحق به من جهات ستُخلَق في حينها. ستُرسل السماءُ ورودَها. والقمرُ سينشقّ إلى نصفين. نصفٌ من فَتيات يتناديْن بأغاني موْسم قطف العنَب. نصفٌ من أفْراسٍ شهباء يتسابقْنَ في مدًى. وإلياس يمشي على الماء.

صمْتي كتُوم. عواصفُ من مشارف عمّان تقتلع ضَحكاتي من مَنابتها ولا أراهَا. وابنُ بطوطة وصل إلى القُدس عن طريق غزّة، ثم وَصلهَا عن طريق دمشق. سأتوجّه، إذن، إلى هناك، إلى الجسْر وشاطئ البحر الميّت. أقفُ لأرى شيئاً من الأرض واحْتلالها. لستُ قادماً من مكة ولا ذاهباً إلى القدس. لي مسارٌ تعهّدتُه منذ الطفولة الأولى، وأنا أتهجَّى  إنْسَانيتي. نهايتي الحدودُ والعلمُ المعلّقُ في أعلى المقْصَلة. هناكَ سأقف لألتقيَ بالفلسطينيّين العابرين للجسْر، وهُم يغادرون الجَحيم إلى الجَحيم. أفواجاً أفواجاً.

كيف لي أنْ أًخفيَ شحوبَ وجْهي، وأنا ألتقي بهم ؟  سأكون على الأرض أمام بدْء الخليقة، ومعهم أمام رَوْع القيَامة. منذُ كم منْ سنة وهُمْ يغْرسُون ويعمّرون ويُنجبون أنبياءَ وشهداء ؟ منذ ميلاد الضوء والهواء ؟ منذ كم من سنة ؟ منذ توزّع الطيرُ على أغصان متدليةٍ وأغصان مُزْهرَة ؟ منذ كم منْ سنة ؟

أنا، الآن، هناك. يداي ثلْجيّتان. وعلى شفَتي نفَايةٌ يُسمّونَها الكَلام. لسَاني غورٌ مؤرَّخٌ بسبْعٍ عجَاف. تضغط السماء على كَتفيّ. وأنَا أرْتَخي. لا أمشي على الماء. ومحمود قد لا يعُود من أرضه. في صمتي تتكفّل العيْنان برؤية سُلالةِ الكنْعانيين وهم ينْتقلون من حلْقة إلى حلْقة. وثائقُ المُرور مختُومة. والعلم يؤكّد لي زمنَ الاحتلال. بوقٌ وسياراتٌ تنتظر. كلُّ شيْء جاهزٌ للتّذكير بالزمن. ستارٌ منْ بَياض. صمتٌ لهذا الليل. عنفوانٌ يستبدُّ بي في خَيالات  الطريق.

 

 

4.

 

الشمسُ ربيعية صباح هذا الخميس 13 ديسمبر 1990. السماءُ أحواضُ عشْبٍ أزرقَ، تعيدُ تكوينَها، بين الحين والآخر. نتفٌ من ألياف رقيقة تتناثر ببياضها. الحرارةُ منعشة. ونحنُ الثلاثة مستعدّون لاحْتدام مُعبَّإٍ بتاريخ دم الأنبياء والشُّهداء. يُرافقنا محمد وبَكْر. إنهما يعرفان تفاصيل الطريق والمنطقة. بسرعة تخترق السيارةُ  شوارعَ عمَّان وأَطرافَ المُخيّم الفلسطيني. واتضح لنا بعد هُنيهة أننا غادرْنا المدينة. بدلَ العمارات والبيوت، أخذت الخضرةُ في غزونا. خضرةٌ ناضجةٌ تشرع في التسلّق والانتشاء. أسئلة أوليّة وتوضيحاتٌ عن سكان المنطقة. مرتفعات بسيطة ثم ننتعشُ بالمنخفضات. معَ كل منخفَض كان ينبعث في داخلي اضطرابٌ جَموح.

هؤلاء الواقفون على جنبات الطريق، برُزَمهمْ وسلالهم، أو أكْياسهم وصناديقهم الصغيرةِ، ربما كانوا ينتظرونَ حافلةً لتنقُلهم إلى الحُدود. أجهدُ في رؤية ملامحهمْ، ولكن لا أتبيّنُ من سحناتهم ما يدلُّني على جهَتهمْ. وقوفُهم على الجانب الأيمن يَظلّ حُجتي الوحيدة. وهذه السيارات القادمة باتّجاهنا قد تكون هي الأخرى تنقل أهْلَ الضفة. محتملٌ. محتملٌ. حافلاتٌ وشاحنات. كل هؤلاء، بالنسبة لي، لابد أن يتحركوا بين هُناك وهنا. لا شيْءَ يؤَكّد لي ذلك. مجرد تخمينات تتضاءلُ أمامها الأغاني. أحياناً، يُشهر علينا إلياس ابتهاجَهُ "يا عَرصْ". "اللّهم صلِّ على النّبي". ضحكات يسلمها الهواء إلى الهَواء، منْ أعلى فتحات النوافذ.

في عمق البلْقاء تظهر السَّلط. مدينة سماويّة تحتضنها الأعالي منذ العهود السحيقة. بُنىٌّ مفتوح ما زال يحتفظ بما استودعه العمُّونيون فيهَا منْ أنفاق سريّة وأقواس. والأشجار المُتضامنة في خُضرتها بكثرة المياه تنشرُ العُروش. هنا كان أنبياءٌ يمْدَحون سماءَهم من غير عُسْر، وقبْرَا يُوشَع و شُعيب نخلتان مُهاجرتان بين لغات عبَرتْ من المغيرين إلى المقيمين.

لا تتوقف السيارة، فهي إلى الأفُق الأوّل تتجه. والطريق تطول وتنْخَفض. لمْ يبق بعد السَّلط إلا الاقترابُ من الحدود وأفُق فلسطين. بعد لحظات سنكُون في ذروة الهَلاك. تتسارع دقاتُ القلب مع الطريق التي تنخفض وتنخفض بين مَسالكَ تستقيم. الأفق يتّضحُ وللأنفاس زَوَغانُها. أحدق بابتسامة ثابتة وأقول : هناك طيوبُ فلسطين، وهناك أطفال الانتفاضة. الأيدي بحجَارتها. أمهاتٌ يؤازرْن الأطفالَ أو يَتجاوبْن في ندب مَنْ يموت منْ بينهم. نحن، إذن، قريبون من هناك. قريبون جدًّا. أتشبثُ بالأفق ويداي متوترتان. وحتى عنْدَما ندنُو من منخفض غير متوقع يظلّ الأفق يَقظاً. لن يتمنّع عليَّ ذلك الأفق. إنه ينسلُّ إلى دواخلي المعتمة التي لا أتكهن بمقدار هَلاكِها. وديانٌ تترسَّب في ذاكرتي. والسيارةُ تنخفض.

وشْوشةٌ مترنِّحةٌ تنتزعني من المكان والكلام. ما ترتعش به أعضائي محجوب ٌعني. ألَمٌ يتعرَّى وألـمٌ يتهجّج. ما أراه يُغافلني ويَنْحدر مدفوعاٌ برغبة الارتطام بشُعَل السريرة. منتصف النهار، في جهة الأفق، يَفْقد توازنه. لو كنتُ منهمكاً بأفق آخر لما حلّ بي دبيبُ سعار. منْ حلْقَة إلى حلقة أنزل بطيئاً وخفيفاً. أتركُ اليدين لرعْب قادم، رُعْب أن  ترى كلَّ ما قرأتَه و تخيّلتَه عن فلسطين دفعةً واحدة. بلا هوادة. حدُّ الشفرة. لا تُكذّبْ بعْدَ الرؤية. لا تعتقدْ أنها مجردُ لغة. تَنفُّسٌ مُجهَدٌ والطريق طويلة، يتجدّد طولُها مع السّماء المكتملة في الأفق.

بصعوبة أتجنّب الأفكار. أهَبُ حواسِّي بحَالاتها إلى صمْت سيّدٍ فيه ينبسط سُعاري. وذلك الدفءُ حول العينين لا يُغادرني. إنه يتمدّد سَحابة كثيفة. أتجنّب التخاذلَ أيضاً وأفْسحُ للْمسامِّ  أن تتشرَّب هبوبَ اللّفحات. موجاتٍ، موجات. الأعضاءُ متساويةٌ في الزمهرير. واللفحاتُ حادة من كهْفٍ متحرّك. نفَسٌ لجحيم الأزمنة. حمّى خاترة يعجز كل نبات عن تخفيفها. تختلطُ عليَّ الحواس. والصمتُ يستقرُّ في مكانه. يسْهَر حتّى يتعلَّم أن يسْهَر.

معَ أيّ خَالق سيتحدَّثُ صمتي ؟ أنا هناك، إذن، أنا لستُ هناك. ضرباتُ الصّمْت تنْتظمُ. والخالق في كهْف مَا، لتطيرَ النظراتُ إلى أفُقها، ضوءً أو هواءً. ذلك الأفُق يبْدُو لي مُرتعشاً من شدّة الصّحْو. ينقبض السكونُ وينبسط. أفراسٌ يتسابقْن في مَدًى. ومحمود قد لا يعُود. وأنا متورّطٌ في هذا النزول، مُحْتمياً من تأويل مَا لا أحدِّده، ولو بصدْمَة. أنزلُ بنشْوة مَنْ يسْتسلمُ للأفُق. قريباً، ومأهولاً بسُلالةِ الكنعانيين.

- توقفْ، يا بكر، قال محمود.

- هذا هو الجسرُ، قلتُ.

- يبدو أنه ممنوعٌ تماماً، قال إلياس.

جميعاً نزلنا لنستفسر الجنود الأردنيين.

- من فضلكم، نحن نريد العبور إلى النقطة المقابلة من الجسر. ومعنا تصريحٌ، قال محمود.

- واللهِ متأسف. هذا الجسر لا يعبر منه أحد، قال الجندي.

- ما فيشْ عبور ؟ سأل محمود.

- لا، فيه جسر الحُسين، قال الجندي.

- منَ الطريق الأخرى، نحن نريد الوصول أولاً إلى البحر الميّت، قال بكر.

- إذن، هم هناك. والمسافة بعيدة. لا نرى أحداً منهم، عقّب إلياس.

- المهمّ، هذه فلسطين. هل ترون ؟ هي ذي فلسطين، قال محمود.

- ألا يتركُوننا ندخلُ قليلاً ؟ سألت.

- اتركُونا ندخُل قليلاً، ونعود. نحن شعراء مجانين، قال محمود. واستأنف شارداً : نعدُكُمْ بأن نعود.

- متأسف يا أستاذ محمود، قال جندي آخر.

- خلاصْ، هذه فلسطين. قال محمود.

تثبّتْنا لدقائق في المكان لتستريحَ العين على مدخل فلسطين من هذه الجهة.

- أريحاَ هنَا. وهناك البحر الميت، قال بكر.

أريحاَ. أريحاَ. أريحاَ. ألتجئُ إلى الصّدَى المندفع بعُروق دقيقة. أريحاَ. أريحاَ. أريحاَ. حرارةُ الشمس تستولي على منطقة أريحَا السَّهْلية وتسقط عموديةً بحجْم ستار.

- يَا الله يا السِّي محمد. خلاصْ. سنذهب إلى البحر، وسترَوْنَني  كُلّكم أمشي على الماء، قال إلياس.

5.

ببُخار تكوينها تتبّعْنا أريحَا إلى المكَان الذي نحن ذاهبون إليه على شاطئ البحر الميت. أريحَا. كان المسيحُ غادرها نحو القدس، ومنْ ورائه باتيمَاوس بعد أن شُفِيَ من عمَاه  وآمن.

ونحْنُ في خَلاء صلْصَالي كُنا نتقدَّم.

صمت سديميٌّ يلازمنا. هبّاتٌ تنعقد بفوْضويّة وتلْسَعُ الوجه. أرضٌ منبسطة على يمين الطريق. نباتاتها الخارجة من الأرض لمَّاماتٌ خضراءُ تمتدّ حتى يأسرها الماء. وعلى اليسار كُتل صلصاليةٌ أو محافظةٌ على انحناءاتها.

يبدو أن الخالقَ فرَغ  لتّوه من تَجْفيف صلْصَال هذا الخلاء. ولربما كان  الرَّاعي، الذي يتكئُ على مقربة منْ غَنمه، هو أحدُ أتباع المَسيح. أو عَمُونيٌّ لم يسترح بعد. الصلصالُ لا يستطيع تفادي شمس تنقُصها حكْمةُ الفصول. من بعيد يأخذ الصلصال شكل الجير. أبيضٌ مخلوطٌ بصفرة. شقوقٌ غائرة تسيل نداوة. سحابٌ تهيَّأَ مجْدُه على أطراف السّماء. يتضح الخلاءُ جَافّاً كلما تخطّينا المسافات. والضوءُ الذي ينْفجر على هذه البريّة يكاد يكون بلّوريّاً، يسْكُن هنيهةً ثم يعاود نسيجُه اكتساحَ السطوح كما لو أنه يتمزَّق في شبه هذيان. صلصالٌ يؤاخي  صلصالاً. متغافلاً يعلُو أو ينجرف، ومرتجفاً يُلقي باسترساله على مرأى العين.

ذبذباتٌ متعامدة تتسارع في صدري. بأيّ مقياس أقيس صرخةَ الخلاء ؟ البراكين التي حاصَرتْ هذا الماء أسمعُ هَديرها يتألّق من جديد في أعضائي. لكل انبثاق رجفةٌ. ودمُ الأرض مُرَفْرفاً أراه. ريحُ التكوين ستقود المَاء. من الماء سيخرج الدمُ بجعاً ولَقالقَ تنادي باسْم أموات سيولدون عند اضطراب الحُوت. والخالقُ وهَب لكل شيءٍ نارَه وانصرف. ربما كان منشغلاً بإتمام خلْقه في جهة قصيّة يختلط فيها الأنين بالثناء. انْصرفَ ليترُكَ لنا البياضَ أرضاً وسماءً، أو بقايا مُستنقعات بجوْفها المدنَّس تراود العابرين.

ها أنا أصطدم بهذه الأرض في تكوينها. ألمسُ طريقة البُخار في إنشاء ذاكرة الحلْفَاء والشَّوْكَران. أسكن إلى هذه الأرض الغريبة كأنها بَيتي الذي لم أعثُرْ عليه. شمس تنفصل عن جذور الزُّمرُّد. تراب في الأسفل يتحرر من ظلامه، ويتوقف عند الجانب الأيمن.

هذَا اقْتحَامي أيُّها الخلاء. أسْتأذنكَ في رغبتي القاسية. عندما أشرفتُ عليك تيقّنتُ أنّي مسكون بهلاكي. ولن أتراجَع. وأنتِ أيتُها الروحُ اسْهَري حتي تتعلّمي أن تسْهَري على هلاَكِك لا على خوْفِك. لازمي سؤالي : دم مَنْ هذا الذي يرفرف على أقساط ندائي ؟ تمرّدتُ على الغدْر وسفَالة الوقيعة، وها أنا الآن أسلّم دمي لشفاعة ترتابُ منْ أجَلِها. أستحْلفُ هُبوبكِ أنْ يغمُرني بلا ندَم. وبخارَكِ أن يزْدري ما فيَّ منْ تعَب يستأنف حُروبَه على دمي الوحيد.

أنفُر من البطولة أيّها الخَلاء. والشهادةُ، يوماً بعد يوم، أوسِّعُ لنَفْسي تعظيمَ مثواها.

أيها الخلاءُ، يا خَلائي. غبارُ الزمن ينتزع من أفكاري جَذْوَتها. جعَل الخالقُ منَ الجذوع بشراً ومن النُّواح رحمة. ولا أمجادَ لي في كل ذلك. للسديم أنتسبُ. وهوَّةُ الفَراغ مأوايَ. لن أعثرَ على قساوة روحي. سأختار من الطيوب ما يَصْرفُني عن تدابير غطْرسة أخشاها. وسأترك لجُموحي أن يستقرَّ في المهدّد الذي به يتجدّد مْنفَاي.

أيها الخلاءُ، يا خلائي. ادخُلْ في هَيْمنة وجيزةٍ وعجِّلْ في تسديد طعْنة الهَذيان. سلاَلي طليقة. أنفاسي متحفّزة. أقول لبُخار أريحَا أن يُقْبل صوْبي، وللراعي ألاّ يلتفت إلى نُدوبي، وللتراب أن يعلُو إلَى حَصانَته. ولك أيتها الروحُ زن تعْتقلي خوْفكِ حتى تكُوني مريدةً لمن يخلُو بعُزلته ويَرى بعَماه.

6.

توقفت السيارة فانتبهتُ. بجانبي محمود وإلياس على يمينه . والكلمات المتقطعة التي تبادلْناها، من الجسر إلى نقطة التَّوقف، يصعب أن أتعرّف من خلالها على الحالة التي استحوذتْ على كل واحد منّا. محمد وبكر كانا مُنتبهيْن أكثر منا. ولكنْ، مَنْ بإمكانه أن يُوقفَ اشتغال الدّواخل؟

أجْهل إن كانت حالتي تسرّبتْ إلَى قسمات وجْهي فلاَحظها محمود وإلياس. أنا الآخر تختفي عني حالتُهما، ولن أسأل عن شيءٍ ممّا يكون استبدّ بكلِّ واحد منهما. مجهولُ الدواخل يظلّ مجهولاً على اللغة ذاتها. صمتي قادني إلى ما كنتُ فيه وأنا أرافق تكوين الطبيعة في هذا المسار الصلصالي. لو سالتُ أين كانَ كلُّ واحد منهما وأيُّ حالة تملكتهما لالْتبَستِ اللغةُ على نداءِ الأرض أو على الرغبة في المشي علَى الماء. في السرّ تكتفي الحالات بزَوْبَعتها. والكتابة انجذابٌ إلى حالة جسَد لا ينْسَى ولا يتحكّم في تذكّر ما لا ينْسَى. هناك في الكتابة تتمّ إعادةُ التكوين. إنشاءٌ لبذْخ المحو. لطخاتٌ تستعيد ثنيات الهُبوب.

وأقرأ على لوحة مخطّطة باللون الأحمر:"تمنع السباحةُ بعد الغروب". لم أفهَمْ معنى هذا الإعلان الموجّه للعموم بوقاحة. لم يسبق لي أن قرأتُ إعلاناً كهذا على جميع الشواطئ التي أعرفها. إن شئتَ السباحة، بعد الغروب، لن يحرسَك أحد. أنتَ وحدك المسؤول عن نفسك في حالة الغرق، ولكن من حقّك أن تسبح وتنتعش عضلاتُك بلذاذَةِ دفء ماء تتكتّم نبضاتُه في النهار.

- اسمحوا لي. ما معنى هذا الإعلان؟ قلتُ.

- نحن هنا على الشاطئ المقابل للأرض المحتلة. والمسافةُ على الشاطئين ليست بعيدة. هناك من يستطيع أن يصلَ سباحةً إلى الشاطئ الآخر المحروس من طرف الجيش الإسرائيلي. والإدارةُ، هنا،غير مسؤولة عمّا يمكن أن يحدث. وأضاف محمود الذي كان يشرح :

- ستَروْن. بعد الغروب، ستُحلِّق طائرة إسرائيلية لتُخبرنا بأنهم هناك، يحْرسُون كلَّ شيء.

- كيف أصلُ إلى الماء؟ سأل إلياس.

- أكيدٌ أنك تريد المشيَ على الماء، قال محمود.

- طبعاً سأمشي على الماء، وستؤْمنون بي.

ثم توجه إلياس نحْوي وقال :

- أنت لن تؤمنَ بي، يا عرصْ.

 بسرعة اخترقنا البابَ ونزلنا الدُّرَج، انعطفنا على اليمين. حينذاك قابلتنا بابٌ زجاجية ثانيةٌ تفضي إلى باحة المسْبح، وفي نهايتها منظرُ البحر الميت، هادئاً تماماً.

قال إلياس

- طوبَى لمن آمنَ و لمْ يرَ!

- مِنْ هناك دُرجُ النزول إلى البحر، قال محمد.

تفضلْ يا إلياس. هو ذا البحر الذي كنتَ تنتظره. جرّبْ أوهَامَك وامشِ على الماء. نحن مستعدون  لنؤمن، قال محمود.

لم نتأخر. جَريْنا معاً إلى الماء. إلياس وأنا. سأتطهّر بِغُرفتيْن أو ثلاث. سأغسلُ وجْهي وأطرافي. هذا يكفي. نزعتُ الحذاء والجَوارب. ثم رفعتُ ثوب السروال إلى الركبتين. أدْخَل إلياس قدميْه في الماء. تبعتُه.

- يبدو أن الماء ثقيلٌ ووسِخ، قال إلياس.

- الماء هنا راكِد، قال محمد.

غرفتُ الماء بالكفين وغطسْت فيه وجْهي. فاجأتني الملوحةُ القويةُ، وأحسست بألم في العينين.

- كيف هو الماء ؟ سألني إلياس.

ولأني لم أردْ أن أكونَ وحدي الضحيةَ، أجبت :

- جيد. جرّبْ.

غرف إلياس الماءَ بحماس وغطس فيهِ وجهَه بكامله.

- أيْ. يا ملعون. هذا ماء جيد؟

وضحكْنا جميعاً. مع ذلك صببتُ الماء على المرْفقين وباقي السّاعدين. ولكن حرارة الملوحة في العينين كانت قوية.

- ماء الحنَفية هناك. قال وَاقفٌ بقربنا، وهو يضحك.

- الناسُ تأتي إلى هنا من كل مكان لتُعالج أمراض الجلْد والعَيْنين. هناك من يتحمّل حرارة الملوحة في العينين للعلاج، قال محمد.

بسرعة صعدنا إلى ماء الحنفية. وعلى جلْد الأطراف والوجه بُقعٌ زيتية، ورائحة كريهةٌ لا تفارقنا.

- جربتَ يا إلياس ؟ مشيتَ على الماء ؟ خلاصْ. ضيّعتَ حظّ تجربة المسيح، قال محمود.

- بلَى، مشيتُ على الماء. وأنتم رأيتم ولا تؤمنون، قال إلياس.

- في المنطقة مياهٌ معدنية. والفندق يتوفر على جناح للمرْضى يشرف عليه أطباء، قال بكر.

هذا هو سَببُ طبيعة تكوين الأرض، هنا، بتربتها الصلصالية، والشقوق الغائرة الندّية، والخلاء المستولي على الجهات. إنها منطقة شبيهةٌ بمولاي يعقوب قرب فاس. أرضٌ صلصاليةٌ يتصاعد منها البخارُ في أول الصباح، والنباتات العالية نادرة. في هذه المنطقة أيضاً كان المسيح يُشفي الناس، وفي هذا البحر أيضاً كان يركَبُ السفينة ويعلّم. 



 7.

من الجهة اليُمنى تتحرك أريحَا نحونا ببخار تْكوينها. قدّامنا البحر الميت يطفحُ بالضوء. في منتصف المشهد الشاطئُ المقابل تتعلّقه شرائطُ بيضاء لا تتبيّنَ من ورائها شيئاً. وتصعد الأرضُ. تصعد إلى حيث النشيدُ وديعٌ. صُعُداً تنتقل العين. وبين القمَّتيْن، هُناك، قريباً من الأفق، ترغبُ العين في رؤية القدس. قمّتان متقاربتان. وانحناءةُ للقدس. إنها مسْتُورة. ما بعْدَ الأفق أرضٌ ثم ماءُ البحر الأبيض المتوسط. عبر ذلك الماء كانت مراكبُ الحُجّاج المسيحيّين تصل شاطئَ فلسطين. ومن هنا كانت الجماعات الصهيونية الأولى، منذ 1882، تفدُ لإنشاء المستعمرات. لكل نواحُه أو دُعاؤُه. ونحن ننتظر ونتفقّد مكانَ ظهور الضوء الأول.

لم أحضُر إلَى الماء بغاية توبةٍ أو مغفرة. الأرض لم تتحرّر بعدُ من كثافة بُخار تكوينها. ومدخل الزمن مستور. رؤيةُ العين تنكسرُ أمام صخرة كثافة البُخار. قشعريرةٌ وانتحاب. ماذا لو استلقيتُ على ظهري وانصهرتُ في السماء ؟ أرفع بصري وأكاد. لكن زرقة قاحلة تُمسك بي. حضرتُ من أجل أن أكون هناك حتى تَغْزُوني الطُّيوب. ومواجهةُ ما يغيب عني أقربُ إلى الاحتضار.

سورٌ من بُخار. تنبسط أصابع اليدين وتنقبض. يبتعد عني البُخار وتبتعد عنِّي الأرض التي هناك. بمن سأستنجد في صمتي ؟ بنحيب أو ثناء ؟ بخارٌ صلفٌ حقّاً. سأبحث عن إكليل ومديح للبخار. سأوزّع على أعناق البجع واللقالق طوْقَ الإكليل. والمديحُ تحْتاج رهْبتُه إلى وقُوف. سأقف إذن. على قدمين مُرتجِفتْين، أقفُ. مُنكسراً أمام صخْرة البُخَار. عَذابيَ ألاَّ أرَى. عذابي أنْ أضاعفَ المَديح. وفي داخلي جدولٌ من الجَليل ويَافا. جدولٌ من أريحَا والقدس. هو ذا منبعُ المَديح. عيْني تنكسرُ ثم تتحاشَى إغماضتها.

والبخار منَ الشاطئ المقابل إلى عَتبة الأفُق. ألسنَةٌ رمادية تَمْثُل أمام الرغبة. أنزلُ منْ حلقة إلى حلقة. جدولٌ ملتهبٌ أسمع فيضانَه على خرائب أعضائي. نفَس يذوب ليرتعد. وحمَّاي. آه من حُمايَ في حَضْرة البُخار!

أريحَا على اليمين. قُبالتي القدس. وابن بطوطة لم يمرَّ من هنا. كانت طريقُه أيْسَر عبر غزة أو دمشق. كان يركب مع الراكبين ويقتحم العواصفَ والبخار. يصلّي ركعتين حين يشاء وزوّادةُ الماء لا تُفارقه. وابن بطوطة، الآن، يشمّ طيوبَ الأرض الفلسطينية ممّا ليس لعيني أن تراه من عشب وأزهار وغِلَال. جناحَان عليْهما ضوءٌ من اليُشب واللؤلؤ. هو ذا ابن بطوطة يستفْسرُ عن الأسماء. يظهر ليخْتفي. يقظانَ يُمسك باللجام وجريئاً يرتقى المسَالك.

أريحَا نأى عنها المسيح. أحفادُ الكنعانيين في زمنهم هذا يَسْتعدّون للغروب. جلساتُ القهوة بالهيل قادمةٌ. سيسبّحون ويفترقون. قد يكون الأطفال، في المدينة، موزَّعين على الأحياء الخلفية حيث يُولَدون. منهم من يجْمَعُ الأحجار. منهم من يُجدّد المقَالع. ومنهم من انتَهى من التقنّع بالكوفية منذ الصباح الباكر. طيلة النهار أعاد الأطفال اكتشاف مَا لعَضلات اليدِ من قُوَّة وهي تتوتّر مع توالي رمْي الحجارة على جنود يمْنعُون الأرض عن أهلها.

 فلسطينيو أريحَا يستعدّون للغروب. لقد تعبَ الأطفال من مُداهمَات النهار. والعصْرُ مسقوفٌ بأنين الضحايا ورائحة اشتعال المطّاط. عائدون من الأردن يستعجلُون الوصولَ إلى بُيوتهم. مقاهي النّرد والنرجيلة مُغْلقة. أمهاتٌ في السطوح وعلى أبواب البيوت. عاشقَان يشْربان عصيرَ البرتقال ويستعدّان لاخْتراق الحَاجز. تحياتٌ وأخبارٌ ملفوفة في استعارات موجَزة. عَمّ  يفتش هؤلاء الجنودُ بخوْذَات الحرْب ؟ عنْ منْديل أوْ صُورة ؟ صفّاً صّفاً يقطعون الشوارعَ، وآخرون في المنعطفات. أجراسٌ للصّلَاة والمَاء. جنودٌ برصاص أسلحتهم يترصَّدون ويأمرون.

بُخار مُتماسك في هذَا العصْر. عيني تنكسر أمامَ صخْرة البخار. الكلماتُ غزلانٌ تفترسُها حشراتُ التأمّل. وفي صمتي أفْحصُ دماً يَندفع بين ما يحتشد من زمهرير الدخيلة. تتفسّخ أنسجةُ حفرة الصدر. تَغْرق سفينةُ المسيح. أنا الذي أغرق. لن أتفاوض مع البُخار وأريحَا. أريحَا. أريحا. على الطرف الأقْصى من شمُول الصَّمت وحشْرجَات الروح.

 
8.

 
بداياتُ ظلال أرجوانية شَرعتْ في التكوين على سطح ماء البحر. والشمسُ مستطيلاتٌ من الجَمْر تطفو على الماء كأنها قواربُ قديمة حَان وقت انْبثاقها بطلاء برتقاليٍّ تلمع شقوقُه. قواربُ، خفيفةٌ ومترنحَة، فقدت المجَاديفَ والأشرعة. زرقةٌ تذوبُ بين الدكنة والْتمَاع الأرجُوان. بَابليُّون وفينيقيُّون وكنعانيُّون. ستزعَمُ أنهم تزوَّدوا بجَرار النّبيذ المعتّق وتواعدُوا على اللّقاء عند المذْبَح لنحْر ثورين، قرباناً للضوء والماء.

كتلةُ البخار تتعرّى عروقُها تدريجياً. والصخرةُ التي كانت على طول الشاطئ الفلسطيني اخترقتها أسلاكُ الأرجوان. أرضٌ هادئةٌ على مقربة من القوارب. رماديةٌ تتململ مع هبّات الهَواء السديميّ. من رَحم البُخار تخرج الأرض. بصعوبة تتدلى لتستويَ، تقترب كثيراً من كلامنا، لا لتنصت بل لتشطح. الأرض تمتدّ وتصعد إلى مآذن وأجراس. القدس بيْن قمّتيْن رصِينتيْن. وأريحَا تُسند رأسَها إلى المَاء. والضوء حنَّاؤُها. الشاطئُ المقابل أفراسٌ من الأُرجوان. الصمت يهْصرُ الهضابَ، والصمتُ يمشي علَى الماء.

- معقول ؟ فلسطين على بعد قدمين، ونحن لا نستطيع العبور ؟ قلت. 

- أخْشى ألَّا أعودَ معكم، قال محمود.

صمَتَ لحظة وبعد بُرهة أتمّ حديثه :

- وقتُ القهر لم يأتِ بعْد. عندما تُوقَد أضواء فلسطين سننهزم. ولكن تعرفون ما سيقولونه عني إن أنا لمْ أعُدْ معكُم ؟

- مَاذا سيقولون ؟ سأل إلياس.

- طيّب. يا سيّدي، سيقولون عني إني مجْنون. ألاَ تصدِّقون ؟ قال محمود.

 ثم نادى على محمد وبَكْر وسألهما :

- ماذا سيقولون عني إذا لمْ أعُدْ معكم ؟

- مجنون، قال محمد.

- وأنت يا بكر ؟

- مجنون !

- هل صدّقتما ؟ قال محمود.

- ولكنْ ما معنى مجنون ؟ سألتُ محمد.

- مختلُّ العقل، قال محمد.

- ليس بمعنى شاعر جنونُه هو حبُّ وطنه ؟ استفسرت.

- لا أبداً. مجنون فقَد عقله. أكّد لي محمد.

ظلال الأرجوان تتبرّج وتعْذُب. قواربُ القدماء تتّسع. خلقٌ ينْهض ويتكَاثر. أكاد أسمعُ الراكبين يَصيحون : "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟". وأظن أن هناك آخرين، من بينهم الحبالى والمرضعات، ينظرون إلى تبدّد البخار ويُسْمهون على رؤيتنا جَالسين على بعد قدميْن منهم. رؤوسهم تَنحني على بعضها بعضاً. لعلهم يتهامَسُون : من نكون ؟ ومَن أيِّ زمن جئنا ؟ ولمَ نعبر إليهم بعَطشنا ؟ يلوّحون بقمصان ومناديل. يُلقون بعرُوسَة مع ورْدها إلى البحْر ويُهللون. يتدافعُون لنشُدَّ على أيديهم. ولأجلنا يَتزاحَمُون.

 ظلالُ الأرجوان بدَم الذبيحة. ملحٌ ودمليجٌ معقود بكتَّان أبيضَ، ثم أحْمرَ، والزغاريد. المانعون عنّا العبورَ يعذّبون الخَالق. هو الذي أنشأ وأنبتَ وزوّج وعلَّم ووهَب . المانعُون عنّا العبورَ همُ الذين يدمّرون ويجتثّون ويفرقون ويجهلون وينزعون. بين الخالق ومخلوقِه هذا الحصارُ الطائفُ بالملكوت. بخوْذاتهم وأسلحتهم يترصّدون ويفتّشون. والشاطئ الفلسطيني على بعد قدمين. جمرةٌ تنجذب إلى قعر الماء. لا أحدَ يسبح. عراكٌ يحتدّ بين ألوان تتوجّع أمام القُدماء على قواربهم. والماءُ غطاءٌ لأصوات ملساء. تنعُم وتبرُد. تستديرُ وتنحُفُ. تسْبَحُ وتفتَرق.

ظلال الأرجُوان سعْفةٌ منهُوكة. ينحني الماء منطوياً على بقايا الأصوات والحَرارة. الأرضُ ثابتةٌ والهواءُ فارغ. شذرات أجْنحَة تخْلدُ إلى نهَايتها. صمت سيِّدٌ. صمت.

 9.
 

كلام إلياس أخرجني من الغفوة :

- الضوءُ الأول.

- أين؟ سألتُ.

- هناك. في الوسط ، قال إلياس.

- لنستعدَّ، إذن. نحن بحاجة إلى الصحو الكامل. بعد قليل ، سَننْهزم جميعاً. ستروْن وستتذكّرون، قال محمود.

ذلك هلاَكي. محمود يُتقنه جيّداً. أقساطاً كنتُ أبلُغه وأنا أنزل منْ حلْقَة إلى حلْقَة. الأرضُ السابعة سأطؤُها. سيتوالَى الزمهريرُ في غَفْلة عن أعضائي. وسيخطفُني ملكوتُ الغبار. ذرَّاتُ الضوء ستسْلبُني مقاومةَ مراتب الهذيان. تمهَّلي يا حُمَّاي في غَزْو أشلائي. سأنجرُّ إلى ما هو أبعدُ منْ أنيني. سقوفٌ مفتوحة ستحشُرني في سقوف مفتوحة. وسيُغلق الغبارُ على صرختي. سيشتدُّ دورانُه وسأفقد توازني.

قيامةٌ لهَلاكي. أعمدةٌ وقبابٌ من ضوء سيكون لي فيها مُلازَمةُ الزمهرير. لن أعرف بعدها بأيِّ لسان سأنطق. بنحيب أو ثناء، لا ريبَ. الحلقةُ عليها أمَّة ٌمن إنْس لا يكاد أحدٌ منهم يقترب من شحُوب كلماتي. خلاخيلٌ ودمالجُ يتساقط لمعانُها في حفرة صدري. ستهجُرني أصواتٌ، وأصواتٌ غريبةٌ ستُوغل في مناداتي.

مجهولٌ في مجهُول وارْتعادي. دورانُ الغبار لن يهْدأ في أحشائي. ستطردني نظراتُ الرحْمَةُ ويدَاي ستتقطَّعان. طبولٌ لمأجُوج أوْ يأجُوج. حُبسة لن يقترب منها أحد. صواعقُ تنتصر لهلاَكي. ماء ينقبضُ وينبسطُ. قواربُ تتراءَى وتهْجع. مناديلٌ. قمصانٌ. خلاء. من حلقة إلى حلقة. والهواء فجوة لملكوت الغبار.

 الضوء الأول يُوقدُ في أمكنة مُتناثرة. أريحَا تُعلن عن أضواء كأنها فواكهُ السَّماء. والشاطئُ المقابل سلسلةٌ من الأضواء تكتملُ شيئاً فشيئاً. تضع خطّاً مرتعشا لشاطئ البحر الميت. ضوءٌ يُوقَد. ضوءٌ. إنّهم هناك. في الفنادق والبيوت والمقاهي. إسرائيل ليسَتْ مجرد لغة. الضوء هناك حاجزٌ واحْتلال. يجلسُون على أرائكهم وينظُرون إليْنا. في المكاتب يتأكّدون من حَالة الطّقْس. ومن العلوِّ المناسب يراقبون حركةَ المَاء. لن تعترضَ رؤيَتهُم قواربُ أو غبار. وضعُوا للتراب والماء وثاقاً، أسْلاكاً، وصفارات إنْذَار. أتخيّل دوريات عسكريةً تقوم بحراستها المُضاعفَة. هذه أرض فَصَلوها عن الأرض. فتحُوا كتبَهُم ليقرأوا منْها ما يُلائم. كبرياءً لهم وحسداً لنا. جاؤوا بالعذاب وتَوجَّوه. وضعوا العَلَم والأسلحَة وقالوا أنتِ حُدودُنا. وكلّ حَفيدٍ كنعاني خصّوا لاسْمِه زنزانةً أوْ رصاصاً أو شتاتاَ.

هذه أرضٌ فصَلُوها عَن الأرْض.

وإنّهم لَيقْتُلون.

والضوء يزدادُ انتشاراً. من الماء يركض إلى الشاطئ فالمناطِق المُجاورة. يطول ويرتجف. بياض وصفرةٌ يتمازجان. ظلمة منقّطة بضوء يكتسحُ البعيد. وأريحَا، الآن، قبيلةٌ من ضوء. ظلمةٌ تُساوي بين مَا لاَ يتساوَى في  الارتفاع. ضوءُ الغُرف يتماهَى مع ضوء الشوارع والمآذن والأبراج. والضوء المنحدر، هناك، يمنح بانحرافه للمسافة حركيةً تكشف عن الطرق المؤدية إلى أبواب المدينة. سيارات ستصلُ إليها بعد لحظات، منْ جهة أجهلها. لكن المسيح قد يكون من هناك عبَر، بين الأخاديد. وابن بطوطة اختار عَسْقلانَ فالرمْلَة فنَابُلس. منها غادر القدس متوجّهاً إلى دمشق. ولن أسلكَ الطريقيْن معاً. أنا، هنا، على شاطئ البحر الميت في الأردن. إنها نهايةُ اقترابي من طيوب فلسطين. الماء أو الجسر نهايتي.

- انتبهُوا إلى ضوْء القدس، قال محمود.

القمّتان سوادُ ضرْبةِ فرشاةٍ صينيّة. لطخاتٌ تسيلُ في فضاء الليل. والضوءُ يعلو. يقتحمُ المنحدَر ويعلو. ينقّط حواشي الظلمة  ويتعلَّق فيها. هي ذي السّماء تتشرَّب آخر بُقَعها الأرجوانية. ونسيجُ الأفق خالصُ الصفاء. الضوء حُبيْباتٌ من البلور، تشعُّ في مخابئ عديمة الرائحة.

القدسُ بأطيافها تقترب منَّا. تتجمّع في ضوء هُتوك وتميل نحونا. أطراف مجوَّفَةٌ تلتحق بغيرها. أضواء تغلب وَهَنَ المسَافات. وغنبازاً يتفتّح الضوءُ بأسراره الفاتكة. عهود من الضوء.

والقدسُ ضوءٌ يتبقّع في الأفق. عناقيد متعالقة في تطويق أحْلافها. والمنحني يخفي أضواءً أتقدَّمُ بالحواس إلى طبقات أجراسها. ضوء لعُلوِّ هذه القدس التي لن أزورها، وأنا هنا. ضوء يستأثر بصَدْرك ووجهك حتى تنسَى هندسَة ما تبقَّى من مُدن الأرض. ضوءٌ لقسْطِك المُحَرَّم. ضوء علِّق علَى خشبة.

 القدس هناك. وهذا الضوءُ آية. اطْوِ خريطَة الكُتب واتّبعْ خريطة الضوء. مسالكُ الضوء مطيعةٌ. عُلوٌّ ينْحدِر في صحن منَ الضوء. سفينةٌ لعُبور الحلم وحُرَّاسه. مهدٌ لأحفاد الليل والنهار. والقدسُ، بين قمتيْن هادرتيْن، تكتمل في ضوئها وتتابع النزولَ إلى الماء.

 القدس. القدس هناك. ضوءٌ في الأَعالي، مُعلَّقٌ علَى خشبَة.

 من حُفرة صدري تنقذفُ صرخةٌ تتعاظم وتتعاظم وتتعاظم. صرخة لدمي كله تُمزّقُ قصَبةَ الحلق، تُفتّق عضلات العُنق وتَقْتلعُ اللسان. سقف الفم  يتشظَّى. والصرخة عساليجٌ من نيران نفَس مُحمَّى. يتلوَّى جسدي ولا تنْتَهي الصَّرخَة. أرتطم بالإسْمنت وصَرْختي تتعاظم. قفصُ الصّدر يتصدّع والرئتان. عضلاتُ الأطرف في أقْصَى توتّرها. صرخة، لتسَمُّم الرئتين، تهجُم منْ أزمنةٍ بها كان جسدي يتنفَّس ويَرى.

أناشيد الضوء تهُبُّ على صرختي بطيوب يصْعُب تحديدُها. قد تكون تسلّلت من نافورة "الكأس" أمام المسجد الأقصى. ضوءٌ بأطيافه يهبط رَاضياً. وعلى بُعد قدمين من أصابع يدي ينْحَبس. بين يدي وبين الضوء قليل من الماء. تطول يدي أْلْفَ ذراع والقليلُ من الماء يكسوها.

هذه الأرض مرآتي. ليسَتْ مجردَ لُغة. أطردُ آخر قطرات اطْمئناني، نشيداً أو قناعاً، لأمتلئَ بدم الضوء. هذه الأرض مرآتي. لم أولَدْ فيها. ولكني في فاس عاينتُ انتسابي إليْهَا. هنا كان مولدُ نُسْغي. زيّنتُ رأسي بعِمَامَة خضراء، وشطحتُ يوم اكتشفتُ أنّ هذه الأرضَ نُسغي.

 دمُ هذه الأرض، من الأنبياء إلى الشهداء، أحفاد الكنعانيين. أيها القدماء. منذُ طفولتي انتسبْتُ إِليْكُم. جرّبتُ أتباعا. واعْبُروا إليّ. الضوءُ يقيني وهَلاكي.

قليلٌ منَ الماء. صرْخَتي لهذا القَليل الذي يمنعُ الضوْءَ عن يديَّ. بين يديَّ والضوءِ حواجزُ، علَمٌ وأسلحةٌ، دمٌ ونار. أتوا ليفْصلُوا هذه الأرضَ عن الأرض.

صَرختي لهَذا القليل من المَاء، القليلِ الذي يلمعُ كالشَّفرة. والقليلُ يدوِّي برعبه الذي لا ينحَدُّ. سورٌ بعد الضوء الذي به أكون. تنْكَسر أصابعُ يدي. وضوءُ القدس معلَّقٌ علَى خشبة.

أصَابني الضَّوْءُ حين هزَّني وألقاني على الإسْمَنْت. لا نحيبَ ولا نَحيب. صرخةٌ لأمدٍ عظيم منْ سَواد المَاء إلى سَواد السَّماء.

وابنُ بطوطة استراحَ تحْت سقْف مُمَوّهٍ بالضوء. تقوده الفوانيسُ من رُخام إلى رُخام. محْرابٌ وشبّاكان. فناءٌ حجَري يلخّص جغرافيةَ السّماء. أعمدةٌ للضوء والهوَاء. الجهةُ الشرقية وبطنُ الوَادي. قبرُ مريمَ والمسيح.

يا ابنَ بطوطة لا تُسرعْ. أبو عبد الله بنُ مُثْبت الغرْنَاطي يفتّش عنْك في "العطّارين". سيصلُ بعد قليل مع الحُجاج النازلين من بيت لحْم إلى القدس. رافقْه إلى "باب السلسلة" لتشربَ من "سقاية النجّارين". ثم أخلُدْ، يا ابن بطوطة، إلى خَلْوتك مع المحْجُوب،  هناك في الضوْءِ والرحْمَة.

من هدوئكَ، ستَرى يا ابن بطوطة، كيْفَ أصابعُ يدي تنْكسر على هذا القليل منَ الماء. أصابعُ يدي رُؤْيَاكَ، الليلةَ، فلا ترتعبْ مثلي. صرختي طُفْ بها على الأسْلاف وأنتَ تنزل دُرجَ "بئر إبْراهيم". دُلَّها على "جُبّانة" عسْقَلان. ولا تُلق بها إلى القَليلِ منَ الماء. فهُمْ هُناك. وإنّهُم ليقتلون.

صرختي بدَم هذَيانها تُهاجِر.

والنازلون مع الضوء نازلُون. من"درْب الآلام " ينزلون إلى القهوة بالهيل. في صرْخَتي أراهُم. إنّهم هُناك، على الشاطئ الفلسطيني، مُحاصَرون. والضوء مترسّخٌ في اندفاعه. شُعَلٌ وزمهرير. بعين تتحشْرج في الأفق أراهم جميعاً، من الأنبياء إلى الشهداء. شعبٌ من ضوء. وأصابِعُ يدي. وهذا القليلُ من الماء.

لي، الآن، هذا الضوء كلُّه. لن تتقاسمه مَعي لغةٌ. ضوءٌ في الأمْشَاج. ضوءٌ في الدّم. ضوءٌ في الأنْفاس. ضوءٌ في المجْهُول. ضوءٌ في مَا لا يقبَل أن يُكتَب. ضوءٌ في الشهقَة. ضوءٌ في الخَلاء. ضوءٌ في البُعد. ضوءٌ في الصَّمت.

أجلْ، لقَد أصَابني الضَّوءْ.

 
(نص من الأعمال النثرية لمحمد بنيس التي صدرت هذه الأيام في خمسة أجزاء عن دار توبقال، هي : في الكتابة والحداثة؛ الشعر في زمن اللاشعر؛ تقاسم الأيام؛ لغة المقاومات؛ سيادة الهامش.  وتتضمن الأجزاء الخمسة مجمل الكتابات التي كان الشاعر أخذ في نشرها منذ سنة 1981، وتناول فيها رؤيته للشعر كما تعرض لقضايا الثقافة العربية والتجربة الشخصية في الحياة والثقافة).